ملخص
ألقت حرب غزة بظلالها على الفعاليات الثقافية والفنية العربية الكبرى التي تقام خلال الفترة الحالية، وفي ظل تسارع وتيرة العمليات تعيش إدارات المهرجانات ارتباكاً واضحاً
لا صوت يعلو فوق صوت الحرب، حتى الأنشطة الثقافية والفنية في المنطقة تبدو مرتبكة تماماً أمام مئات الضحايا الذين يسقطون يومياً، والأهوال التي تعرضها الشاشات بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، إثر هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حيث تعالت الصيحات التي تطالب بإيقاف الحفلات والمهرجانات الفنية بشكل عام لحين هدوء الأوضاع، خصوصاً مع تزامن تلك الأحداث مع عديد من الفعاليات السينمائية والغنائية الشهيرة عربياً.
فيما ترى آراء أخرى أنه من الأفضل أن تقام الفعاليات في موعدها وتستغل برامجها لتسليط الضوء على القضية، فالمهرجانات الفنية الكبرى في العالم العربي محاصرة بشكل كامل بأنباء الحرب وبالوضع الإنساني في غزة، التي تم تهجير أهلها قسراً بعد التهديدات الإسرائيلية.
على هذا الأساس يبحث القائمون عليها الوصول إلى قرار ملائم كي لا يبدو وكأنهم يقيمون مظاهر احتفالية ترفيهية في مقابل آلة الموت، فإدارات المهرجانات عيونها معلقة على محطات الأخبار تتابع ما يجري على أمل التهدئة وحقن الدماء، وفي الوقت ذاته يجدون أن الواجب يقتضي أداء رسالة عملهم الذي يسهم في إثراء الوجدان كذلك، والتنوير بحقيقة الصراع في المنطقة.
مقاطعة وبيانات شديدة اللهجة
وصل الأمر أيضاً إلى اتخاذ مواقف صريحة من فعاليات أخرى عالمية ذات طبيعة ثقافية، ومن أبرز التداعيات التي جرت أخيراً، انسحاب معرض الشارقة الدولي للكتاب من المشاركة في فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا في دورته الـ75، الذي يقام في الفترة من 18 إلى 22 أكتوبر الجاري، إذ احتج المعرض الإماراتي على إعلان دعم المعرض الأوروبي الأشهر في عالم الكتاب للتحركات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وكان معرض فرانكفورت ألغى أيضاً تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي بحجة أن الوقت غير ملائم على خلفية موضوع روايتها "تفصيل ثانوي"، التي تستعرض واقعة حدثت في نهاية أربعينيات القرن الماضي حول قيام مجموعة من الجنود الإسرائيليين باغتصاب طفلة فلسطينية وقتلها، وعلى رغم أن الحادثة موثقة ومعترف بها، وعلى رغم الإشادات التي حصلتها الرواية متميزة المستوى واختيارها للفوز بجائزة ليبراتور الألمانية، فعلى ما يبدو أن الأصوات الغاضبة لتصويرها واقعة مشينة حول جيش الدولة العبرية هي التي انتصرت في النهاية وليس الأدب، مع التهمة الجاهزة دوماً وهي معاداة السامية.
اللافت أن تصريحات إدارة مهرجان فرانكفورت الداعمة للممارسات الإسرائيلية قوبلت برفض واستهجان من قبل كثير من المؤسسات الثقافية العربية، بينها اتحاد الناشرين المصريين الذي أصدر بياناً للتضامن مع الشعب الفلسطيني وقاطع المعرض، وطالب الناشرين المصريين بالانسحاب أيضاً من المشاركة.
في السياق، أعلن اتحاد الناشرين العرب أيضاً انسحابه وعاب على مسؤولي معرض فرانكفورت انحيازهم غير العادل للطرف الذي يعتدي بشكل منظم منذ عقود على المدنيين ويمارس أشكال الفصل العنصري كافة.
لا فساتين على السجادة الحمراء
الأحداث المتسارعة والمأسوية على الأرض فرضت على إدارة مهرجان الجونة السينمائي اتخاذ قررا قبل أيام بتأجيل دورته السادسة، فبعد الاحتفاء برجوع الحدث السينمائي البارز في مصر إثر توقفه لمدة عام، أصبحت الدورة العائدة مهددة بمزيد من التأجيل أو على الأقل بتقليص الفعاليات، فقد كان مقرراً أن تقام أولاً في الفترة من 13 إلى 20 أكتوبر.
وبسبب "الأحداث المؤسفة"، بحسب البيان الرسمي للمهرجان، أرجئت إلى الفترة من 27 أكتوبر وحتى الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني). وفيما لاتزال الحرب دائرة ومن غير المتوقع أن تهدئ وتيرتها قريباً، وفق آراء لمراقبين عسكريين، فإن هذا الموعد أيضاً سيترافق مع وضع غير إنساني في الأراضي الفلسطينية، وهو الأمر الذي جعل كثيرين يطالبون بإلغاء الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي، ولكن ما جاء في البيان الرسمي يشير إلى أن إدارة المهرجان تعتبر أن إقامة الحدث السينمائي العالمي رسالة ثقافية مهمة في هذا التوقيت الحرج.
فيما ألمحت مصادر من داخل المهرجان رفضت الكشف عن هويتها، أنه في حال التمسك بالموعد فهناك اتجاه قوي لإلغاء فعاليات السجادة الحمراء بالكامل لعدم ملاءمتها للظروف الراهنة، كذلك من المقرر أن يتم التشديد على النجمات والحضور بشكل عام في ما يتعلق بأسلوب الملابس، والالتزام بمظهر لائق بعيداً من إثارة الجدل الذي يصاحب عادة ظهورهن في مهرجان الجونة على وجه التحديد، وكانت إدارة الجونة قررت في ما قبل تقليص برنامجه من أسبوعين في دورة 2021 إلى ثمانية أيام فقط هذا العام.
يرى الناقد الفني محمد عبدالرحمن أن قرارات التأجيل والإلغاء في الظروف الراهنة تخضع لعوامل كثيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أن الأمر يثير الارتباك بخاصة في عصر السوشيال ميديا، لافتاً إلى أنه في فترات سابقة قبيل سيطرة الفضاء الإلكتروني وقبيل أن تتحول السجادة الحمراء إلى قسم أساس في الفعاليات الفنية بكل الصخب الذي تسببه، كان يمكن أن تكمل المهرجانات برنامجها بشكل معتاد مع استحداث فعاليات تبرز التضامن مع القضية الفلسطينية، وحينها كان الأمر سيمر بطريقة طبيعية.
وتابع، هناك متغير آخر وهو أن معظم المهرجانات باتت تبتعد من أي توجه سياسي، ولم تعد حريصة أن يكون لها صوت سياسي يعبر عن موقفها، منوهاً إلى أن المهرجانات الأقرب للأراضي الفلسطينية من الناحية الجغرافية لديها حرج في ما يتعلق بتلك النقطة، ولهذا فالأمر يعود لإدارة كل منها.
تأجيل أم إلغاء؟
وإذا كان البعض يرى أن المهرجانات يمكن أن تقام في موعدها، ولكن تتحول إلى فعاليات للعروض والمؤتمرات والندوات مع إلغاء المراسم الاحتفالية كافة، كالختام والافتتاح والاكتفاء بالأنشطة الضرورية فقط والبرامج التي يمكن أن تخدم القضية بالتوعية بسياقها التاريخي وحقيقة الصراع من خلال أعمال ملائمة لا سيما للضيوف الأجانب، إلا أن مهرجان مؤتمر الموسيقى العربية في دورته الـ32، بعد أن كان مسؤولوه يصرون على إقامته في موعده بلا أي تعديلات حتى أن المؤتمر الصحافي للإعلان عن تفاصيله أقيم بعد بدء الحرب بيومين كاملين، إلا أنه بشكل مفاجئ يشير إلى وجود تخبط في إدارة المشهد.
من جانبها أعلنت وزارة الثقافة تأجيله على أن يحدد موعده الجديد لاحقاً وسط تكهنات بإلغاء دورة هذا العام بشكل تام، نظراً لضيق الوقت وعدم ظهور أي انفراجة في القريب العاجل على الأقل وتداخل عديد من الفعاليات في توقيتات متقاربة، إذ كان من المفترض إقامته في الفترة من 20 أكتوبر وحتى الثاني من نوفمبر، من خلال 38 حفلاً وزعتها على المسارح التابعة لدار الأوبرا المصرية، بمشاركة 120 من كبار المطربين المصريين والعرب.
بيان تأجيل دورة المهرجان جاء مقتضباً للغاية لدرجة أنه لم يذكر السبب، حين تجاهل أحداث غزة تماماً وهو أمر أثار الاستهجان، وعلى وجه متناقض يستمر مهرجان آخر تابع لوزارة الثقافة أيضاً في حملته الترويجية بشكل اعتيادي وهو مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45، المقرر أن تنعقد في الفترة من 15 نوفمبر المقبل إلى 24 من الشهر نفسه، وبالحديث مع أكثر من مسؤول في أقسام المهرجان المختلفة، لم يذكر أي منهم توجه المهرجان وخططه في حال الإصرار على إقامته في موعده المحدد على رغم الأزمة الإنسانية الطاحنة في غزة والأجواء المشحونة، حيث يختار كثير من محبي السينما في العالم العربي متابعة الأخبار والوقوف على آخر تحديثات الوضع الإنساني على الأرض في الوقت الحالي.
ومن ناحية أخرى فإن أي تأجيل لمهرجان القاهرة السينمائي الذي يرأسه الفنان حسين فهمي للعام الثاني على التوالي، سيقود في الغالب إلى الإلغاء نظراً لأن ديسمبر (كانون الأول) المقبل سيشهد كثيراً من الاستعدادات الأمنية نظراً لموعد انتخابات الرئاسة، وفي حين أن فعاليات المهرجان الأهم تنحصر عادة في دار الأوبرا المصرية على بعد خطوات من وسط العاصمة المصرية، فإنه من غير المرجح أن يقام بالتوازي مع حدث سياسي مهم مثل الاستحقاق الرئاسي.
رأي الجمهور
هناك شق أساس في هذا السياق يتعلق بتقدير التوجه العام للجمهور وللمجتمع الذي تقدم فيه الفعالية، وقياس مدى سخطم أو رضاهم، ففي الوقت الذي كان يرى البعض فيه أن المقاطعة لأي فعالية أو حتى منتج غير مجد، فقد أثبتت التجربة القريبة العكس، وذلك بعد قيام أكثر من علامة غذائية عالمية بإصدار بيانات شبه اعتذارية وتوضيحية بعد حملات الهجوم والمقاطعة التي طالتها خلال الأيام الماضية، إثر قيام فروعها العالمية بدعم الاعتداءات الإسرائيلية من خلال التبرع.
الناقد محمد عبدالرحمن يشدد على أن قياس رد فعل الجمهور والتعامل معه أمر في غاية الأهمية، لافتاً إلى أن أي هجوم من المتابعين للمهرجانات على سبيل المثال يضر بها مهما ادعى أصحابها غير ذلك، لأن هذا يؤثر بالسلب في الصورة الذهنية، ومن في قرارات الرعاة الذين هم عنصر أساس في تلك الفعاليات، بالتالي يخشى المعلنون التعرض للمقاطعة كي لا يواجهون خسائر مادية.
وأضاف، هناك طرق كثيرة للتعامل مع هذا الوضع، ومحاولة الخروج من تلك الأزمة بأكثر من وسيلة، مثل إلغاء حفلات الافتتاح والختام. وأشار إلى أنه حتى الفعاليات الموسيقية يمكن التعبير عن التضامن بها من خلال الأغنيات الوطنية والملابس التراثية الرمزية والشعارات والأعلام كذلك.
وشدد على أنه لم يعد المزاج الشعبي كما هو واضح عبر مواقع التواصل الاجتماعي متقبلاً لفعاليات احتفائية، دون الإشارة بشكل واضح لموقف القائمين عليها من القضية وتبرير الاضطرار للتمسك بموعدها على رغم هذا الظرف.
على جانب آخر تواصل فعالية أيام قرطاج السينمائية بتونس الترويج للدورة الـ34 بشكل اعتيادي، عن طريق الإعلان عن قائمة العروض وكذلك الشخصيات المكرمة بينهم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، حيث صدر بيان قصير بِشأن تكريمه جاء فيه، "تقديراً لمسيرته الإبداعية الحافلة بأفلام خرجت بالسينما الفلسطينية عن المألوف، ووضعت معاناة الشعب الفلسطيني أمام أنظار العالم، تكرم أيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ34 أحد أبرز وجوه السينما الفلسطينية الجديدة الحائز التانيت الذهبي للدورة الـ25 من المهرجان عن فيلم "عمر"، وذلك قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب، حيث تقام الدورة من 28 أكتوبر الجاري وحتى الرابع من نوفمبر ، وحتى الآن لم تلح في الأفق أي مراجعات بخصوص الموعد.
على جانب آخر فمن ضمن الفعاليات الفنية العربية الكبرى هذا العام مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وقد يكون من أكثرها بعداً من التوترات، حيث إنه تبقى حوالى ستة أسابيع على موعد دورته الثالثة المقررة في الفترة من 30 نوفمبر المقبل وحتى السابع من ديسمبر في مدينة جدة السعودية، فخلال تلك المدة من المتوقع أن تكون قد هدأت وتيرة الاشتباكات.