Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تشارلز لارمور يقارب العلاقة بين الفلسفة الأخلاقية والحداثة

المفكر الأميركي الذي تركت كتاباته الواسعة تأثيرا في مجال الليبرالية السياسية

رسم يمثل مفهوم الليبرالية (صفحة ليبيرالية - فيسبوك)

يدور متن كتاب "أخلاق الحداثة" The Morals of Modernity للفيلسوف الأميركي تشارلز لارمور Charles Larmore (ترجمة مايكل مدحت يوسف – المركز القومي للترجمة) حول استكشاف مشكلة العلاقة بين الفلسفة الأخلاقية والحداثة. وتنقسم مقاربة هذه المشكلة في هذا الكتاب، إلى ثلاثة أقسام رئيسية. يعالج القسم الأول منها طبيعة الأخلاق الحديثة ذاتها، والاختلاف بينها وبين أخلاق العصور القديمة، سواء في أصولها وأسسها، أو في ما ترتبط به من ممارسات اجتماعية وسياسية، مع التركيز على عصر التنوير ودوره في بلورة الرؤية الحديثة للأخلاق، والفصل بينها وبين الأخلاق الدينية والميتافيزيقية. ويعالج القسم الثاني المذهب الطبيعي تحديداً وموقفه من إمكان قيام "معرفة أخلافية" بالوقوف على فلسفة كل من كانط ونيتشه. أما القسم الثالث فيعالج تطبيق هذه الرؤية النظرية على العلاقة بين المذهب الليبرالي ومشروع الحداثة الغربية.

بهذه الصورة نجد في مقالات الكتاب تنوعاً ثرياً بين موضوعات مثل فلسفة الأخلاق، فلسفة القيم، الدين وعصر التنوير، تراث الفلسفة الغربية، طبيعة مشروع الحداثة، المعرفة الأخلاقية، الفكر السياسي الغربي، المبادئ السياسية للمذهب الليبرالي، التعددية السياسية والاختلاف المعقول. بالإضافة إلى تقديم فحص نقدي وقراءة جديدة للكثيرين من أعلام الفكر الغربي مثل نيتشه، وليو شتراوس، وكارل سميث وجون راولز ويورغن هابرماس. وجعل ذلك من المقاربة الفلسفية والفكرية التي يقدمها تشارلز لارمور في هذا الكتاب موضوعاً لا غنى عنه للمكتبة العربية، سواء بالنسبة الى القارئ المتخصص أو غير المتخصص، المهتم بالفلسفة والأخلاق وبالمشكلات الثقافية والسياسية المعاصرة عموماً. وذلك نظراً لأسلوبه السلس ولغته البسيطة المباشرة التي تجمع بين العمق والوضوح في آن واحد.

الأنماط القديمة

يذهب تشارلز لارمور (1950) إلى أنه لا يقوم في كتابه بتقصي تأملات إبستمولوجية لمجرد الوقوف عليها فقط، ولكن ليوضح بشكل أساسي كيف أن الفلسفة الأخلاقية، في واحدة من المشكلات المحورية التي تركز عليها في العصر الحديث، لا بد وأن تكون على اتفاق مع الحداثة. ومن هذا المنطلق يرى لارمور أنه ينبغي تأكيد أن العنصر الأكثر تميزاً في الأخلاق الحديثة هو الفكرة القائلة بأننا جميعاً خاضعون لنوع من "الأوامر" الأخلاقية الملزمة والتي تملي علينا كل ما يمكن أن يعبر عن اهتماماتنا المتنوعة. لكن مع ذلك كان هناك دوماً اتجاه خفي من الشك، أعلن عن نفسه بوضوح متزايد في السنوات الأخيرة، بشأن ما إذا كان باستطاعة هذه النظرة الأخلاقية أن تكون سلطوية حقاً بالنسبة لنا، خاصة مع الأخذ في الاعتبار تراجع رؤى العالم الدينية. يمثل هذا الاهتمام منبع الحنين لـ "أخلاق الفضيلة"، أو الأسلوب الأخلاقي القديم. وكما يجادل لارمور في الفصلين الأول والثاني، فإن هناك صعوبات لا يمكن تخطيها تقف في وجه العودة إلى مثل هذه الأنماط القديمة من الأخلاق. ومع ذلك يمكننا أن نفهم أهمية هذه العقبات، فقط في ضوء مفهومٍ عن الفلسفة يتميز بالحساسية التاريخية، مثل المفهوم الذي قام المؤلف بوصفه، وذلك لأنها (أي العقبات) تتضمن مكوناً أساسياً من مكونات الفهم الحديث لذواتنا.

معنى الحياة

إن العنصر الحاسم في الخبرة الحديثة – يقول لارمور- هو إدراك أن البشر العاقلين يميلون بطبيعتهم الى لاختلاف بعضهم مع بعض حول معنى الحياة. ومن ثم أصبحنا نتوقع في المحادثة المنفتحة والحرة حول الحياة المكتملة، أو الخير البشري، أو التحقق الحر للذات – وهي أفكار أساسية لمفاهيم الأخلاق القديمة المتمركزة حول القضية – إنه كلما ازداد النقاش، ازداد الاختلاف بصورة أكبر، حتى مع أنفسنا. لا يعد هذا المنظور - في تصور لارمور - مماثلاً لما يسمى عادة بـ "المذهب التعددي"، أو الاعتقاد بأن الغاية من الخير البشري ليست واحدة، بل هناك العديد من الصيغ التي لا تقبل الاختزال لأي أساس مفرد، مثل السعادة، أو الحرية، أو المعرفة. إن التعددية ذاتها هي واحدة من الأشياء التي يختلف حولها البشر العاقلون. ويعد توقع الاختلاف المعقول بمنزلة وجهة نظر أقل استقراراً من المذهب التعددي، وهي وجهة نظر تسير في الاتجاه المضاد لبعضٍ من أكثر مفاهيمنا المسبّقة عمقاً في التراث الغربي، بحسب ما يقرره لارمور الذي ذاع صيته كمفكر سياسي لكتاباته الواسعة التأثير في مجال الفلسفة الأخلاقية والليبرالية السياسية، في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. ويرى لارمور كذلك أنه مع الإقرار بأنه في ما يتعلق بالأمور الفائقة الأهمية، فليس من المرجح أن يوحدنا العقل معاً، بل إنه بالأحرى يفرقنا. ويضيف أن هذه الخبرة كانت غائبة عن أخلاق الفضيلة المميزة للعصور القديمة والوسطى، لكنها كانت تلوح أكثر في أفق الفكر الحديث المبكر... "لقد كان هذا درساً وعيناه جيداً، على سبيل المثال، بواسطة أكثر من قرن من الحروب الدينية. في الأخلاق الحديثة، قام توقع الاختلاف المعقول بتحويل الانتباه صوب نواة أخلاقية يستطيع البشر العاقلون على الرغم من اختلافاتهم حول طبيعة الحياة الخيرة، أن يتفقوا عليها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا هو المطلب الذي يجب على فكرة الأوامر الأخلاقية أن تستوفيه، كما يؤكد لارمور، الذي يرى أنه، على الرغم من أننا دائماً ما نربط هذه الفكرة بالتعبير الكانطي الشهير عنها، فإن أولوية الحق على الخير "لا يمكن أن تنحصر بأي حال من الأحوال في نطاق الأخلاق الكانطية وحدها". لقد قامت هذه الفكرة بصياغة التراث النفعي أيضاً، وهو تيار مختلف ذو شأن عظيم في الفلسفة الأخلاقية الحديثة. ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نفهم حياتنا الأخلاقية بأكملها في ضوء فكرة الأوامر الأخلاقية الملزمة. وعلى هذا النحو، يمكننا - كما يذكر لارمور في تقديمه لكتابه - أن نتعلم الكثير من منابع الأخلاق القديمة، لكننا نفقد الصلة مع واحدة من الخبرات التكوينية للحداثة إذا أغفلنا أهمية النواة الأخلاقية التي تربط بين مختلف الآراء حول الخير البشري، بما إنها جزء مكمل لنمط حياتنا.

ينتمي هذا الكتاب إذاً، إلى خط الفلسفات الأسيرة للتاريخ، المنبثقة من هيغل والتي تم ربطها عادة بالفكر "القارّي". إن الطريقة التي يقترحها لارمور للتقريب بين العقل والتاريخ، على سبيل المثال، تدين بالكثير لمنهج هيغل "الظاهراتي" على الرغم من أنها تجسد أيضاً قدراً أعظم من الإحساس بالعرضية مما تقر به ثقة هيغل في العناية التاريخية. ولا يقتصر الأمر على أن انهيار الفلسفة التحليلية في حد ذاته يقودنا باتجاه المفهوم الفلسفي الذي قام لارمور بتقديمه، فالمؤلف نفسه أضاف أن النمط "الأورفي" (نسبة إلى فرقة دينية كانت منتشرة في بلاد اليونان القديمة) والذي يبدو في موضعه الحقيقي بالفعل عند النظر إليه في سياق ما يسمى بالفكر القاري، "لا ينتمي إلى تفكيري".

الخطأ والصواب

واستطرد لارمور في هذا السياق قائلاً: "أعترف أن الفلسفة تعد مبحثاً معقداً على نحو غير تقليدي. لكن هذا لا يعني بالنسبة لي أن الارتفاع فوق الأخطاء العميقة الكامنة في الآراء الشائعة وتجاوزها، هو مهمة بطولية، وهذا هو نوع الصعوبات التي استمتعَ بها العديد من الفلاسفة الذين يستوحون فكر هيغل، بل يعني هذا بالأحرى أن رؤية المرء الفلسفية من المحتمل أن تكون خاطئة أكثر من كونها صائبة"، ولذلك فإن الوقوع في الأخطاء هو ما ينبغي أن نتوقعه، كما يقول لارمور.  

ويوضح لارمور أنه على الرغم من أنه يرى القليل من المزايا في التعارض المبالغ فيه بين الفلسفة الأنغلو – أميركية والفلسفة القارية، فإنه يشعر بقدر من التوحد مع التراث التحليلي، "وهو ما يغيب عن العلاقة الاستغلالية الانتقائية بيني وبين الفلسفة على الطراز الهيغلي". ويرى المفكر الأميركي أن الشعور بعدم العصمة من الخطأ يجد أكثر صور التعبير عنه ثباتاً ورسوخاً في الاهتمام بالوضوح والذي شكَّل إلى حد كبير روح الفلسفة التحليلية، سواء كان هذا في ذروة برنامجها كفلسفة أولى أو في أطوارها المتأخرة؛ الأقل رسوخاً وثباتاً. وعليه فإنه لا يمكننا رفض الآراء الشائعة إلا باعتبارها مستودعاً للأخطاء التي يجب على الفلسفة البطولية ان تتخطاه. ودون تلك التضمينات التي تحملها (أي الفلسفة البطولية) في طياتها، تفقد أي إحساس بمعنى أن يكون تفكيرنا مخطئاً. ويختم لارمور بالقول إنه ليس معنى هذا أن تكون الفلسفة راضية عن ذاتها وأن تختلف ببساطة عن الآراء الموجودة... "على العكس من ذلك، يمكن للفلسفة أن تصبح مثيرة للجدل فقط من خلال العناية بهذا المثل الأعلى للوضوح، لأنه من خلال هذا فقط يمكننا أن نصبح منفتحين على النقد بواسطة الآخرين".

اقرأ المزيد

المزيد من كتب