ملخص
كتاب جديد لمحمد شاهين يرسخ صورة المفكر الفلسطيني المتعدد وصاحب الانتماء الإنساني الشامل
لسنا في حاجة إلى مناسبة، لاستعادة المفكر إدوارد سعيد، الناقد الثقافي الأبرز - ربما - في الثقافة العربية طوال القرن الـ20، بما له من وزن وأهمية في الثقافة الإنسانية، لا العربية وحسب، لكننا في هذه الأيام نقف أمام ذكرى مرور 20 عاماً على رحيله، كما نقف أمام كتاب جديد صدر حديثاً هو "إدوارد سعيد: رسالة مفتوحة غير منشورة ومقالات أخرى"، إعداد وتحرير وتقديم الباحث محمد شاهين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ليكون الكتاب وذكرى الرحيل فرصة، كي نقف اليوم مع جوانب من هذا الناقد وهذا الكتاب، لمقاربة تجربة متفردة في الفكر والنقد والفكر السياسي، والثقافة بصورة عامة.
ابتداء هو المفكر والناقد الحاضر دوماً، أعني الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، أو إدوارد (و) سعيد في آن واحد، كما كتب أحد الأصدقاء ذات مرة. وهو أيضاً صاحب أطروحة "جوزيف كونراد وقصص السيرة الذاتية"، ومؤلف "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية" و"خارج المكان" و"تغطية الإسلام" و"المسألة الفلسطينية" و"المثقف المنفي"، و"صور المثقف" (1994) و"تأملات في المنفى" (2000)... وغيرها كثير.
إن حياته الممتدة بين ولادته في حي "الطالبية" القدس في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1935، ورحيله في 25 سبتمبر (أيلول) 2003 في نيويورك، لم تكن حياة عادية، بل هي محطات من "الكفاح"، الصعب والشاق، في صوره المتعددة، صور نجدها في سيرته، بل مذكراته "خارج المكان" (دار الآداب، بترجمة اللبناني فواز طرابلسي)، أساساً، وفي إنتاجه الفكري الثقافي عموماً... من دون الدخول في تجربته "السرطانية" مع اللوكيميا التي رافقته لسنوات، وقاومها بمضاعفة الإنجاز.
فضلاً عن الرسالة الموجهة إلى المثقفين الأميركيين اليهود، يضم الكتاب 13 مقالة أو محاضرة في موضوعات شتى، لسعيد نفسه أو عنه، بدءاً بمحاضرة في عنوان "الهوية، السلطة، الحرية: المتسلط والرحالة" التي ألقاها في عام 1991 أمام طلاب من جامعة كيبتاون في جنوب أفريقيا. وهي المحاضرة التي يتناول فيها "الحرية الأكاديمية"، ومقالات كتبها عنه كتاب عالميون أمثال تودوروف. مقالات تعالج القضايا التي اشتهر سعيد بمعالجتها، كالهوية والسلطة والحرية والذاكرة والمكان وتمثيل المستعمر والمثقف المنفي وقضايا الموسيقى، وسواها كثير من القضايا، نتوقف هنا عند أبرزها.
يمكن اعتبار هذا الكتاب بمحتوياته كلها كالكتاب الذي سبق للباحث شاهين إعداده وتحريره والتقديم له وصدر عام 2005، محاولة "استذكار لما قام به إدوارد سعيد من إنجاز كبير في ميادين مختلفة، من السياسة والعلوم الإنسانية التي جعلت منه مرجعاً لخطاب إنساني كوني، يعود إليه الباحثون والدارسون أينما كانوا. وذلك سعياً وراء إنجاز نظرة شمولية للفكر السعيدي كنافذة تطل على فكره الكوني"، كما يقول شاهين في تقديمه.
وفي هذه المقدمة يرى شاهين أن أهمية سعيد، على المستوى النظري، ومستوى الممارسة النظرية، تكمن في "موقعه التأسيسي في الدراسات والنقد ما بعد الكولونيالي، فهو أكد الوظائف السياسية والثقافية للكتابة، مما جعله علماً في التيار الرئيس للنظرية المعاصرة. وتحتل أعمال سعيد البحثية والنقدية مساحات واسعة في الفكر والثقافة الإنسانيين، وهي التي اتبع فيها منهجاً نقدياً وعلمياً لم يجامل ولم يساوم فيه أحداً. ويمكن القول إن النقد كان سمة أو هوية ملازمة له، لإزالة ما يحيط بها من انحياز وتشوه وخداع".
إلى المثقف الأميركي اليهودي
هذه الرسالة الموجهة إلى "الأميركي اليهودي"، التي لم تنشر بالعربية في أثناء حياته، تنم عن رغبة إدوارد سعيد الجامحة للمصالحة بين الفلسطيني (والعربي عموماً) واليهودي لا الصهيوني، وهي مصالحة على أساس واضح يقوم على تحقيق الحرية والعدالة والمساواة للطرفين. فهو من بين قلة رأوا أن ما يسميه "العمى المأسوي للصهيونية" يكمن في أن هذه كما "ولدت في ظل الاضطهاد الأوروبي لليهود"، فإن هذا العمى يكمن أيضاً في كونها "ولدت بصفتها جزءاً من الظلم الأوروبي للأقوام السوداء والصفراء والسمراء والحمراء، فقد اختارت الصهيونية التحالف مع الظالمين لا مع المظلومين"، هذا فضلاً عن تحولها إلى شكل جديد من الاستعمار، عبر احتلالها أرض فلسطين، وتهجير شعبها.
واختصاراً للجدل الفائض عن الضروري، فإن سعيد يسوق كثيراً من الأدلة على تواطؤ، بل خضوع واستجابة الغالبية من المثقفين اليهود الأميركيين، في مواقفهم، لما يخدم أهداف الدولة الصهيونية وسلوكياتها. وفي المقابل يواجههم بما يسميه "عمل المؤرخين الإسرائيليين التنقيحيين" (المؤرخين الجدد) مثل بيني موريس وسيغيف وفلابان، وآخرين الذين تتوافق، في الغالب، إعادة بنائهم لسرد ويلات عام 1948 وما بعده، مع شهادات وأصوات الفلسطينيين التي لم تسمع أبداً في الولايات المتحدة. فيقول: "لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للمثقفين الأميركيين من اليهود التغاضي عن الأدلة الخام والعارية لمجرد أن (أمن إسرائيل) يتطلب ذلك. إن الصمت المفروض ذاتياً الذي يمارسه مثقفون يمتلكون، في حالات أخرى، وعندما يخص بلداناً أخرى، ملكات نقدية فائقة الجودة، هو شيء مذهل. أما بالنسبة إلى (الإرهاب)، حصان طروادة الأيديولوجي الأخرق ذاك، فعلينا أخيراً أن نفتح أعيننا على الضرر الهائل الذي تم إلحاقه باسم محاربته".
ويختم رسالته حاسماً: "يبدو لي إذاً أن الطريق أمامنا قد اتضحت معالمها، فإما أن نحارب من أجل العدل والحقيقة وحق النقد الصادق، أو أن نتخلى عن صفة المثقفين!"، لكنه يعلن قبوله بدولة إسرائيل وأن تعيش في المنطقة "عيشة إنسانية سوية"، مكتفياً بأن يكون دور المثقف شاهداً ضد جرائمها، وتزويد الإسرائيليين ومسانديهم بمثال "بديل عن الإجبار وعن الروح العسكرية الخشنة"... لكنه لا يقترح البديل. وهذا موقف مستهجن من سعيد الذي ينبغي أن يرفض وجود دولة إسرائيل كلياً، بوصفها ذراعاً إمبريالية عسكرية.
أقول إنه مستهجن خصوصاً لأنه يرى أن الإمبريالية والصهيونية، أمّ إسرائيل، هما كيانان يقعان - كل بطريقته "في المركز من الثقافة الغربية الفكرية والسياسية، وهما حقيقتان من حقائق انعدام الأخلاق والعدالة مستمدتان من إرادة سياسية وعلمية للسيطرة على شعوب العالم الثالث الموصوفة بأنها "ملونة، وغير أوروبية". وهو يعتبر أن "الكفاح ضد الإمبريالية وضد التمييز العرقي كفاح حضاري". ويرى أن انتشار الإمبريالية الحديثة، التي تشكل الصهيونية جزءاً منها، تعود جذوره إلى أوائل القرن الـ19، إلى حقبة التوسع الهائل الذي حققته القوى الأوروبية الكبرى في السيطرة على الأراضي. فكيف يوافق على بقاء الكيان الصهيوني؟! الأمر يتطلب قراءة أعمق وأوسع ليس مجالها هنا.
فصول متنوعة من الكتاب
في الكتاب مقالة بعنوان "اجتهادات موسيقية"، تتناول جانباً من جوانب اهتمام سعيد بالموسيقى، خصوصاً في استعراضه جهود المفكر الألماني تيودور أدورنو، ابن مدرسة "فرانكفورت"، وتنظيراته المتصلة بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. وخلاف سعيد مع أدورنو صاحب التحليلات السوداوية للمشهد الموسيقي الراهن حول هوية تلك الموسيقى الغربية. وفي علاقته بالموسيقى، وهي علاقة المتذوق والناقد والعازف لنفسه، وتتوضح في كتابيه "عن الأسلوب المتأخر - موسيقى وأدب عبر التيار"، و"الموسيقى في أعلى تجلياتها"، الذي نشر بعد وفاته وحوى مجموعة مقالاته عن الموسيقى والنشاط الموسيقي، يبدو مختلفاً في حدته. فهو مثلاً يصف أسلوب التعبير الموسيقي لدى ريتشارد شتراوس بأنه "سطحي وخاو ومعقد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتجلت بعض شؤونه الموسيقية في علاقته باليهودي - اللاصهيوني دانيال بارينبويم، وكانت علاقة شراكة مثمرة، فقد تعاونا معاً في تأسيس أوركسترا "ديوان شرق غرب" الإسرائيلية - الفلسطينية (عام 1999). واستقطبت موسيقيين من إسبانيا وفلسطين وإسرائيل ولبنان وسوريا والأردن ومصر وإيران. ومعروف بارينبويم بمناهضته سياسات دولة إسرائيل، ففي عام 2001 كانت هناك انتقادات حادة له في إسرائيل عندما عزف موسيقى ريتشارد فاغنر كضيف شرف في حفل في برلين، كما أحدث بارينبويم ضجة في عام 2004 عندما انتقد الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية أمام البرلمان الإسرائيلي نفسه. ولم تكن لتفوت سعيد ملاحظة "استخدامات" الموسيقى، ومن ذلك استخدامها في السجون الإسرائيلية لتعذيب السجناء الفلسطينيين، وتحديداً بث أشرطة موسيقية لبتهوفن، مع استخدام سماعات ضخمة ورفع درجة الصوت إلى حده الأقصى لإجبار السجين على الاعتراف.
وتعالج بقية فصول الكتاب موضوعات شتى، تتناول جوانب من فكر سعيد وحياته، كثير منها شائع في مؤلفاته، ولو بصورة مختلفة، لكننا نتوقف، أخيراً، عند مقال للناقد المفكر الفرنسي - البلغاري الأصل تزفيتان تودوروف حول كتاب سعيد "تأملات في المنفى" عند صدوره في (دار أكت سود، المقال منشور في لوموند مايو 16 "أيار" 2008)، وتودوروف معروف بصداقته لسعيد منذ السبعينيات حين كانا يحاضران معاً في جامعة كولومبيا، وهو من كتب مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب "الاستشراق" الشهير لسعيد، وصدر عام 1980 عن دار لوسوي. وهو كتاب تمت ترجمته إلى 36 لغة عالمية.
في مقالته يرى تودوروف أن سعيد كان "أحد المثقفين الأكثر شهرة في العالم. ويدين بشهرته لأعمال عن الهويات الثقافية والتقاء الثقافات، وكذلك القوميات والإمبرياليات، وكان أيضاً أحد الأصوات المسموعة أكثر لصالح القضية الفلسطينية". ويضيف أن سعيد وعى "في فترة مبكرة من حياته أنه يحمل هوية من أكثر الهويات غموضاً، فهو فلسطيني درس في مصر ويحمل اسماً إنجليزياً وجواز سفر أميركياً، مما جعله عند نهاية دراسته العليا لا يحس بأية رغبة في العودة إلى بيته. ويفهم سريعاً أن العودة، أو العودة الشاملة أمر مستحيل". وهو الأمر الذي خلق عند سعيد، بحسب تودوروف، نوعاً من "الاغتراب الذي يولي إيجابيات عدة، ذلك لأن المغترب يرى كل ثقافة من ثقافاته من الداخل والخارج معاً، مما يسمح له بفحصها بنظرة نقدية. فالمغترب يعيش خارج المكان وبمحاذاة خط السكة، إنه مهمش ولكنه متشبث بشرطه كتشبثه بامتياز". وإذ يبحث تودوروف عن "أسرة أيديولوجية" لسعيد، فهو على رغم وجود تشابهات مع كل من الماركسية وما بعد البنيوية، يضعه ضمن "النزعة الإنسانية، شريطة أن تكون كونية حقاً، وأن تكف عن الاختلاط بنزعة المركزية الأوروبية".