بموازاة المعركة السياسيَّة التي يخوضها النظام الإيراني مع العقوبات والحصار الأميركي الخانق اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً، توجد معركةٌ من نوعٍ آخر يواجهها النظام، لا تقل أهميةً عن المعركة الأولى، وقد تُشكل مؤشراً على مدى تأزم وتصاعد الصراع الداخلي، وهي المعركة التي تشهدها أروقة المؤسسة الدينية التي تشكل إحدى الرافعات الأساسية لسلطة النظام، إلى جانب المؤسستين العسكريَّة والأمنيَّة، على خلفية طرح أحد رجال الدين البارزين في الحوزة الدينية في مدينة "قم" نفسه للتصدي لموقع "المرجعية الدينية" من خلال نشر "رسالة علمية" حول آرائه، فيما يتعلق بالمسائل الفقهيَّة والتشريعيَّة.
"معركة المرجعية"
المعركة "الدينية" أو معركة "المرجعية" تصدى لها رئيس السلطة القضائية الأسبق محمد يزدي الذي يعتبر من الشخصيات الأكثر تشدداً في تركيبة السلطة والنظام، وهي لم تكن الأولى، بل سبقتها معارك أشعلها يزدي ضد الرئيس الأسبق الراحل هاشمي رفسنجاني بعد الأحداث التي شهدتها إيران عام 2009، وإعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد لرئاسة الجمهورية على حساب مير حسين موسوي، التي كشفت حينها (الهجوم على رفسنجاني) وجود نية لدى السلطة الحاكمة بتحجيم دور ونفوذ رفسنجاني تمهيداً لإخراجه من دائرة القرار، وقد فاقم من هذا التوجّه نتائج انتخابات مجلس خبراء القيادة الأخيرة التي انتهت بتسجيل فوزٍ ساحقٍ لقائمة المرشحين التي ترأسها رفسنجاني في طهران على حساب قائمة النظام، وأدت إلى سقوط مدوٍ لاثنين من أقطاب التيار الديني المتشدد هما محمد يزدي ومحمد تقي مصباح اليزدي، وهي خسارة اعتبرها مرشد النظام "قاسيةً"، في حين فاز آية الله أحمد جنتي بطريقة جدليَّة وإشكاليَّة بعد أن كان من الخاسرين.
"محمد يزدي" يبدو أنه أخذ على عاتقه أن يكون رأس الحربة عن النظام في معركته مع رجال الدين المعتدلين أو الإصلاحيين أو غير الخاضعين لرؤية النظام في "تسييس المؤسسة الدينية والمرجعية"، انطلاقاً من موقعه على رأس مؤسسة جمعية مدرسي الحوزة الدينية في قم.
من هذا المنطلق لم يكن مستغرباً عليه ومنه أن يشن هجوماً قاسياً على أحد مراجع الحوزة الدينية هو "آية الله شبيري زنجاني" المحسوب على المراجع الإصلاحيين على خلفية لقاء جمعه مع الرئيس السابق محمد خاتمي وبعض رجال الدين الإصلاحيين، وطالبه يزدي بضرورة "رعاية الشؤون الدينية"، ما يعني أن اللقاء مع هذه المجموعة حتى وإن كانوا رجال دين، فإنها تتعارض مع المعايير الدينية والشرعية التي تحددها المؤسسة الدينية الرسميَّة بحيث تكون منسجمةً مع مواقفها السياسية. وقد برزت هذه المواقف بشكل واضح عندما طالب يزدي بنزع صفة "المرجعية" عن أحد أبرز رجال الدين الإصلاحيين في قم، وهو آية الله يوسف الصانعي بسبب مواقفه المؤيدة مطالب المعترضين على نتائج الانتخابات الرئاسية، ومواقف مير حسين موسوي.
عودة الصراع
عودة يزدي إلى واجهة الصراع مع "آيات الله" هذه المرة من باب الموقف الحاد وغير التقليدي المتعارف عليه في المؤسسة الدينية الشيعية، خصوصاً فيما يتعلق بآليات التصدي للشأن المرجعي، من إعلان رجل الدين المنفتح آية الله محمد جواد علوي بروجردي تصديه للشأن المرجعي. وعلى الرغم من كون هذا الرجل ينتسب (حفيده لابنته) إلى أحد كبار رجال الحوزة الدينية في قم خلال عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي آية الله بروجردي الذي يعتبر أستاذاً لكبار علماء الدين الحاليين بمن فيهم مؤسس النظام آية الله روح الله الخميني، فإن انتماءه إلى هذه العائلة وجدارته العلمية لم يشفعا له أمام الموقف السياسي الذي انطلق منه يزدي الذي يبدو أنه يحمل على عاتقه مهمة مأسسة تبعية الحوزة الدينية إلى مؤسسة السلطة والنظام بما يتعارض مع التأريخ الطويل الذي ميَّز المؤسسة الدينية الشيعية واستقلاليتها عن أي سلطة حتى ولو كانت سلطة شيعية.
هجوم يزدي على البروجردي ينطلق من أن المؤسسة التي يرأسها لتنظيم عمل مدرسي الحوزة الدينية بذلت جهوداً كبيرة في محاولة "تطويع" المرجعية، وجعلها خاضعة للسلطة السياسية من خلال ربطها مالياً بالنظام والميزانية التي يقدمها لها مقابل عدم الاعتراض على سياساته ومساعيه لتحويل موقف الحوزة يصب في إطار تأييد ودعم المواقف التي يتخذها النظام في السياسات الداخليَّة: الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، وحتى في المواقف الخارجيَّة.
واعتراض يزدي على مرجعية "البروجردي" يأتي من كون المؤسسة المشرفة على الحوزة الدينية استطاعت حصر المتصدين للشأن المرجعي بخمسة مراجع، من بينهم مرشد النظام، وأن أي شخصية دينية تتصدى لهذا الشأن فهي معرضةٌ لحملات من النقد والتسقيط على خلفيات سياسية كونها غير خاضعة لسلطة هذه المؤسسة.
ضبط الإيقاع
النظام الإيراني ومنذ تأسيسه، خصوصاً بعد انتقال مؤسسه الخميني من مدينة قم إلى العاصمة طهران، بدأ بوضع آليات لضبط إيقاع عمل المؤسسة الدينية وضمان ولائها إلى السلطة الدينية التي يقوم على أساسها، وقد اتخذت هذه الآلية وتيرةً متسارعةً بعد وصول خامنئي إلى موقع المرشد، وما رافقها من مواقف إشكالية حول شرط المرجعية فيمن يتولى هذا الموقع، انطلاقاً من إدراك النظام أن أحد أهم مكامن الخطر على شرعيته الدينية والسياسية يأتي من المؤسسة الدينية التي كانت المحرّك الأساس للثورة وإطاحة النظام الملكي عام 1979، وصولاً إلى التدخل في الآليات التي تحدد شروط الوصول إلى موقع المرجعية، التي تتعارض مع الآليات التاريخية لذلك، التي تعتمد على التواضع بين أساتذة الحوزة على علمية الشخص المتصدي والشيوع بين عامة الناس والاعتراف بأهليته العلمية والاجتهادية.
يمكن القول إن المعركة ضد مرجعية البروجردي تنطلق من الصراع بين التقليد والتجديد، خصوصاً أن الأخير مشهورٌ بمواقفه المنفتحة على الجيل الشاب والتقدير للتاريخ الإيراني وموقفه الإيجابي من "قوروش" وانتقاده القرارات الثقافيَّة للنظام والحوزات الدينية وتأييد استقلال الحوزة الدينية عن مؤسسة السلطة، ورفضه تخصيص ميزانية رسميَّة لها من السلطة، إضافة إلى موقفه الإيجابي أو غير السلبي من حقوق الأقليات الدينية، خصوصاً أتباع الطائفة البهائية التي تعتبر "خارجة عن الدين" في رأي النظام الإيراني.
وهي معركة تصبُّ في سياق تصدي النظام للأصوات الدينية المعارضة له، التي برزت مع الراحل آية الله حسين علي المنتظري ويوسف الصانعي وكل المراجع التي يعتبرها النظام مؤيدةً مواقف التيار الإصلاحي.
لا شكّ أن هذه المعارك التي يخوضها يزدي ضد آيات الله، ومعها الأزمة التي تسبب بها مع رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام آية الله صادق آملي لاريجاني على خلفية موقف الأخير الرافض اعتقال مدير مكتبه بتهمة الفساد، تكشف عن وجود أزمة داخل التيار المحافظ وتباين في المواقف والآراء، وهي تشكل تعبيراً واضحاً عن حدة الصراع داخل مؤسسة النظام الدينية والمخاوف التي تعتريها من المرحلة المقبلة أو مستقبل الشرعية الدينية للنظام في مرحلة ما بعد المرشد، وهي معركة مرشحة للتصاعد على أبواب الانتخابات البرلمانيَّة المقبلة، التي بدأت تتضح فيها عمق الأزمة والخلافات داخل التيار المحافظ.