ملخص
مسرحية مقتبسة عن نص الإسباني إنريكي بونثلا تهدف إلى الارتقاء بالهزلي
لم تنحسر الكوميديا في مصر، كما يشاع، فهي فقط تتوارى خلف فن الاستظراف، فيظن صناعها أنهم أصحاب خفة ظل، ويتحول الظن إلى ثقة عندما تروج أعمالهم وتجد من يقبل عليها، فيواصلون الخلط بين الكوميديا في معناها العميق، وبين الاستظراف، الذي يكتفي بالوقوف عند السطح، من دون أن تكون لديه القدرة على النفاذ إلى العمق.
في العرض المسرحي الكوميدي" بعيد عنك"الذي قدمه مركز الإبداع في القاهرة، تحت إشراف المخرج خالد جلال، تجلى ذكاء كاتبه ومخرجه محمد عبدالستار، في أمرين، الأول في اختيار النص وكيفية التعامل معه، والآخرفي اختيار الممثلين.
النص مستوحى من مسرحية "ليلة ساهرة من ليالي الربيع" للكاتب الإسباني إنريكي بونثلا (1901-1952) المعروف عنه ابتعاده من الفكاهة التقليدية، واتجاهه إلى كل ما هو ثقافي، ولا منطقي وغير قابل للتصديق، متجاوزاً بذلك كل ما هو مألوف وتقليدي في المسرح الإسباني. احتفظ مخرج العرض ببعض الشخصيات، وبطبيعتها وتفاصيلها في النص الأصلي، وأضاف أخرى، واختزل كثيراً من الأحداث، وصاغ نصاً قصيراً في فصل واحد (النص الأصلي ثلاثة فصول)، لم يبتعد كثيراً من نص بونثلا، ولا من رسالته، وإن جاء نصه أكثر اتساقاً مع الواقع المصري، والتصاقاً به، وتعبيراً عن أحواله.
في نص بونثلا تدور الأحداث، خلال الفصلين الأولين، في حجرة نوم الزوجين، ويدور الثالث في حجرة مكتب الزوج، بينما تدور الأحداث في "بعيد عنك" في حجرة نوم الزوجين، التي التزم المخرج في تصميمها ماجاء في النص الأصلي.
عتبة أولى
"بعيد عنك"هو عنوان لإحدى أغنيات أم كلثوم (تأليف مأمون الشناوي، وألحان بليغ حمدي) وكأن المخرج اختاره كعتبة أولى لعرضه، يشير من خلالها إلى أن هذه الزوجة المتذمرة من حياتها مع زوجها، لاتطيق الابتعاد منه حتى لو طلبت هي ذلك.
يبدأ العرض بمقطع من الأغنية، بينما الزوج في سريره يحاول النوم لارتباطه بعمل صباحي، فيما الزوجة تبكي وتمنعه من النوم. يحصل نقاش بينهما، تفضي الزوجة خلاله بمشاعرها تجاه الزوج، مؤكدة أنها لاتحبه، وأنها أخطأت عندما رفضت أكثر من شاب، أفضل منه، تقدموا للزواج منها. لكنها ارتبطت به هو، لكنه غير جدير بها، منشغل عنها دائماً بعمله، فضلاً عن شكها بوجود علاقة بينه وبين إحدى الجارات. حديث معتاد يدور في أغلب البيوت. وينتهي النقاش بطلب الزوجة الطلاق والإصرار عليه.
يخرج الزوج لإحضار المأذون كما ادعى، ويتسلل أحدهم إلى غرفة نوم الزوجة عبرالنافذة، يخبرها، أولاً، أنه لص جاء ليسرق البيت، ثم يتراجع ويعترف لها بأنه جاء ليأخذ قسطاً من النوم، لأن كلبه ينام في سريره، ولا يجد هو مكاناً ينام فيه. تأنس إليه الزوجة، وتحدث مفارقات كوميدية عدة، كأن يتقمص الرجل دور سباك جاء لإصلاح دورة المياه الملحقة بحجرة النوم، عندما كادت الخادمة تكتشف وجوده في الحجرة، ثم دور محام، وبعدها دور مأذون، حسب ما يقتضيه الموقف.
يعود الزوج إلى المنزل مصطحباً خاله ليفض الاشتباك بينه وبين زوجته، ويثنيها عن طلب الطلاق. الخال نفسه تتهمه زوجته بعدم الاهتمام بها، وإهماله للبيت، وارتباطه بعلاقات نسائية، وغيرها من الاتهامات الزوجية المعتادة. يتدخل في الأمر حارس الأمن، وابن خالة الزوجة، وكذلك الخادمة، وسط مفارقات كوميدية صارخة، وينتهي الأمر، كعادة الأعمال الكوميدية الاجتماعية، بعودة السلام والوئام إلى الجميع.
روح مرحة
وإذا كان الكاتب والمخرج قد احتفظ بسمات شخصيات الزوج والزوجة والخادمة في النص الأصلي، فقد أبدع في رسم شخصيات الخال وابن الخالة وحارس الأمن والشخص المتسلق النافذة، مما يشير إلى سعة خياله وقدرته على الإضافة. فضلاً عن روحه المرحة التي تجلت في الحوارات الثنائية والجماعية القصيرة والشيقة، المشحونة بالدلالات والمفجرة للضحكات، على مدار الساعة كلها التي استغرقها العرض.
لم تكن الكوميديا مقصودة لذاتها، ولم تأت عبر" الإفيهات" على رغم أن الإفيه حاضر، وبشكل صارخ، لكنه، في أغلبه، كان نابعاً من الموقف، وعبر الخطوط المتشعبة والمتشابكة التي صاغها كاتب النص المصري، مستلهماً روح إنريكي بونثلا، الفكهة من غير ابتذال. هو أراد طرح مشكلة اجتماعية تحدث في كل بيت، لا انتصار فيها لطرف على الآخر، فلكل طرف مشكلاته ونواقصه. وحسناً أن أصر العرض على فكرة التوازن الدقيق التي سار عليها من دون أن ينحاز إلى أحد طرفي العلاقة الزوجية.
لم يقتصر الأمر على مناقشة المشكلات الزوجية فحسب، ففي الخطوط الأخرى التي استدعتها تلك المشكلات، تعرض لفكرة الوحدة التي يعانيها الشخص المتسلق النافذة، وتعدد العلاقات النسائية لدى ابن الخالة الذي يعمل طياراً، وكذلك الخال الذي يعمل في المحاماة، والبلاهة والسذاجة لدى رجل الأمن. كل ذلك حقق هدفين مهمين: خدمة الفكرة الأساسية التي عمل عليها، وتفجير الكوميديا منذ بداية العرض وحتى نهايته.
قدرات الممثلين
لم ينشغل المخرج كثيراً بفكرة الإضاءة. هي في مثل هذه العروض زوائد لا لزوم لها. اكتفى فقط بالإنارة أغلب فترات العرض، وهو اختيار موفق. فلا تغيرات حادة في سياق الأحداث، ولا مواقف تحمل دلالات باطنية تستوجب نقلات للإضاءة. الأمور واضحة وبسيطة ولاتحتاج سوى إظهار الممثلين، في الإنارة العادية، بشكل يتيح للمشاهدين رؤيتهم بشكل جيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأياً كانت طبيعة النص، وقدرة كاتبه على صياغته بتسلسل درامي جيد، وإخضاعه ليناسب البيئة التي يتوجه إليها، فإن نجاح العرض يتوقف على موهبة من يجسدون شخصياته. ربما تكون خفة الظل، وروح الفريق، وسرعة البديهة ، بخاصة في ظل تشابك الأحداث، هي أبرز ما ميز ممثلي العرض، الذين تمرسوا، في مركز الإبداع، على لعب الأدوار كافة، بوعي وحرفية.
هدير الشريف، محمد الدمراوي، ريهام سامي، أمجد الحجار، عبدالعزيز حسين، أحمد الشاذلي، وليد عبدالغني، سبعة ممثلين اختارهم المخرج بعناية، طاقات كوميدية غير محدودة، لا أدوار رئيسة، ولا مساحات منفردة، باستثناء الزوجة (هدير الشريف). لعبوا أدوارهم في تناغم شديد، وتعاون واضح، من دون سعي أحدهم إلى الاستئثار بمساحة أكبر على حساب غيره، أو محاولة سرقة الكاميرا، وهي روح نفتقدها في مثل هذه النوعية من العروض، بخاصة تلك التي تعتمد على أحد النجوم. صحيح أن أغلب ممثلي العرض ليسوا نجوماً بالمعنى المتعارف عليه، لكنهم هنا يقدمون أنفسهم بقوة كأصحاب مواهب لافتة، والأهم أصحاب مواهب تم صقلها ورعايتها بشكل منهجي داخل مركز الإبداع، الذي يطلقون عليه في مصر" مصنع النجوم".