ملخص
ما أسباب هذا الفشل الاستخباراتي؟ وعلى من يقع عاتقه؟ وما تداعياته في إسرائيل؟
على عكس وكالات الاستخبارات الأخرى حول العالم ظلت الاستخبارات الإسرائيلية تقدم نفسها على أنها تخوض حرباً من أجل وجود دولة إسرائيل، وأنه يطلب منها دائماً التدخل في السيناريوهات التي تتطور بسرعة كبيرة لإجهاض التهديدات القاتلة للأمن القومي الإسرائيلي.
على رغم التمويل الهائل للاستخبارات الإسرائيلية والتعاون الدقيق والشامل مع الاستخبارات الأميركية، كان من المذهل أنهما لم تتوقعا الهجمات التي شنتها الفصائل المسلحة الفلسطينية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، التي حطمت الصورة العالمية حول كفاءة وقدرات استخبارات تل أبيب، فما أسباب هذا الفشل الاستخباراتي؟ وعلى من يقع عاتقه؟ وما تداعياته في إسرائيل؟
علامات الصدمة
أعاد هجوم الجماعات المسلحة الفلسطينية على إسرائيل للأذهان فشلها الاستخباراتي السابق قبل 50 عاماً حينما فوجئت بهجوم عسكري مصري - سوري منسق عام 1973 في يوم عيد الغفران نفسه أو "يوم كيبور" كما يطلق عليه في إسرائيل، لكن الفشل هذه المرة كان أقسى وأشد وطأة، ذلك أن المفاجأة التي وقعت قبل نصف قرن هندستها جيوش واستخبارات وقدرات كل من مصر وسوريا، بينما شن الهجوم الأخير فصائل مسلحة معزولة بقدرات محدودة ولا تمتلك استخبارات دول أو خبرات واسعة أو تكنولوجيا فائقة في التخفي.
تطور وسائل المراقبة والتنصت والرصد في السنوات الأخيرة أصبح يحدث فارقاً كبيراً عما كان عليه الحال في سبعينيات القرن الماضي، الأمر الذي سبب دهشة واسعة حول العالم وضرب سمعة الاستخبارات الإسرائيلية التي كانت تتباهى دائماً بتفوقها وبأنها من أكفأ أجهزة الاستخبارات العالمية.
ووفقاً للمحلل الأمني رئيس قسم الاستخبارات في شركة إدارة الأخطار "لو بيك إنترناشيونال" مايكل هورويتز، فإن الهجوم المنسق والمعقد وأماكن احتجاز الرهائن المتعددة والمناطق التي سيطرت عليها "حماس" خلال الهجوم والعدد الكبير للقتلى يعني فشلاً استخباراتياً كبيراً.
الرئيس السابق للموساد أفرايم هاليفي قال لشبكة "سي أن أن" إن "عدد الصواريخ التي أطلقتها (حماس) خلال أقل من 24 ساعة يزيد على 3 آلاف صاروخ، وهذا أمر يفوق الخيال من وجهة نظرنا، ولم نكن نعلم أن لديها هذه الصواريخ".
واشنطن مذهولة
أما بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين فإن إسرائيل كانت تاريخياً تمتلك قدرات مهيمنة لمراقبة الاتصالات في غزة ولديها بعض من أفضل القدرات لاختراق الاتصالات المشفرة، وهذا جزئياً هو السبب الذي جعلهم يشعرون بالصدمة لعدم الكشف عن الاستعدادات لهجمات السبت الماضي.
وبدت علامات الدهشة على سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل في إدارة ترمب ديفيد فريدمان، الذي وصف ما حدث بأنه "فشل استخباراتي كبير" لأنه لم يشاهد هذا يحدث على مدى 40 عاماً، ولم يسبق له أن رأى الحدود تخترق بهذه الطريقة، حتى ولو اقترب شخص واحد من الحدود يتم اعتراضه وتحييده قبل وقت طويل من تمكنه من فعل أي شيء.
ويشير خبراء أميركيون إلى أن سبب الصدمة يعود إلى أن إسرائيل تمتلك واحداً من أفضل أجهزة الاستخبارات شمولاً وتمويلاً في الشرق الأوسط، ولديه مخبرون وعملاء داخل الجماعات الفلسطينية المسلحة، وكذلك في لبنان وسوريا وأماكن أخرى، ونفذ في الماضي اغتيالات في توقيتات محددة لقيادات يعتبرها خطراً على أمن إسرائيل، وكان يعرف كل تحركاتهم من كثب، وفي بعض الأحيان تم تنفيذ ذلك من خلال ضربات طائرات مسيرة "الدرون"، بعد أن وضع العملاء جهاز تعقب تحديد المواقع العالمي على سيارة الهدف، كما استخدم في الماضي هواتف محمولة متفجرة.
الساعات الأخيرة كشفت عن أمور مذهلة، ذلك أنه على طول السياج الحدودي بين غزة وإسرائيل، توجد كاميرات وأجهزة استشعار للحركة الأرضية ودوريات عسكرية منتظمة، ومن المفترض أن يكون السياج المغطى بالأسلاك الشائكة بمثابة "حاجز تكنولوجي ذكي" من شأنه أن يمنع التسلل الذي حدث في هذا الهجوم، ومع ذلك شق مقاتلو "حماس" طريقهم من خلاله بالجرافات، أو قطعوا ثقوباً في الأسلاك، أو دخلوا إسرائيل من البحر أو باستخدام المظلات في عملية فائقة التخطيط والإعداد لمثل هذا الهجوم المنسق والمعقد التنفيذ، الذي يتضمن تخزين وإطلاق آلاف الصواريخ، تحت أنظار الإسرائيليين مباشرة، مما يتطلب مستويات غير عادية من الأمن العملياتي من جانب "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى.
أسباب الفشل
على الجانب الإسرائيلي، ذكرت صحيفة "هآرتس" أن كبار الضباط والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين قدروا في الأسبوع الماضي أن "حماس" تريد تجنب صراع شامل مع تل أبيب التي يفترض جيشها في السنوات الأخيرة أن الحركة تم ردعها عن تنفيذ هجمات كبيرة خوفاً من قوة الرد الإسرائيلي، وحذراً من إغراق غزة في دمار متجدد، لكن كان من الواضح جداً أن هذا الافتراض لا أساس له من الصحة.
غير أن موقع "المونيتور" الأميركي رأى أن هناك تفسيراً واحداً مهماً للأحداث غير المفهومة التي وقعت في يوم سبت كارثي وهو الغطرسة الخاطئة، إذ نشر الجيش الإسرائيلي أعداداً هائلة من القوات أخيراً في الضفة الغربية رداً على موجة متزايدة من التوتر والعنف مع الفلسطينيين، التي أسهم فيها جزئياً عنف المستوطنين اليهود ضد جيرانهم الفلسطينيين، بينما لا تحاول حكومة اليمين المتشدد المتطرفة كبح جماح المستوطنين، مما استهلك طاقة الجيش الإسرائيلي، في حين تركت غزة تحت رحمة الجدار الذي تم بناؤه وكاميرات المراقبة وغيرها من التقنيات المتطورة التي لم تكن كافية.
بعض الخبراء يشعرون أن إسرائيل انشغلت بشكل كامل في مواجهة إيران والجهود الرامية إلى إحباط البرنامج النووي لطهران لدرجة أنها أهملت ساحتها الخلفية، ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" فإن غزة كانت في مرتبة متأخرة في ما يتعلق بالشعور بالتهديدات الأمنية لأن الوكلاء المدعومين من إيران كانوا يزيدون التهديدات في أماكن أخرى، بينما بدت "حماس" في غزة معزولة وغير قادرة حتى على الحصول على مزيد من الأموال من المصادر المعتادة، كما أنه مع تزايد اتفاقات السلام الإسرائيلية في المنطقة، بدا أن "حماس" تقدم أيديولوجية عفا عليها الزمن وتعيش في الماضي، ويبدو أن هذا خلق شعوراً زائفاً بالأمان لدى الإسرائيليين.
من يتحمل المسؤولية؟
على رغم اعتراف المسؤولين الإسرائيليين بالمفاجأة فإن معظمهم تجنبوا الحديث عن الإخفاقات، مفضلين عدم الحديث في هذه المرحلة لأنهم في حالة حرب، فيما أوضح المتحدث الدولي باسم القوات الإسرائيلية الكولونيل ريتشارد هيشت، أنه متأكد من أن هذا سيكون سؤالاً كبيراً بمجرد انتهاء المواجهات، لكن نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق تشاك فريليتش قال لصحيفة "بوليتيكو" إن اللوم سيقع في النهاية على عاتق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مشيراً إلى أن الهجوم العسكري غير المسبوق الذي شنه مقاتلو "حماس" والذي خلف مئات القتلى والجرحى من الإسرائيليين ومئات آخرين من الرهائن، سمح نتنياهو بحدوثه بسبب الفوضى في القوات المسلحة الإسرائيلية وأجهزة الاستخبارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن مسؤولين أميركيين يثيرون الآن مخاوف في شأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بعد هجمات "حماس" قائلين إنهم لم يتلقوا أي تحذير بأن الحركة تستعد لمهاجمة إسرائيل، مما أدى إلى ارتباك حول كيفية فشل تل أبيب في اكتشاف علامات الهجوم.
وفي حين يحاول مسؤولون في إسرائيل تحميل جزء من المسؤولية على الولايات المتحدة، إلا أن كولين كلارك، كبير الباحثين في مركز صوفان وهو منظمة غير ربحية تركز على قضايا الأمن العالمي، قال إن إسرائيل يجب أن تتحمل المسؤولية الرئيسة عن الفشل في توقع هجوم السبت، كونها تتمتع بقدرات رائعة على جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية على مستوى عالمي، وسيكون لديها صورة أفضل بكثير عما يحدث في ساحتها الخلفية.
وقال مسؤول كبير في الاستخبارات الأميركية إن قدرة "حماس" على تنسيق الهجمات الإرهابية على البلدات الإسرائيلية من دون اكتشافها، أثارت مخاوف الولايات المتحدة في شأن النقاط التكنولوجية التي فشلت في التقاط علامات الهجمات، بخاصة أن الأميركيين ظلوا يراقبون المؤشرات التي تشير إلى تصاعد التوترات في الأشهر الأخيرة، ولم تكن لديهم معلومات استخباراتية على المستوى التكتيكي لتنبيه المسؤولين الأميركيين بأن هجوماً بهذا الحجم سيحدث في هذا اليوم، وأن السؤال المطروح الآن على مسؤولي الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية هو ما إذا كانت هناك مؤشرات تم إغفالها، أو ما إذا كانت إسرائيل والولايات المتحدة فشلتا في جمع أي معلومات من شأنها أن تساعد على التنبؤ بالهجوم.
وفي حين يشير المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون إلى أنهم سيجمعون تقارير في الأيام المقبلة لمعرفة ما إذا كانت هناك أشياء فاتت أو ما إذا كانت هناك معلومات استخباراتية تم جمعها وقراءتها بشكل خاطئ، أو ما إذا كانت هناك منطقة مظلمة تماماً لم يعرفوا عنها شيئاً، يركز مسؤولو الاستخبارات الأميركية حالياً على محاولة فهم الاتصالات الآمنة والتدريب المستخدم في الهجمات، وما إذا كان يتم تقاسم هذه المعرفة مع مجموعات في أماكن أخرى حول العالم.
تعاون استخباراتي
بينما يقول خبراء ومسؤولو استخبارات سابقون إن هجوم "حماس" جواً وبراً وبحراً أثار أيضاً تساؤلات حول سبب عدم توقع وكالات الاستخبارات الأميركية حدوثه، أوضح أحد كبار المسؤولين العسكريين الأميركيين لشبكة "أن بي سي نيوز" أن الإدارة الأميركية تعمل على تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الإسرائيليين لدعم حكومة تل أبيب، ويمكن أن تشمل المعلومات الاستخباراتية الإضافية لإسرائيل معلومات تم جمعها من طائرات الدرون والتنصت والأقمار الاصطناعية.
التعاون بين الأميركيين والإسرائيليين يبدو أنه واسع النطاق بالفعل وعميق الجذور، فوفقاً لوثيقة سرية لوكالة الأمن القومي التي تقود أجهزة الاستخبارات الأميركية، فإن الوكالة تحافظ على علاقة تعاونية بعيدة المدى من الناحية التقنية والتحليلية مع الاستخبارات الإسرائيلية، إذ يجري بانتظام تبادل المعلومات والتعاون في مجالات اختراق الخصوم واعتراض الاتصالات، والإشارات، وتبادل التحليلات، والتقارير.
ووفقاً للوثيقة التي تعود إلى 10 سنوات ماضية والتي ينشرها موقع اتحاد الحريات المدنية الأميركي، فإن تبادل المعلومات يركز على أهداف في الشرق الأوسط والتي تشكل تهديداً استراتيجياً لمصالح الولايات المتحدة أو إسرائيل، ويغطي هذا التعاون استكشاف ورصد الاتصالات الحكومية الداخلية والعسكرية والمدنية والدبلوماسية، وكذلك المنظمات الأمنية والاستخباراتية.
وعلاوة على ذلك، تشارك وكالة الأمن القومي بشكل روتيني بيانات استخباراتية أولية مع إسرائيل من دون غربلتها أولاً لإزالة معلومات حول المواطنين الأميركيين، بحسب ما كشفت وثيقة سرية للغاية قدمها المخبر إدوارد سنودن إلى صحيفة "الغارديان" قبل سنوات عدة، وهو ما يشير بوضوح إلى النطاق الواسع الحدود في التعاون بين الجانبين حتى داخل الولايات المتحدة وما يخص المواطنين الأميركيين.
مراجعات جديدة
لم يمنع هذا التعاون العميق من الكارثة، وهو ما يستلزم أن تكون هناك مراجعة لمجتمع الاستخبارات الإسرائيلي الذي سيكون في دائرة الضوء، حتى لو كان لا يزال مغطى بطبقة سميكة من السرية، وقد يشمل ذلك جميع الأفرع الاستخباراتية وهي الاستخبارات العسكرية المعروفة باسم "أمان"، والاستخبارات الخارجية المعروفة باسم "الموساد" وجهاز الأمن الداخلي المعروف باسم "شين بيت" أو "شاباك".
وعلى رغم أن الموساد الذي أسسه بن غوريون عام 1951 كان دائماً رمزاً للأمن لجميع الأشخاص الذين يعيشون في إسرائيل، وسرعان ما أصبح رمزاً للكفاءة والمناعة، وكأنه يمثل ضمانة بقاء الدولة المحاطة بالأعداء، فإنه نتيجة لبعض الإخفاقات منذ سنوات فقد اعتبر البعض أنه لا يمكن الاعتماد عليه كثيراً بحسب موقع "ساينتيفك ريسيرش" أو البحث العلمي وهو موقع أكاديمي.
ومع ذلك عاد الموساد الذي تعني تسميته "المعهد المركزي للاستخبارات والمهام الخاصة" إلى معايير التميز التنظيمي والعملياتي، قبل أن تصفعه عملية يوم السبت مع "الشاباك" و"أمان"، اللذين يتحملان مسؤولية مشتركة، ومن المؤكد أنهم جميعاً سيخضعون للتدقيق والمراجعة مثلما حدث عقب حرب أكتوبر 1973 وكأن الاستخبارات الإسرائيلية لم تتعلم الدرس.
ووفقاً لإيتاي شابيرا وهو عقيد متقاعد من استخبارات الدفاع الإسرائيلية "أمان"، فإن مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي لا يزال يتعافى من صدمة حرب يوم الغفران عام 1973 التي تمثل أعظم فشل استخباراتي في تاريخ إسرائيل أدى إلى مقتل أكثر من 2700 جندي إسرائيلي، حين كان الهجوم المفاجئ الذي هدد وجود إسرائيل بمثابة صدمة مؤلمة، ولهذا فإن ما جرى السبت من هجوم آخر مفاجئ سيفتح هذا الجرح الغائر الذي لم يندمل، ويعيد التساؤلات والتحقيقات حول تجدد الفشل الاستخباراتي الذريع.