أكثر من عشر سنوات غاب فيها دريد لحام عن شاشة السينما بعد مشاركته في فيلم "سيلينا" 2009 لحاتم علي، ليعود هذه المرة في فيلم "دمشق حلب- 120 دقيقة" لمخرجه باسل الخطيب، الذي حقق في هذا الروائي الطويل الذي كتب له السيناريو "تليد الخطيب" سبقاً في قراءة الحدث السوري من زاوية إنسانية ساخرة، لعب فيها لحام دور عيسى عبد الله المذيع المتقاعد في إذاعة دمشق، والذي يعيش عزلته وذكرياته في شقته، بعيداً من عمله وراء الميكروفون.
سنوات طويلة تسردها كاميرا الخطيب عن هذه الشخصية التي تجد نفسها -على الرغم من سخريتها وخفة ظلها- أمام مصائر أومكائد الحرب، والتي ستودي بحياة رفاق العمر في تفجير انتحاري، وذلك بعد أن طلب منهم عيسى المجيء إلى قصر العدل للاحتفال بزواج شاب وفتاة من معارفه. الحادثة التي سوف تغيّر من مسار الأحداث هي سفر عيسى إلى حلب للقاء ابنته المحاصرة دينا( كندة حنا) في مدينة الشهباء.
يبدأ هنا مشوار الشخصية الرئيسة في حافلة بين المدينتين السوريتين، وعبر هذه الرحلة نطل على شخصيات متنوعة في انتماءاتها الدينية والعرقية والسياسية، في محاولة من مخرج الفيلم للإطلالة أكثر فأكثر على شرائح متنوعة من المجتمع السوري في ظل الحرب، ومنها لنبش هادئ في الأمكنة والأزمنة، إذ نتعرّف على شخصيات عديدة في حافلة "دمشق- حلب" منها شاب وفتاة مسافران لعقد قرانهما، ومغنية أوبرا، ومُخبر، وضابط مصاب، ومذيع شاب، وسيدة مصابة بالسرطان (صباح الجزائري) التي سيجمعها هذا الشريط بـ "غوار" بعد قرابة خمسة وثلاثين عاماً على آخر مرة وقفت فيها أمام رفيق دربها الاستثنائي!
ركاب الحافلة
أهوال كثيرة سوف تعترض هذه الرحلة، منها فتاة هاربة تلوذ بركاب الحافلة، خوفاً من زوجها الذي يطاردها ليذبحها بعد هروبها وطفلها الصغير منه على خلفية أحداث الحرب، إضافةً لتعطّل الحافلة المفاجئ في منتصف الطريق، والزيارة القصيرة التي يذهب فيها عيسى عبد الله برفقة الجزائري إلى بيت حبيبته القديمة سلمى المصري، والتي كان يظن أنها قد فارقت الحياة، ليلتقي بحفيدها الشاب في مقبرة القرية.
الطرافة سوف تكون بتوقيف عيسى عبد الله على أحد الحواجز العسكرية بذريعة استدعائه إلى الخدمة الاحتياطية، وهو الرجل الذي بلغ الثمانين من عمره! مفارقة سوف تنقضي بتعاطف جميع ركاب الحافلة معه، والذين سوف يساندون الرجل المُسن الذي شكّل وقوفه الجريء في وجه زوج الفتاة الهاربة فيصلاً في أحداث الفيلم، طالباً من الجميع التدخل لحمايتها، مُديناً حيادهم المزمن إزاء ما يحدث.
من هنا تتحول الحافلة إلى ما يشبه سفينة نوح لا تعرف مصيرها الغامض في بحر الطوفان السوري، ما يدفع ركابها رويداً رويداً إلى التخلي عن لا مبالاتهم، والمضي قُدماً في الكشف عن مخاوفهم وأحقادهم وهواجسهم إزاء الآخرين، وبالتالي لنكون أمام تورية فنية لمعالجة ذات البين، وتعريض الجراح والكسور القديمة لصور شعاعية، تُظهر رضوضاً نفسية واجتماعية أصيبت بها البلاد على مر ثماني سنوات من الجرح الوطني المفتوح.
الشريط الذي نجد أنه يتقدم بسلاسة في رواية أحداثه، لا يلبث أن يقع في مجموعة من المصادفات، لكنها هنا تبدو مقصودة، ومبنية في سياق اختزال زمني، جاعلةً من الواقع الموضوعي صنواً للواقع الفني، والذي بدا فيها مخرج الفيلم متواطئاً مع مجموعة من الأحداث المتتالية واللاهثة، مرةً من خلال حوارية دافئة بين لحام والجزائري عن العمر الذي مضى بعثراته وأخطائه، ولا يمكن إلا الندم عليه، ومرةً عبر مواجهات عميقة وقاسية بين ركاب "دمشق- حلب" تقود في النهاية إلى تشريح متوازن لثنائية الضحية والجلاد.
سينما الطريق والمآسي
إنها باختصار "سينما الطريق" التي تتخذ من مناظر ما خلف زجاج الحافلة، مشاهداً للفيلم، ووفق مونتاجية متوازية تُظهر باطراد ما تركته الحرب في النفوس، جنباً إلى جنب مع العالم الداخلي الذي تعكسه الرحلة على طول الطريق الواصل بين عاصمتي الجنوب والشمال السوريتين، لنصل في النهاية إلى حلول لقصص متشابكة قوامها شخصيات على مقاعد الحافلة، فوفق كتابة كورالية متعددة الأصوات، يأخذنا الفيلم إلى مشهد النهاية، حيث يصل "عيسى عبد الله" إلى بيت ابنته وحفيده المحاصرين بسبب وجود حقل ألغام في الحي الذي يقع فيه هذا البيت، وعلى الرغم من استغاثات ابنته الشابة بأبيها ألا يقترب من بوابة البناء الذي تقطن فيه، إلا أن الأب يصر على السير نحو ابنته وحفيده، بخطوات ربما تكون الأخيرة، فتعلق قدمه أخيراً بلغم أرضي، ولتتوقف الصورة، وتعلو صرخات صامتة من ابنته التي تتقدم هي الأخرى منه بخطوات مماثلة، ولتكمل الصورة في تتابع قدمي عيسى نحو فلذة كبده، في مشهد بناه الخطيب بين الحلم والواقع، منتصراً لمشاعر شخصيته التي تخاطر بحياتها كي تبلغ عناقها الأخير، فكأن العناق هنا ليس بين أب وابنته، بقدر ما هو عناق بين مدينتين، باعدت بينهما الحرب، وجمعتهما أخيراً بين الألغام والأحلام.
ويسجل الشريط الذي شارك في بطولته كل من عبد المنعم عمايري، وبسام لطفي، ونظلي الرواس، أسلوبية سينما الطريق، مرتكزاً على ما كان يسمى في الحضارات السورية القديمة بـ "خط الزمن" الواصل بين دمشق وحلب مروراً بحمص وحماة واللاذقية، المدن التي كانت تحتفل في ساحاتها بمنارات تحمل ساعات ضخمة، ليقتبس الفيلم سيرورته من وجهة الرحلة، وليصبح زمنها هو زمن الشريط بما تتعرض له الشخصيات أثناء عبور هذا الطريق، فالسرعة والبطء متلازمة يتدفق عبرها الزمن وفقاً لتطور الحبكة، والمضي في تطوير وتعقيد الأحداث الرئيسة للفيلم.
هكذا يتماهى الترحال والبحث عن المفقود مع رواية الحدث، وفق حوار لا يخلو من السخرية والمرارة: "صار لي في المقبرة أصدقاء أكثر من الذين هم خارجها" عبارة يقولها لحام وهو يفقد مرةً تلو المرة شركاء حياته، لتبقى ابنته بمثابة الملاذ الأخير له، ومن ثم لركاب الحافلة الذين يشعرون بوحدة المصير، متواطئين مع ظروف استثنائية، تجعلهم وجهاً لوجه مع مآل واحد على الرغم من اختلافهم السياسي والاجتماعي، فالذرى الدرامية للفيلم تبنى بالتوازي مع الذرى الفرعية التي تدفع القصة إلى التحقق والخلاص بالوصول حيث الوجهة النهائية.
هذه الشاعرية تبدو أكثر فأكثر في الشريط الذي أنتجته "المؤسسة العامة للسينما" في التحليل الفني لمشاهد ولقطات ترويها الصور المتتابعة، بمساندة من موسيقى سمير كويفاتي ليكون شباك الحافلة هو ذاته شاشة "دمشق- حلب". الشاشة المشعورة بالرصاص واستغاثات الضحايا، وصولاً إلى مرثية لاذعة تتخذ من ذكريات الإذاعة السورية إدانة لذوي القربى، ولصمتهم إزاء ما يحدث في سورية، لعل أبرزها كان خروج إذاعة دمشق في العدوان الثلاثي 1957 بعد قصف الإذاعة المصرية لتقول: "هنا القاهرة من دمشق". نداء يستعيده بطل الفيلم، مُردداً ما يشبه استغاثات أخيرة بأسماء عواصم عربية تنتهي بلفظه عبارة: "هنا دمشق من دمشق"، في إشارة لانقضاء زمن الأحلام القومية، وانبلاج زمن الصراعات الإثنية والطائفية والمذهبية، ولتصبح رحلة بين مدينتين في بلد واحد بمثابة حلم صعب المنال.
قد يبدو الشريط من أكثر الأفلام التي تخلت عن البعد الدعائي لطرفي النزاع، ليذهب نحو تقديم مقترح أكثر واقعية. ربما هذا ما جعله يفوز بجائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الرابعة والثلاثين من مهرجان الإسكندرية، إضافةً لجائزة التمثيل الكبرى لدريد لحام، ناهيك عن تحقيقه كسراً للحصار المفروض على الفيلم السوري، حيث حقق إيرادات كبيرة في شباك التذاكر محلياً وعربياً، وذلك بعد عرضه في كل من بيروت وعَمّان وبغداد والجزائر والبحرين ومصر والدوحة، ومنها إلى بلدان أوروبية عدة كان أبرزها هولندا، والتي احتفت بهذا الشريط بحضور مخرجه!
كسر "دمشق - حلب" الصورة النمطية لأفلام الحرب السورية، سواء تلك التي تم إنتاجها داخل البلاد، أو تلك التي أُنتجت خارجها، لنكون أمام قاسم مشترك بين جمهورين على طرفي نقيض، لاحظوا ابتعاد الشريط عن الاستقطاب السياسي الحاد لصالح الطرح الفني، والمضمون الإنساني، ومسؤولية مخرجه في التقاط لحظة حساسة من حياة بلاد أرهقت شعبها ثنائية التخوين والتكفير وتبحث عن غفران لا مِنة فيه لأحد في تقديم صكوكه المقبلة!
سامر محمد إسماعيل