ملخص
تعد أعجوبة حضارية قاومت عوامل الطمس رغم افتقادها وسائل الحفظ والتوثيق
احتفى أبناء محافظة المهرة واليمن بشكل عام، بيوم اللغة المهرية الذي يصادف الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) كل عام، في محاولة للتعريف بالأهمية التاريخية والإنسانية لواحدة من أقدم اللغات السامية القديمة.
وأعد "مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث" جملة من الفعاليات التراثية والفلكلورية التي تجسد ارتباط أبناء المهرة (شرق اليمن) بهويتهم وموروثهم الإنساني.
وأقيمت فعاليات هذا العام حاملة شعار "لغتنا إرث نصونه لأجيالنا"، بفقرات وعروض منوعة من الإرث والهوية الثقافية المهرية، في قاعة المؤتمرات بديوان عام المحافظة، أمس الإثنين، وتقام فعالية أخرى سيشهدها ملعب الشهيد مخبال، اليوم الثلاثاء.
وعلى رغم كل التحديات يعمل أبناء المهرة للحفاظ على خصوصيتهم وتميزهم بالعادات والتقاليد واللغة حيث خصص الثاني من أكتوبر في عام 2019 يوماً للاحتفاء بها في فعاليات تشهدها مديريات المحافظة تقام في المدارس والأماكن العامة تتخللها رقصات شعبية ونماذج معروضة للعادات والتقاليد.
ويرافق ذلك حملات إعلامية يشارك فيها مئات من رواد مواقع التواصل والإعلاميين والمثقفين والسياسيين في إطار جهود تعريف الأجيال الجديدة بهذه اللغة وأهميتها كموروث ثقافي عريق.
أعجوبة تقاوم الحداثة والعولمة
وعلاوة على لغتهم الخاصة، ينفرد أبناء محافظة المهرة، التي تسمى "البوابة الشرقية لليمن" على الحدود العمانية والحدود السعودية من الشرق، بارتباطهم العريق بعاداتهم الإنسانية وموروثهم التقليدي، كما تتميز بتضاريسها المتنوعة بين الساحل والصحراء والجبال والسهول الخضراء، وهو ما منحها قيمة إنسانية بارزة جعلت منها منطقة تاريخية شهدت أرضها قيام عديد من الحضارات اليمينة القديمة.
وبجهود ذاتية، يبذل المهتمون بهذه اللغة جهوداً كبيرة في تثبيت هذا اليوم لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو" لما سيمثله من تصنيف للغة وصون لها من عوامل الاندثار.
يقول الإعلامي والناشط المتخصص في مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث محمد عبدالحكيم بلحاف، إن اللغة المهرية إلى اللغات السامية الحميرية القديمة التي كان يتحدث بها العرب التي تنسب إلى سام بن نوح.
ويوضح في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أن عمر هذه اللغة يتراوح بين ثلاثة وخمسة آلاف سنة، ولهذا فهي بحسابات الواقع والزمن والظروف الحداثية "تعد أعجوبة ثقافية وحضارية لمقاومتها عوامل الطمس والاندثار وتأثيرات العولمة وبقائها حتى وقتنا الحاضر بفعل تناقلها التسلسلي المتوارث بين الأجيال".
ويطلق مصطلح الساميات أو اللغات السامية على لغات الشعوب التي سكنت قديماً، وتسكن شبه الجزيرة العربية واليمن والحبشة وبلاد الشام والعراق، طبقاً لتقسيم علماء اللغة للفصائل اللغوية في العالم.
يشير بلحاف إلى أن لغتهم التي يقع موطنها جنوب شبه الجزيرة العربية مهددة بالانقراض، "حيث توجد خمس لغات أخرى تصارع من أجل البقاء كلهن من أسرة اللغات السامية الجنوبية الحديثة، لكن المهرية هي أهم هذه اللغات السامية الست وأوسعها انتشاراً، حيث يتراوح عدد المتحدثين بها بين 100 و200 ألف شخص".
ويستدل باللغة الأمهرية السامية التي يتحدث بها الإثيوبيون، هي الأقرب إلى اللغة المهرية من العربية.
الجزيرة العربية وأفريقيا
في دراسة للمركز يؤكد بلحاف أن بعض المصادر التي عنيت بتاريخ اللسانيات والأدب أرجعت اللغة المهرية إلى الحميرية وتجعلها من بقاياها، ومن هذه المصادر تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي الذي قال ضمن حديثه عن مجانسة اللغة العربية لأخواتها الساميات "لم يبق من أمهات اللغات السامية إلا ثلاث: العربية والعبرانية والسريانية. أما الحميرية فقد اندثرت قبل الإسلام غير ألفاظ قليلة، وتولدت منها لهجات مهرة والشحر في جنوب الجزيرة، وقد عثروا من هذه اللغة على آثار من القرن الخامس والسادس قبل الميلاد، وتمكنوا من قراءة الخط المسند".
ويوضح أن مجال انتشارها الجغرافي "لم ينحصر في حدود محافظة المهرة اليمنية، بل تعدتها إلى بلدان مجاورة مثل سلطنة عمان كما تتحدث بها بعض قبائل السعودية في الربع الخالي، وتتحدث بها أيضاً قبائل المهرة في الإمارات وبقية دول الخليج وبعض من دول أفريقيا".
يضيف "كما نعرف، فإن الجزيرة العربية كانت مهداً لكثير من الحضارات العريقة التي توالت عبر العصور مما يعني وجود لغات وإرث إنساني متنوع منه ما بقي ومنه ما اختفى والسبب في اختفائه عدم وجود نظام كتابي لأغلب هذه اللغات فهي في الأغلب لغات شفهية لها لهجات متعددة تحمل سمات صوتية ونحوية وصرفية ودلالية مختلف بعضها قليلاً عن بعض".
من العزلة إلى عوامل الضعف
تفسيراً لمقاومة اللغة المهرية لعوامل الاندثار في مقابل اختفاء كثير من اللغات والحضارات القديمة، لدى بلحاف تفسير من نقطتين هما: اعتزاز قبائل المهرة بلغتهم التي يتناقلونها شفاهياً أباً عن جد.
والعامل الثاني يرجع إلى حالة "الانعزال الذي عاشته المهرة في القرون السابقة، وكان له الدور في حفظ عناصر اللغة المهرية عند القبائل المتحدثة بها".
ومع الاختلاط الإنساني والحضاري الحاصل في الوقت الحاضر "نجد الكلمات العربية تفرض نفسها على المتحدثين باللغة المهرية، وذلك بسبب التمدن والاختلاط بالثقافات واللغات الأخرى في العقود الأخيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الشأن يرجع إلى دراسة أعدت حولها منها ما نقله على لسان "جانيت واتسون" أستاذة اللغات بجامعة ليدز البريطانية، التي قالت إن اللغة المهرية ضعفت مع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة والتوسع في استخدام اللغة العربية بخاصة منذ سبعينيات القرن الماضي.
تضرب بذلك مثلاً في اسم "بعير" في اللغة المهرية وهو نوع من الإبل له معنى إيجابي عندما يستخدم ككناية لوصف الرجل قوي البنية.
وهذه المعاني على حد قولها تأخذ في الاختفاء في مجتمع ضعفت صلاته بالطبيعة وبالحيوانات التقليدية التي كانت يوماً ما جزءاً من هذه الطبيعة.
ولهذا لا يخفي المهريون خشيتهم من التأثيرات المتسارعة التي تتهدد لغتهم، ومنها ما يلخصه بلحاف في نقاط منها، عدم اهتمام الجهات الرسمية والحكومات المتعاقبة والمنظمات الدولية بالشكل المطلوب، وربما يعود السبب إلى الصراع المسلح الدائر في البلاد ما ضاعف حالة تجاهل الجهات المعنية المحلية منها والدولية للحفاظ على هذا الإرث.
من العوامل الأخرى عدم وجود نظام كتابي يسهم في استخدام اللغة المهرية في التواصل الكتابي والرسائل.
الكيبورد المهري
وفي سبيل مواجهة تلك التحديات يؤكد أن مركز اللغة المهرية اقترح إنشاء نظام كتابي يعتمد الرموز العربية مع تمييز الحروف الزائدة في المهرية برموز خاصة، وقد حول هذا الاقتراح بعد سنة من طرحه إلى برنامج يعرف بـ"الكيبورد المهري" ويستخدم حالياً في الحواسيب والجوالات.
وفي فبراير (شباط) عام 2020 تم إطلاق الكيبورد المهري الذي تتشابه أحرف لغته المهرية بأحرف اللغة العربية، لكنها تزيد عليها بخمسة أو ستة أحرف هي (الضاد الجانبية الشين الجانبية القاف المحلوقة الصاد الاحتكاكية وغيرها).
لفظاً ودلالة
عن أوجه التقارب بين اللغة المهرية واللغة العربية، وفقاً للباحث بلحاف "هناك تقارب كبير ومعظم الأفعال في اللغة المهرية متقاربة مع العربية الفصحى لفظاً ودلالة على سبيل المثال فعل "سكۇب" باللغة المهرية يعني فعل "سكب" في اللغة العربية وفعل "خرۇچ" بالمهرية يعني "خرج" بالعربية وكذلك الأسماء على سبيل المثال ألفاظ الأسرة "حيب" بمعنى أب و"هام" بمنعى أم.
وبحسب النقوش المكتشفة في وادي المهرة وجبالها تظهر الأحرف السبئية الحميرية القديمة، ويرجع المؤرخون إلى أن اللغة المهرية كانت تكتب بالرموز السبئية القديمة.
منذ أكثر من 10 سنوات أصدرت منظمة اليونيسكو أطلس لغات العالم التي تواجه خطر الاندثار، ومن بينها المهرية.
والقاسم المشترك بين كثير من اللغات المهددة بالانقراض هو أنه ليس لها أبجدية مكتوبة أي إنها لغات محكية فقط.