تحدثت السينما عن الحروب منذ اختراعها، فالصراعات الدموية الصانعة للمآسي التي رافقت تاريخ البشرية موضوع يليق بالشاشة وكأنه ولد من أجلها. وللحروب في المنطقة العربية نصيب من الحضور السينمائي، لا سيما تلك التي انبثقت من الصراع العربي - الإسرائيلي الطويل. وفي مناسبة ذكرى مرور نصف قرن على بداية حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي دامت ثلاثة أسابيع لا بد من العودة إلى الأفلام التي وثقت للنصر العربي اليتيم على إسرائيل.
عديدة هي الأفلام المصرية عن حرب أكتوبر التي عرضت غداة نهايتها. هناك في الأقل ثمانية أعمال سينمائية: "الوفاء العظيم" و"العمر لحظة" و"بدور" و"أبناء الصمت" و"حكايات الغريب" و"الصعود إلى الهاوية" و"الممر"، وأخيراً "الرصاصة لا تزال في جيبي" الذي يعد أفضل أفلام حرب أكتوبر وأشهرها، بيد أن هناك عديداً من الأفلام التي أنتجت أيضاً قبل الحرب، واصفة أجواء حرب الاستنزاف التي مهدت لما كان سيحدث بين مصر وإسرائيل، وهناك أفلام أنجزت سنوات بعد حرب أكتوبر، وعادت إلى ما حدث قبلها.
أبرز أفلام حرب الاستنزاف هي "أغنية على الممر" (1972) لعلي عبدالخالق الذي عرض قبل عام من الحرب، وهو من بطولة محمود مرسي وصلاح قابيل ومحمود ياسين، وفيه أفلم المخرج مسرحية لعلي سالم متعقباً خطى فصيلة مشاة مصرية من خمسة أفراد يحاصرون خلال حرب 1967، أثناء دفاعهم عن أحد الممرات الاستراتيجية في منطقة سيناء، رافضين الاستسلام للعدو. ويركز الفيلم على النواحي النفسية والعاطفية للجنود المصريين، فنكتشف من خلالها ما يعانونه من إحباط وما يلازمهم من ذكريات وما يخططون له من مشاريع، إذا ما عادوا من الحرب أحياء. أما "الطريق إلى إيلات" (1993) لإنعام محمد علي، بطولة عزت العلايلي وصلاح ذو الفقار، فتدور أحداثه إبان حرب الاستنزاف، وتحديداً في عام 1969، متمحوراً على غارت شنتها مصر على ميناء إيلات الحربي الإسرائيلي، وأدت إلى تدمير سفينتين حربيتين.
إذاً هناك أفلام تطرقت إلى حرب أكتوبر مباشرة، وذلك بعدما انتهت، وهناك أفلام كانت مهدت لها من خلال تناول حرب الاستنزاف، والأخيرة لم تتردد من استلهام نكسة 67. هناك أيضاً أفلام عما حدث بعد الحرب وعن تداعياتها الاجتماعية، "حتى آخر العمر" (1975)، لأشرف فهمي هو أحدها، عمل خطابي عن النحو الذي ينبغي التعامل به مع مصابي الحرب وعن معاناتهم الشخصية والاجتماعية، من خلال شخصية طيار أصيب بالشلل بعد مشاركته في حرب أكتوبر.
من الأفلام التي تناولت أحداث أكتوبر الصرف، هناك "الوفاء العظيم" (1974)، بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين وكمال الشناوي وسمير صبري، وفيه نقل المخرج حلمي رفلة قصة لفيصل ندا تدور أحداثها حول ضابط جيش يتقدم لخطبة حبيبته، لكن يرفضه والدها بسبب خلافات سابقة بين العائلتين، وهو ما كان يجهلها الحبيبان، فيمنحها الأب بعد ذلك إلى شخص آخر، هو أيضاً ضابط في الجيش. ومن سخرية القدر أنه سيجد نفسه خلال الحرب تحت قيادة حبيب زوجته الأول. تأخذ الأحداث منحى جديداً عندما يصاب الزوج ويتعرض حبيب الزوجة السابق لبتر ساقه خلال سعيه لافتداء الزوج. وأثناء علاجهما في المستشفى، يعلم الزوج تفاصيل علاقة الحب القديمة التي ربطت قائده بزوجته، فيقترح أن ينفصل عنها له، امتناناً لمن أنقذ حياته. تنازله عنها ما هو سوى قطيعة مع الخلافات التي كانت نشأت سابقاً وأنهاها حب الوطن والتضحية من أجله، هذا ما يوضحه عنوان الفيلم، "الوفاء العظيم"، بأسلوب لا يخلو من الميلودراما التي لطالما التصقت بالروح المصرية. وظف حلمي رفلة الحدوتة الرومنطيقية لمقاربة حدث بالغ المأسوية مثل الحرب.
"أبناء الصمت" (1974) لمحمد راضي، بطولة محمود مرسي وميرفت أمين ونور الشريف، لا يختلف كثيراً في خطابه عن "الوفاء العظيم"، لكونه يصور مجموعة من الجنود المصريين يتحدرون من أوساط اجتماعية مختلفة، يجدون أنفسهم في خندق واحد أثناء حرب الاستنزاف ولا يجمعهم سوى هدف واحد ووحيد هو التصدي إلى عدوهم، علماً أن بعضهم كان انخرط في حرب 67، وذاق طعم الهزيمة، فيحاول ما في وسعه كي لا تتكرر التجربة. يصور الفيلم بلوغ حرب الاستنزاف ذروتها، من خلال الجنود الذين يقدمون ملحمة نضال غير مسبوقة، وصولاً إلى يوم عبور قناة السويس في 6 أكتوبر 1973 وسقوط خط بارليف، لكن الهم الاجتماعي حاضر على الدوام، ويكاد لا يوجد فيلم عن حرب أكتوبر لا ينحاز إلى تصوير العلاقات بين البشر وتأثير الحرب في حياتهم، متنقلاً بين الحدث العام والحواديت ذات الطابع الخاص. وعلى رغم ان كثراً من المجندين سيضحون بحياتهم، فإن الأمل لا يغيب عن الفيلم، وهو مجسد في شخصية الصحافية الباحثة عن الحقيقة وسط حقل من التناقضات.
شخصية الصحافية هي أيضاً بطلة "العمر لحظة" (1978) لمحمد راضي نفسه، وتمثيل ماجدة وأحمد مظهر وناهد شريف وأحمد زكي، وهو أحد أشهر الأفلام عن حرب أكتوبر، إذ يتضمن مشاهد حقيقية عنها. هذه الصحافية متزوجة برئيس تحرير يكتب مقالات مليئة بنفس انهزامي بعد نكسة 67، أما هي، فخلافاً له، تحاول بث الشعور القومي ورفع المعنويات. يحملها هذا إلى الانتقال إلى الجبهة، لتشهد على معاناة الجنود هناك، فتتدخل لإيجاد حلول لمشكلاتهم، وعندما تلقتي بضابط مصاب، تقع في غرامه، هذا فيلم آخر، يحاول مقاربة الصراع من خلال قصة تحمل لمسات عاطفية وبعد اجتماعي واضح، بعيداً من الحرب كنزاع سياسي وجغرافي وعقائدي.
في "بـدور" (1974) لنادر جلال، بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين ومجدي وهبة، نتعرف على عامل المجاري صابر والنشالة بدور. يحدث اللقاء بينهما وهي تحاول الفرار من الأشخاص الذين يلاحقونها بعدما سرقتهم. يجد صابر نفسه مرغماً على إيوائها، واهماً جيرانه بأنها على صلة قرابة به. وبعد فترة قصيرة على نشوء علاقة حب بينهما وحصوله على زيادة على مرتبه، مما يشرع أمامه أبواب الأمل، يستدعى إلى الجيش، وتجعله المصادفة (وهي دائمة الحضور في الأفلام المصرية الميلودرامية) يلتقي بلص كان واجهه مع أبناء حارته قبل اندلاع الحرب. ومع نهاية الحرب، يعود اللص التائب، لكن صابر لا يعود، فيروح التائب يروي للجميع بأنه استشهد وهو يقاتل العدو. هل ما يرويه صحيح أم أنه اكذوبة يطلقها؟ هذا ما نعرفه في ختام الفيلم.
في "حكايات الغريب" (1992)، عن قصة لجمال الغيطاني وبطولة محمد منير ومحمود الجندي وشريف منير، تختار المخرجة إنعام محمد علي أن تجسد الصراع من خلال مندوب صحف يشعر بكل ما كان يشعر به الإنسان المصري والعربي في تلك الفترة، وهو اليأس والإحباط كنتيجة لنكسة 67. وهذا ما يجعل بطلنا يختار السلبية في تصرفاته، ويستمر على هذا النحو حتى لحظة عبور قناة السويس في 6 أكتوبر، لكن على رغم مشاركته في النصر، يختفي من بعده، من دون أن يترك أثراً خلفه، مما يدفع بالسلطات إلى تشكيل لجنة لمعرفة حقيقة أمره. يختلف "حكايات الغريب" عن بقية أفلام حرب أكتوبر في خلوها من مشاهد الحرب.
"الصعود إلى الهاوية" (1978) لكمال الشيخ، بطولة مديحة كامل وجميل راتب ومحمود ياسين، فيلم آخر عن حرب أكتوبر، لكن من خلال عالم الجواسيس، فهو يتطرق إلى سيدة تعمل جاسوسة لإسرائيل (جندها الموساد) خلال حرب الاستنزاف. إلا أن ضابطاً مصرياً يكشف أمرها فيستدرجها إلى القاهرة، حيث سيحكم عليها بالإعدام شنقاً. الفيلم مستوحى من قصة الجاسوسة هبة عبدالرحمن سليم عامر (1947 - 1974)، ويستند إلى تقارير استخباراتية. خروجه في الصالات بعد أربع سنوات من إعدامها، تأكيد للسرعة التي كان ينقل فيها الواقع إلى الشاشة في تلك الحقبة.
يصعب الحديث عن الأفلام التي تطرقت إلى حرب 73، من دون ذكر "الرصاصة لا تزال في جيبي" (1974) لحسام الدين مصطفى، بطولة محمود ياسين ونجوى إبراهيم وحسين فهمي ويوسف شعبان، عن رواية للكاتب إحسان عبدالقدوس. تبدأ أحداث الفيلم مع النكسة وتشمل حرب الاستنزاف، وصولاً إلى أكتوبر. عمل غني بمشاهد المعارك، يصور المجند الذي نجا من نيران الطائرات في سيناء، بعدما أنقذه أحد البدو وساعده على الهرب إلى الضفة الغربية للقناة ثم إلى القاهرة. كان هذا المجند شاهداً على مقتل رفاقه وعلى ما ارتكبته إسرائيل في حق الأسرى. الرصاصة التي يشير إليها العنوان هي تلك التي يحتفظ بها في جيبه، كي لا ينسى استرداد ما خسره، وهذا ما يحدث، على رغم كل المآسي والنكبات التي ستحيط به.
تعاملت السينما المصرية مع حرب أكتوبر بقبضات مرفوعة، عارضة بطولات جنودها لبث شعور القومية والوطنية عند الجمهور، وهذا بعاطفية لا مثيل لها، تلامس أحياناً الدعاية الفجة. تشابهت أفلام حرب أكتوبر الوطنية، وغابت عنها محاولة نقاش هذا النصر التاريخي ورصد أبعاده النفسية والسياسية والاجتماعية العميقة، بعيداً من الحكايات الميلودرامية التي تأخذ الصراع كنوع من خلفية لها. نشوة الانتصار أفقدت السينمائيين صوابهم، علماً أنهم من خلفيات مختلفة، فسقط بعضهم في الخطابية والمباشرة والمراهنة على "وطنية" الجمهور المصري. حرص هؤلاء على تصوير النقلة التي حدثت بين الحربين، من حالة اليأس العامة إلى شعور الانتصار المتفوق، مخلدين ذكرى هذه اللحظة المجيدة في تاريخ الأمة. أما الحرب كمشهدية وإعادة احياء لتفاصيلها البصرية على طريقة السينما الأميركية، فالإمكانات المادية الضئيلة والقدرات الفنية المحدودة حالت دون هيمنة هذا النوع من الأفلام التي تمارس تأثيراً أشد في الجمهور. اليوم، بعد مرور الزمن عليها، كثير من هذه الأفلام يبدو فاقدا البريق، ويمكن القول إن عدداً منها لم يشخ بشكل جيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اللافت أن محمود ياسين لعب في مجموعة من هذه الأفلام، وكان نوعاً ما صلة الوصل بين حرب أكتوبر وسينماها. وجد السينمائيون ضالتهم في هذا الذي كان له صوت رخيم وحضور ذكوري سلطوي بجسده الفارع، فأضحى العنصر المشترك في مجموعة من الأفلام التي تستند إلى حكايات تغلب عليها سمات ميلودرامية. وفي هذا الصدد، يشير الكاتب المصري شريف صالح عن حق إلى "مسألة الإتقان اللغوي التي تناسبت مع الحس القومي العروبي، وبفضلها أصبح الفنان القومي العروبي".
تجاهلت السينما المصرية حرب أكتوبر في العقدين الماضيين، إلى أن أطل علينا "الممر" لشريف عرفة في عام 2019، بطولة أحمد عز وإياد ناصر، ولكن كان الزمن قد تغير، والحكايات الرومنطيقية على خلفية حربية ما عادت على الموضة. لذلك ذهب مخرج "الإرهاب والكباب" إلى المواجهات العسكرية الصرفة، آخذاً بيد المشاهد إلى أرض المعركة. إنجاز أفلام عن الحرب غداة تحقيق النصر شيء، وإنجازها لمكاسب سياسية في زمن الحكم التواق إلى بث الروح الوطنية شيء آخر تماماً، خصوصاً أن الفيلم جاء ليعبر عن وجهة النظر الرسمية للدولة، ولم يتوان رئيس الجمهورية عن إلقاء التحية على صناعه.
في المقابل، لم تكن السينما الإسرائيلية وافرة الإنتاج في ما يخص حرب أكتوبر. أشهر الأفلام التي تناولتها هو "يوم الغفران" (2000) للمخرج القدير أموس غيتاي الذي كان مجنداً خلال الحرب، بل وتعرض لإصابة خلال المعارك. يقارب الفيلم الحرب من وجهة نظر المسعفين، مصوراً معاناة المشاركة فيها من الطرف الآخر. كان اليساري غيتاي الذي أنجز أفلاماً نقدية عن دولة إسرائيل، في الـ22، عندما شارك في حرب يوم الغفران، وظلت آثاره ماثلة في وجدانه، فأراد تحويل تجربته إلى فيلم، مصفياً حساباته مع الماضي، في منحى حميمي شخصي، أبعد ما يمكن عن الصورة التي رسمتها السينما المصرية عن الحرب على الشاشة.