ملخص
هل كان تحالف عاصمة السينما مع "عدو أوروبا" توافق مصالح أم تواطؤاً أيديولوجياً؟
نعرف بالطبع أن تشارلي تشابلن قد تعرض لكثير من الضغوط حين كان ينجز فيلمه "الديكتاتور" في هوليوود. بل سيكون هذا، فيلمه الأخير هناك لأنه حتى وإن كان قد أنجزه بالفعل سيدفع الثمن غالياً إذ سرعان ما سنراه مضطراً إلى مبارحة الولايات المتحدة، غير مأسوف عليه من قبل اليمين الأميركي المتطرف الذي، لئن كان قادراً على تحمل أفلامه ومواقفه المضحكة المسلية، فإنه لم يستسغ أبداً في ذلك الحين أن "يتطاول" الصعلوك المهرج على... أدولف هتلر. ففي ذلك الحين كانت لا تزال للديكتاتور النازي شعبية كبيرة لدى قطاعات عريضة من المواطنين الأميركيين، لكن تشابلن كانت له كذلك شعبيته الكبرى فحقق فيلمه على رغم كل شيء، لكن ما تمكن تشابلن من فعله عجز عن القيام به من قبله فريقان سينمائيان حاول كل منهما من ناحيته وقبل تشابلن بزمن، أن يحقق فيلماً مناوئاً للنازية، أولهما بعنوان "الكلب المسعور وأوروبا" (1934)، والثاني بعنوان "لا يمكن لهذا أن يحدث هنا" (1938). ففي نهاية الأمر لم تكن لأصحاب هذين المشروعين لا جماهيرية "الصعلوك الصغير" ولا مكانته في هوليوود، بالتالي كان من يتحكم في هوليوود حينها غير قادر على منعه من تحقيق فيلمه حتى وإن كان سيتمكن من معاقبته لاحقاً فيما كان الفيلم يدور حول أن العالم يسهم مساهمة أساسية في التنديد بهتلر. أما السؤال هنا فهو: من كان يتحكم بهوليوود في ذلك الحين؟
فتش عن رأس المال
الجواب الأول والبديهي هو أن رأس المال الهوليوودي كان هو المتحكم. وفي هذا السياق هناك كتاب ظهر قبل سنوات عنوانه "مملكة أحلامهم" يفيدنا مؤلفه دان غريبر، من موقع الثناء والاحتفال، بأن الرأسمال الهوليوودي العامل في سينما ذلك العالم السحري حينها كان مملوكاً لسبع شركات ضخمة تسمى "المايجور السبعة". وأن أصحاب الحلم الذي شكلت هوليوود مملكته كان من بينهم ستة من اليهود الآتين أصلاً من وسط أوروبا، فيما لا يملك الأميركيون المسيحيون سوى شركة واحدة هي "وارنر". ويرسم غريبر على طول كتابه صورة وردية لأولئك المهاجرين الذين وصلوا إلى أرض الأحلام الأميركية خالي الوفاض فاكتشفوا عالم السينما وراحوا يبنونه مدماكاً إثر مدماك حتى باتوا يتحكمون بما لا يقل عن 70 في المئة من الإنتاج والتوزيع السينمائيين، فارضين حتى نوعاً من مواثيق شرف أخلاقية وما إلى ذلك، متمكنين في أحيان كثيرة من مجابهة يمين متطرف كان يحاربهم وقد غمرته نزعة معاداة السامية تماماً. وإذا كانت الحال كذلك هل يعقل أن تكون تلك الشركات هي المتحكمة في العقلية الهوليوودية، إلى درجة تمنع معها تحقيق أفلام تتلاقى تماماً حينها مع المصالح اليهودية العليا؟
نفوذ قنصل ما...
أبداً! يقول كتاب آخر صدر بعد سنوات قليلة من صدور "مملكة أحلامهم". بل إن من يتحكم في هوليوود حينها لم يكن سوى القنصل الألماني العام في كاليفورنيا المدعو غيورغ غيسلنغ الذي كان يمارس سلطة مطلقة في عاصمة السينما من خلال ارتباطاته وعلاقاته التي كانت، على أية حال، تشمل الاستوديوهات الكبرى التي لا شك أنها تعاونت معه بعيداً من أي منطق أيديولوجي، وذلك أن الاستوديوهات كانت تدرك عند أواسط سنوات الثلاثين أن السلطات النازية تتحكم تماماً بسوق الأفلام الأميركية في ألمانيا نفسها والبلدان الخاضعة باكراً لنفوذها، كما يمكنها أن تتحكم جزئياً بأسواق كبرى في بلدان أوروبية أخرى. وكان شعار تلك الاستوديوهات هو "مالنا وكل هذا؟ نحن نريد تحقيق أرباحنا وهذا كل شيء!". ومن هنا كان في وسع ذلك القنصل "الشاطر" أن "ينصح" الشركات بعدم تمويل هذا الفيلم أو ذاك. و"لا شك أن نصائحه هي التي منعت إنجاز الفيلمين المذكورين الذين لا شك أن عملاءه في الاستوديوهات مرروا له سيناريو كل منهما". إذاً عند هذا المستوى تبدو الأمور بسيطة ومنطقية وتنفي عن القنصل إمكانية التحكم لتحل مكانه إمكانية المشورة. أو هذا في الأقل ما لم يكن من شأن كتاب غريبر أن يقترحه وهو الذي بنى فكرانية كتابه على أن مشروع يهود أوروبا الوسطى الهوليووديين كان مشروعاً رأسمالياً في الأصل، ومن هنا لم يعتبر ما جاء في الكتاب الآخر وهو "التعاون، ميثاق بين هوليوود وهتلر" من تأليف بن أورواند، معارضاً لما يقوله.
سجال بين الكتب
غير أن كتاباً أميركياً تالياً صدر بعد صدور هذا الكتاب الأخير أتى معارضاً ولو جزئياً، لتلك الأطروحة. وأكثر راديكالية واقتراباً من الأيديولوجيا من الكتابين السابقين، وعنوانه هذه المرة "هوليوود وهتلر" من تأليف توماس دوهرتي. وفي هذا الكتاب ينطلق الكاتب في حكايته مما يسميه "العلاقات المقلقة بين هوليوود وهتلر بين 1933 و1940 التي كان من بين ما أسفرت عنه، وأد عديد من المشاريع السينمائية التي كان مبدعون ومناضلون يحاولون تحقيقها في هوليوود خلال تلك الفترة لكنها اختفت من الوجود حتى من دون أن يسمع بها أحد، بل كان من بينها أفلام أوقف تصويرها ونسيت بعد أن كانت قد صورت أجزاء طويلة منها، ناهيك بأن الأفلام الأخرى التي رأت النور على رغم كل شيء قد روقبت قبل عرضها وتصديرها واقتطعت منها أجزاء عديدة. وفي تعليق له على هذا الكتاب الذي تمكن في صفحات عديدة من تسمية الأمور بأسمائها أضاف الناقد السينمائي في مجلة "نيويوركر"، ديفيد دينباي، معلومات بالغة الأهمية يلخص بعضها ما في الكتب المذكورة فيما يضيف بعضها الآخر ما يمكن اعتباره كشفاً جديداً حول هذا الموضوع كله، مما جعل كل هذه المصادر مرجعاً حول هذه القضية التي يبدو أنها باتت منسية تماماً في عالم السينما اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مواقف أميركية خالصة!
فبالنسبة إلى دينباي، ليس دقيقاً أن القنصل الألماني كان هو المتحكم، بل كان المتحكم جوزف إي. برين، وهو كان رئيس لجان الرقابة الحكومية الأميركية والمؤتمن على تطبيق القوانين الرقابية المفروضة دستورياً أو المتعارف عليها، تحديداً لحماية العائلات الأميركية مما كان برين نفسه يعتبره، من دون لف أو دوران، "انحرافات أخلاقية لا تحتمل". وكان برين بصورة خاصة معادياً للسامية يسلط سيفه البتار على رؤوس المنتجين الهوليووديين اليهود الذين لخوفهم من بطشه كانوا يذعنون لكل ما يطلبه منهم. صحيح أن برين كان يتشاور مع القنصل الألماني المذكور لكن الكلمة والرأي كانا له، إذ كان هو هتلرياً أكثر من القنصل. والغريب في الأمر، في رأي ناقد "النيويوركر" هو أن برين كان يحظى بدعم غير محدود من... المنظمات الصهيونية الكبرى وعلى رأسها منظمة "نعاي بريث" التي كانت تقوم بدور صلة الوصل بين اليهود الأميركيين ويهود العالم. وكان شعار هذه المنظمة "فلنفعل أي شيء كي نترك العاصفة تمر!" وكان من بين ما فعلته أنها ساندت المنتجين في مواقفهم المهادنة لبرين وما يمثله مؤمنة بذلك للاستوديوهات مواصلة ضخ أوروبا، في ألمانيا كما في غيرها، بتلك الإنتاجات السينمائية المحققة أرباحاً تمكن هوليوود من إعادة إنتاج مئات الأفلام. ومهما يكن من أمر هنا فإن "البقاء" وبأكثر من الربح نفسه كان هو الدافع الأكبر لهوليوود التي بدورها كانت تريد أن تترك "العاصفة تمر". وفي هذا الإطار قد يكون لافتاً ذلك التناقض الذي يدرسه الناقد السينمائي المذكور حين يقول إن المسألة في جوهرها لم تكن "الحفاظ على السوق الألمانية أو الأوروبية" بقدر ما كانت الاستجابة لمشاعر أميركية يمينية متطرفة عامة، كانت لا تريد لمنتجها القومي الهوليوودي أن يكون أداة في أي صراع أيديولوجي ضد هتلر. ومن هنا كانت الفائدة الجمة التي حققتها هوليوود من خلال جعل المستثمرين واستوديوهاتهم ينأون عن الأيديولوجيا بأنفسهم، بدلاً من أن يخوضوا هم الصراع من حولها... وتلك كانت اللعبة الماهرة الكبرى التي لعبها برين واضعاً إياها، ليس بالمطلق في خدمة هتلر والنازية، بل تحديداً في خدمة مشاعر مواطنيه التي لم تكن في عمق أعماقها معادية لهتلر شرط أن يكتفي بجعل أوروبا مسرحاً لعدوانيته... كما نعرف!