Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بابا دائما على حق" عبارة ابن راسين الخالدة عن "سيد التراجيديين"

الكتاب الذي استلهمه شاعر السينما الفرنسية حين كتب عن أبيه مؤسس الانطباعية أوغوست رينوار

سارة برنار في دور "فيدرا" من كتابة راسين (موقع الفنانة)

ملخص

لئن كانت مكانة الرسام الأب رينوار تتساوى مع مكانة المسرحي الأب راسين فإن الفوارق كبيرة بين الابنين.

كان يحلو للسينمائي الكبير جان رينوار الملقب بشاعر السينما الفرنسية أن يقول وهو يبتسم بطيبة وتفهم أنه في الحقيقة قد "سرق" فكرة وضع كتاب عن أبيه المعتبر أحد كبار الفن الانطباعي الفرنسي بيار أوغوست رينوار بعنوان "رينوار أبي". وسرقها تحديداً من مواطن له سبقه إليها بنحو قرنين ونصف قرن من الزمن وهو ابن كبير التراجيديين الفرنسيين في ذلك الحين جان راسين، لويس الذي وضع كتاباً عن أبيه أراد به أن يخلده "فإذا بلويس هو الذي يدخل التاريخ بفضل الكتاب، هو الذي لم تعرف له مأثرة أدبية أخرى".

ومن الطبيعي أن ندرك هنا أن ما يقوله رينوار الابن يمكن النظر إليه كأنه سخرية، فلئن كانت مكانة الرسام الأب رينوار تتساوى مع مكانة المسرحي الأب راسين فإن الفوارق كبيرة بين الابنين، وفي مقدمها أن مكانة السينمائي الابن تضاهي مكانة أبيه، بينما ابن المسرحي كان من شأنه أن يغيب في مهب التاريخ لو لم يكتب عن أبيه النص الذي يبدو أن شعاره الأساس لا يتعدى القول إن "بابا كان دائماً على حق".

وراثة غريبة

والحقيقة أن الحالين معاً تدفعاننا إلى طرح سؤال بسيط هنا: هل يورث المبدع حين يموت تاريخه وموهبته والحق في استخدامهما إلى ورثته الشرعيين، لا سيما إلى أبنائه؟ وفي معنى آخر، إذا كان من حق الأبناء - أو غيرهم من الأقارب - وراثة المبدع الراحل من الناحية المادية، هل يحق لهم أن يزعموا الحق في وراثة البقية: روح الأعمال الإبداعية نفسها، المواضيع، التاريخ والذكريات، ناهيك بالحق الحصري في الكتابة عن الراحل، أو تحقيق أعمال فنية عنه، وصولاً إلى منع الآخرين من ذلك؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طبعاً الحديث عن هذا الموضوع يطول. ونحن ما أشرنا إليه هنا إلا كي نعود نحو قرنين ونصف القرن إلى الوراء حيث تطالعنا قضية من هذا النوع لم تصل إلى المحاكم يومها، ولكنها أثارت اشمئزاز الرأي العام، الأدبي، من دون أن تكون قضية حقوقية. فهي لم تعد، في ذلك الحين، كونها مسألة فكرية، ولكن مسألة فكرية ذات وزن.

والمسألة تتعلق بالكاتب المسرحي جان راسين، لكن صاحبها هو ابن هذا الكاتب، لويس راسين، الذي أصدر عام 1747، وبعد موت أبيه الكبير بنحو نصف قرن، كتاباً سماه "مذكرات لويس راسين"، لكنه كان في الحقيقة كتاب مذكرات عن جان راسين، الأب الذي بالكاد كان الابن عرفه أو عايشه، إذ كان طفلاً حين رحل. ومع هذا أصر الابن يومها على أنه إنما يؤلف كتابه عن جان راسين، وأن الكتاب "مملوء بالحقائق التي لا يملكها أحد غيري"، هو الذي قال عن نفسه حين اشتد الجدل، "فليقل الآخرون ما يشاؤون، أما أنا فإنني مؤرخ صادق. وهذا الكتاب سيجعل الناس الشرفاء يقدرونني حق تقدير".

شيء من الإنصاف

لم يكن كتاب الابن في نهاية الأمر سوى كتابات عائلية وجدانية بالكاد تبدو علمية أو ذات علاقة حقيقية بأدب راسين وكتاباته المسرحية. ومن هنا وقف النقاد والمؤرخون بقوة ضد هذا الكتاب، غير أن بعض الأكثر إنصافاً من بينهم لم يعجزوا عن أن يجدوا في النص روحاً رأوا أنها تكاد تكون منتمية حقاً إلى روح راسين الأب، وعبر عنها الابن بلغة شفافة تجعل الكتاب يقرأ بشغف من دون أن يتوخى منه قارئه أية إطلالة حقيقية على أدب راسين، بل وصل بعضهم إلى القول إنه إذا كان معظم الذين درسوا راسين وتعمقوا في مسرحياته، انتهى بهم الأمر إلى تصويره على أنه كاتب موضوعي عقلاني يفتقر إلى الروح والعاطفة، فإذا بكتاب ابنه هذا يأتي ليكشف عنه إنساناً ذا روح وعاطفة ودفء إنساني حقيقي، حتى من دون أن يربط هذا كله بكتابة من الواضح أن الابن لم يفقه منها شيئاً.

من هنا قال كثر يومها إن قراءة هذا الكتاب تصبح ضرورية لمن اختتم قراءته لراسين فأدرك من خلالها تجديداته المسرحية وعلاقة المسرح بالتاريخ، لكنه ظل يبحث عن الكاتب في ثناياها فلم يجده. وها هو واجده الآن في النص الذي نتحدث عنه هنا.

ألفة عائلية

هو إذا كتاب عائلي صيغ بنبرة ألفة عائلية، وبحب كبير لرجل صوره الكتاب طيباً مع عائلته يعطيها من الوقت ما تحتاج، ولا يحاول أن يشغل بالها بهمومه العملية أو الإدارية أو الإبداعية. ولعل ما يلفت النظر، حقاً، في هذا الكتاب، هو أمثلة الكاتب لأبيه إلى درجة أنه غض الطرف عن أية خبريات أو حكايات قد تطاول سمعته، كما أنه أعطاه الحق كل الحق في كل المنازعات التي بقيت في التاريخ ذكرياتها، وكان من الطبيعي للمؤرخين الموضوعيين، سواء كانوا من مناصري راسين أو من مناوئيه، أن يوزعوا الحق والمسؤوليات حين يتحدثون عنها.

 

 

هنا، في هذا المجال، رأى لويس راسين أن من حقه أن يؤكد أن أباه "دائماً على حق". وكان هذا الأمر طبيعياً فالابن لا يمكنه أبداً أن يرى أن أباه كان يمكن أن يكون مخطئاً، حتى بعد عشرات السنين من القضية المثارة. وهذا ينطبق أيضاً على مقاطع كثيرة من مراسلات جان راسين التي نشرها الابن في ثنايا كتابه، حيث نراه يختصر تلك المراسلات ويشطب منها ما يريد شطبه. وفي هذا السياق أيضاً، لن نجد في "المذكرات" هذه أي ذكر لبعض علاقات راسين، التي كانت معلومة للجميع في زمنه، ومنها بخاصة علاقته مع السيدة دوبارك والسيدة شامسليه. وكأن الابن رأى أنه حين يغض النظر عن هذه الأمور فإنه "يبيض" صفحة أبيه، غير مدرك أن السكوت عن أمور ومسائل معروفة إلى هذا الحد يفقد الكتاب كله صدقيته. وبالفعل فإن كتاب لويس راسين هذا اعتبر دائماً رسالة حب ومودة من ابن إلى أبيه، ولم يعتمده أحد على الإطلاق مرجعاً لدراسة حياة جان راسين وأدبه، وربما أيضاً ثنايا علاقة حياة بمسرحه.

في مهب النسيان

من هنا، بالتالي، طوى النسيان هذا الكتاب، فإن طبع وقرئ فإنه لا يطبع ويقرأ إلا كنص طريف ممتع ربما يصح القول إنه عن شخص خيالي اخترعته مخيلة الابن، لا أكثر ولا أقل، ذلك أن جان راسين في كتاب "المذكرات" هذا هو شخص مختلف كل الاختلاف عن جان راسين الكاتب الذي نعرف. ومع هذا كله يبقى أن بعض أجمل صفحات هذا الكتاب، إنما هي تلك التي ينقل فيها لويس عن أبيه، وربما بقدر كبير من الأمانة - هذه المرة - رأي هذا الأخير في أعماله نفسها، وما جرى على لسانه من حديث عنها، أو من ردود الفعل التي جابهت عرضها حين عرضت. وهذه الصفحات تأتي هنا لتكمل ما يعرفه الباحثون عن آراء راسين الأب من خلال رسائله المعروفة والمنشورة، والتي كان يحرص في معظمها على تسجيل مثل تلك الآراء.

ونذكر هنا أن لويس ينقل الآراء غالباً عن أفراد آخرين من الأسرة. ومن ذلك ما يقوله مثلاً في إحدى الصفحات من أن أباه كان يقول لأخيه الأكبر "أنا لا أخفيك أن المرء حين يكون خائضاً حمى الكتابة، لا يكون دائماً راضياً عن نفسه، ولكن بعد ذلك حين يصل عمله إلى الآخرين، لا يطلب منهم سوى التصفيق. إنه ليحدث لي كثيراً، يا بني، أنني أحزن لأقل نقد يوجه إلي، مهما كان سوء مستوى كاتبه، أكثر بكثير مما أفرح لكل ضروب التقريظ التي أنالها".

شيء من سيرة الأب

إذاً، جان راسين (1639 - 1699) يبرز أمامنا في هذا الكتاب، شخصاً أكثر حميمية، من ذاك البارد الذي تظهره الدراسات التاريخية. وربما هنا يكمن العنصر الأساس والأجمل في هذا الكتاب الذي وضعه لويس راسين (1692 - 1763)، ابنه الذي لم يكن تجاوز السابعة من عمره حين مات الأب. ونعرف أن راسين يعد إلى جانب كورناي وموليير، أحد الثلاثة الذين جعلوا للمسرح الفرنسي كيانه في زمن لويس الـ14، راسين وكورناي في الدراما، وموليير في الكوميديا طبعاً. ومن أهم أعمال جان راسين "أندروماك" وفيدرا" و"أستير" و"بريتانيكوس" و"ميتريدات"، بين أعمال أخرى لا تزال تعتبر حتى يومنا هذا من شوامخ الكتابات المسرحية في تاريخ فن الخشبة.

المزيد من ثقافة