Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من فيينا إلى غرناطة والسبب واحد

186 ألفاً عبروا البحر المتوسط منذ بداية هذا العام وحتى نهاية أغسطس الماضي

 أطفال مهاجرون يجلسون في مركز أبو سليم للهجرة غير الشرعية في طرابلس، 22 فبراير 2023 (أ ف ب)

ملخص

الحل الوحيد لوقف سيول اليأس المتجهة شمالاً نحو الغرب المزدهر هو باتباع سياسات دولية تخلق ظروفاً معيشية كريمة لهؤلاء المهاجرين في بلدانهم

تجتاح العالم ظواهر اجتماعية وبشرية عدة، لكن لعل أكثرها ترديداً في نشرات الأخبار هي الهجرة "غير الشرعية" عبر المتوسط إلى أوروبا وإلى الولايات المتحدة الأميركية عبر الحدود المكسيكية، وتتحدث الأرقام عن موت ووفاة وغرق الآلاف، ولن نعرف بالضبط أعداد ضحايا الموت يأساً عبر البحار، وحده البحر يعلم كم ابتلع من اليائسين الذين دفعهم شظى العيش والفاقة إلى ركوب أهوال البحر على قوارب مصممة لعبور الجداول والأنهار، وليست لمخر عباب المحيطات والبحار. وعلى رأس جدول أعمال القمة الأوروبية التي تجتمع وقت كتابة هذه المقالة في غرناطة بأندلس إسبانيا، موضوع الهجرة وكيفية "التصدي" لها والحد منها.

 في بدايات القرن الماضي، دفع اليأس والفقر والاحتلال الإنجليزي متزامناً مع آفة دمرت محصول البطاطا في إيرلندا لسنين ملايين البشر إلى عبور المحيط الأطلسي حيث "الحلم الأميركي" والعيش الرغيد، وكانوا من اليأس أن ركبوا قوارب لعبور أكثر المحيطات قسوة وهيجاناً، سماه العرب "بحر الظلمات"، وسمى الغرب المحيط الباسيفيكي، أي الهادئ، باسمه لهدوئه مقارنة بالمحيط الأطلسي. كانت قوارب بائسة كيأس أهلها غرقت معظمها وسميت "قوارب الأكفان" coffin boats. قاتل الله اليأس كم دفع الملايين إلى ركوب الأهوال بحثاً عن لقمة العيش وتحسين الحال!

 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان أكثر من 50 مليون أوروبي يجوبون القارة بلا هدف ولا مأوى ولا أمل، ملايين من النازحين والمهجرين واليائسين، بولنديون طردهم الألمان والروس، وألمان طردهم البولنديون والفرنسيون والهولنديون والبلجيكيون والتشيكيون والروس، وروس طردهم البولنديون وآخرون، وهكذا! فوضى نزوح لا تتوقف ويأس يتفاقم، يأس جعل المهجرين يتمنون الموت ويحسدون من ماتوا خلال الحرب العظمى الكارثية التي تجاوز قتلاها 60 مليوناً وأكثر من ذلك من الجرحى والمعوقين. ونتيجة ذلك، وقع الغرب اتفاق فيينا للاجئين عام 1951 الذي بموجبه تم قبول اللاجئين وتسكينهم وتوطينهم وتشغيلهم في المشروع الهائل لإعادة بناء أوروبا "مشروع مارشال"، وكانت تركيا وإيران ولبنان والأردن من بين الدول التي وقعت على ذلك الاتفاق.

يذكر أن أياً من دول الخليج العربي لم توقع على الاتفاق لأسباب يطول شرحها، لكن دول الخليج جميعاً استقبلت وتستقبل اليوم ملايين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين وآخرين يعيشون بيننا بلا منة مثل أي مقيم آخر يعيش في دول الخليج. كانت أعداد الفلسطينيين في الكويت قبل الغزو العراقي عام 1990 هي الأكبر بعد الأردن، وبلغت نصف مليون تقريباً يعيشون في بحبوبة نسبية من العيش إذا ما قورنت بمعيشة إخوتهم في لبنان والأردن وسوريا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تذكر مصادر الأمم المتحدة للاجئين أن 186 ألفاً عبروا البحر المتوسط منذ بداية هذا العام وحتى نهاية أغسطس (آب) الماضي، بعضهم حاول عبور القنال الإنجليزي للوصول إلى بريطانيا فاعتقل ورُحل إلى رواندا أو وضع في سجن عائم عند القنال الإنجليزي، وبلغ عدد من عبروا الحدود الأميركية- المكسيكية حتى أغسطس الماضي مليونين ومئتي ألف من أميركا اللاتينية بحثاً عن أي أمل في الحياة الكريمة، وما زالت أعدادهم تنهمر على الولايات المتحدة الأميركية التي تتزايد فيها الأصوات العنصرية والمناداة ببناء حائط بينهم والمكسيك.

يجد اليمين السياسي في العالم، وفي الدول الغربية تحديداً، مادة لكسب الشعبية الانتخابية بمعاداة الهجرات نحو بلادهم، وقد اتخذت حكومات مثل اليونان وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية إجراءات تتناقض مع المبادئ التي تنادي بها في ما يتعلق بالهجرة وحقوق الإنسان، ويقفون اليوم أمام مفترق طرق، كيف يمكننا وقف الهجرات المتدفقة بوسائل ناجعة تحد من هذا السيل العرم بطريقة جذرية؟ آخر ما تفتقت به ذهنية المجتمعين في غرناطة هو تمديد مدة احتجاز المهاجرين على الحدود! أي سياج بشري يرسم الحدود يتعمق ويتسع لكنه لن يحل المشكلة.

إن الحل الوحيد لوقف سيول اليأس المتجهة شمالاً نحو الغرب المزدهر هو باتباع سياسات دولية تخلق ظروفاً معيشية كريمة لهؤلاء المهاجرين في بلدانهم، أي إن الحل هو بتجفيف منابع التهجير في بلدان الهجرة بتبني "مارشال أممي" عموده الفقري التمويل الغربي والحد من جشع الشركات، بخاصة الغربية منها باستنزاف خيرات شعوب دول التهجير، وخلق حال من الاستقرار السياسي والعيش الآمن في دول مثل العراق وأفغانستان وإيران واليمن وسوريا والسودان وليبيا وتونس وجل أفريقيا الصحراوية التي تتدفق منها هذه الهجرات. فالعمل بموجب اتفاق فيينا أصبح مستحيلاً كما نرى ببناء الحوائط والتهجير القسري واللامبالاة لغرق المراكب المطاطية وقوارب أكفان الموت.

 قد يقول قائل إن في مثل هذا الحل طوباوية مثالية، لكن البحث عن بدائل له هو دعوة إلى استمرار اليأس، بالتالي دفع الملايين إلى الهجرة من دون هوادة، فمن لا يملك الأمل، لا يعرف الصبر ولا يهتم لاتفاق فيينا ولا لاجتماع غرناطة.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء