يسعى الفنان التشكيلي السوداني عمر خليل والفنانة التشكيلية فدوى سيد أحمد، عبر معرضهما المشترك في مدينة بورتسودان شرق السودان، إلى التعبير عن نزوح مزدوج: نزوح جسدي هرباً من حرب الخرطوم، وآخر روحي إلى الأماكن التي تم الاعتياد عليها في الخرطوم وما ترك من تفاصيل يومية. وبذا يصور المعرض المفارقة بين نزوحين جسدي وروحي.
عمر خليل وفدوى سيد أحمد فنانان تشكيليان سودانيان جمع بينهما الفن والزواج، وهما أستاذان للفنون في الجامعات السودانية. وأجبرتهما حرب الخرطوم المندلعة منذ الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، على النزوح من منزلهما في أم درمان إلى مدينة بورتسودان شرق السودان. تخرجت فدوى سيد أحمد في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في جامعة السودان، وحصلت على الدبلوم من جامعة الخرطوم، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية. وعمر خليل فنان تشكيلي ومصمم ومحاضر في كلية الخرطوم التطبيقية، وتخرج في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية (قسم التلوين) في عام 1992، وحاصل على ماجستير (التلوين) من جامعة السودان، ويعكف على التحضير لرسالة الدكتوراه في علم الجمال.
يقام المعرض في مركز "خُلال غاليري" في مدينة بورتسودان شرق السودان، ويستمر حتى السادس عشر من الشهر الجاري، ويحوي مجموعة من لوحات، والمواد المستخدمة هي ألوان الإكليريك على ورق كانسون، السوفت باستيل وبعض الأحبار.
الحل في الفن
تقول التشكيلية فدوى سيد أحمد: "هربنا من دون مهرب وفزعنا من دون مفزع، كبقية الشعب السوداني. وكانت وجهتنا بورتسودان بلا تخطيط مسبق". وتضيف في حديثها لـ"اندبندنت عربية": "بعد أن وضعنا الرحال، لبينا دعوة سخية من مركز خُلال لإقامة معرض ونحن نسترق وقت النزوح اللاهث والمضني لنترك الأثر على الورق الأبيض، مما خلفته الحرب في أذهاننا ومشاعرنا، وقد كان نزوح الروح عاكساً لصدمة الحروب ومفاجآتها وفواجعها التي خرجت تتبرج بين الألوان والرسوم".
يقول الفنانان التشكيليان في كاتالوغ المعرض: "لم يخطر لنا على بال أن الأمكنة ستتغير وتتبدل على هذا النحو المتسارع. فبعد عدة محطات حللنا كغيرنا من بقية خلق الله ببورتسودان الوريفة". ويضيفان: "على رغم كل التفاصيل الجميلة التي استقبلتنا بها عروس البحر، بورتسودان، إلا أن نزوحاً آخر غير نزوح الجسد كان يلازم الرحلة، وهو نزوح عكسي ومضاد، إلى أمكنة وأزمنة وتفاصيل ألفناها كتشكيليين لعشرات السنين في سماء الخرطوم". ويرى الفنانان أن ثمة نزوحين متضادين في اللحظة نفسها يرفضان التلاقي، نزوح الجسد ونزوح الروح. وليس لهما كتشكيليين إلا أن يعبّرَا بما يملكان من أدوات اللون والخط والشكل، فكانت الحصيلة هذه اللوحات التي أنتج معظمها في بورتسودان لتحمل تفاصيل الفجيعة وتحيلها إلى مقاومة جمالية تعترف بأن الحل ليس بالبندقية، فـ "الحل في الفن"، بحسب تعبيرهما.
الخروج من الصدمة
جاءت فكرة المعرض بحسب الفنان عمر خليل، بعد نزوحهما كأسرة من الخرطوم حيث يعملان أستاذين للرسم في المؤسسات الأكاديمية في الخرطوم، وأجبرتهما أوضاع الحرب على النزوح إلى شرق السودان مع أبنائهم الثلاثة.
يقول خليل في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إن فكرة الحرب بالنسبة إليهم كأسرة تجربة جديدة، واحتاجوا زمناً طويلاً كي يفيقوا من هول الصدمة. ويضيف: "أصبحنا فجأة في واقع جديد وفي مجتمع جديد، وفقدنا أعمالنا وأصدقاءنا وأهلنا، إضافة إلى حالة التشتت العالي التي تعانيها الأسر السودانية". وعلى رغم حالة الإحباط والضجر التي لازمت النزوح كما يصفها خليل، فإن المعرض محاولة للخروج من أثر الصدمة، وقد وجدوا فيه كأسرة عزاء بالتعبير عما يحسون بأدواتهما التي يمتلكانها كتشكيليين، وهي أدوات الخط واللون والكتلة والفراغ. ويضيف خليل: "ليس لدينا أي حل غير إنتاج الفن، ففي اللحظة التي تنتج فيها فناً، إذاً أنت في الجانب الإيجابي من الحياة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف خليل الحالة الإبداعية التي ساعدتهما في الخروج من صدمة الحرب السودانية قائلاً: "في اللحظة التي قررنا فيها البدء بإنتاج أعمال، تخلَّق داخلنا صفاء ذهني وروحي، وحدث لنا نوع من التطهر ونحن ننتج الأعمال الفنية". ويقول: "خرجنا من منزلنا في الخرطوم على عجلة من أمرنا لأن حياتنا كانت في خطر، وبالكاد أخذنا معنا بعض المواد والألوان والخامات وبعض الكتب".
الحرب ولغة الجسد
عبرت فدوى في أعمالها المعروضة بأسلوب الواقعية الرمزية عن لغة جسد الإنسان والحيوان مستخدمة إياه وسيلة للتعبير. تقول: "لغة الجسد عبرت عن المفاجأة والقهر والخيانة التي تتم تحت الطاولات، كيف اغتصبت العاصمة الخرطوم بسبب الحرب، وتشرد أهلها في بقاع الأرض، وكيف خوت الصدور وصارت خواء وصارت الأجساد خواراً".
وعلى رغم أن إقامة المعرض لم تكن في الحسبان كما تقول فدوى، ولكن بحسب خليل، هو يمثل دعوة لنبذ الحرب، لأن الفن دائماً وأبداً يدعو إلى قيم الخير ونبذ التعصب والتسامح وضد استخدام العنف في مجابهة أزمات السودان المتفاقمة. يقول خليل واصفاً المعرض: "تجد في اللوحات تفاصيل تعكس الفجيعة في السودان من حرب ونزوح، وتجد إشارات لوجود الأمل والخروج من المأزق الذي وقعنا فيه". ويضيف: "إن رسم مساحة من الأمل فيها لون وردي أو زهرة وسط الدمار يمنحنا بارقة أمل، ونريد أن نقول من خلال المعرض إن الأمل موجود، ولا للعنف ولا للاقتتال، والفن هو البديل، وهو دائماً إيجابي وضد العنصرية والعنف والأنانية وفيه حل لكثير من المشكلات".