ملخص
يمكن اعتبار حرب غزة أول صراع في العالم يجري التخطيط والتحضير له تقوم فيه التصورات بلعب دور رئيس حتى قبل إطلاق تسمية الحرب عليها بشكل رسمي.
قد لا تكون الحرب في غزة هي الأولى من نوعها التي تلعب فيها المفاهيم والتصورات التي سبقت نشوبها دوراً محورياً في سير الأحداث، ولكن يمكن بالتأكيد اعتبار "حرب غزة" أول صراع في العالم يجري التخطيط والتحضير له تقوم فيه التصورات بلعب دور رئيس حتى قبل إطلاق تسمية الحرب عليها بشكل رسمي.
الصور واللقطات المروعة التي نشرت مباشرة بعد الأحداث الدموية التي نفذتها "حماس" في المستوطنات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وبحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، كانت نقطة البداية لكل شي يتوقع أن تقوم به إسرائيل بعد ذلك. غارات جوية على غزة، استعدادات لغزو بري، حكومة طوارئ، وأخيراً القيام بغزو بري واسع النطاق بهدف القضاء على "حماس".
الصحيفة ذكرت أن الانتشار السريع لمقاطع الفيديو والصور القادمة من غزة أثر بشكل كبير في تسلسل هذه الأحداث. وأضافت أنه من المستحيل معرفة كيف فكر صناع القرار الإسرائيليون في ظل الضغط الهائل الذي تطور داخل إسرائيل وخارجها عندما رأى العالم الأحداث المروعة في غزة. لكن الواضح أن تأثير هذه الصور التي صدمت ملايين حول العالم، لم يترك كثيراً من الخيارات أمام صناع القرار سوى استدعاء الاحتياط، والاستعداد للحرب، وتشكيل حكومة طوارئ.
يعمل خبراء في الجيش الإسرائيلي، من مختلف وحدات العمليات النفسية على مدار الساعة في مراقبة المزاج العام في الداخل والخارج ويتجاوبون وفقاً لذلك بهدف رفع مستوى الوعي من جهة، ومن جهة أخرى، وهو الأهم، التأثير في وجهات النظر العالمية لملايين الأشخاص. في بعض الأحيان ينجحون في ذلك، وأحياناً أخرى يفشلون. لكن عقيدة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تفترض وجوداً مستمراً داخل هذا المجال وعدم ترك الأمور من دون رد ومن دون معالجة سليمة ومستمرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونتج من هذه الرؤية وحدات كاملة في مختلف فروع الجيش - المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي هو مجرد واحد منها – تحوي جنوداً مهمتهم التأثير في الآراء وصياغة التصورات. وهذا لا يعني أن إسرائيل، الدولة التي صاغت مصطلح "هاسبارا" (مصطلح عبري يشير إلى جهود العلاقات العامة التي تبذلها الحكومة الإسرائيلية ومؤيدوها لتعزيز صورة إيجابية عن إسرائيل ولمواجهة التصورات السلبية) لا تفشل أحياناً في مهماتها، لكن محاولاتها تستمر.
هناك جانب مثير آخر للتأثير يتعلق بالعوامل التي تتحكم حالياً في تلك التصورات. وهو ليس الجيش الإسرائيلي، ولا وزارة الخارجية، ولا وكالات الاستخبارات التي يمكن تحميلها المسؤولية عما يحدث للرأي العام العالمي. لكن، ومن المفارقة أن أولئك الذين حددوا هذه التصورات التي ستنشأ عن الأعمال المروعة التي ارتكبت في المستوطنات جنوب إسرائيل هم [إرهابيو] "حماس" أنفسهم. فالكاميرات التي كانوا يحملونها ووثقت جرائمهم أصبحت أقوى أدوات إسرائيل، لكن نشر تلك المواد لم يكن تحت سيطرة إسرائيل. هذه الفيديوهات نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وهي متاحة لأي شخص لمشاهدتها.
وهذه مفارقة، بحسب الصحيفة الإسرائيلية، خصوصاً عند دراسة الموضوع من منظور العمليات النفسية. إذا كان العدو من يصنع الرواية الخاصة به، حتى لو كان ذلك على حسابه، فما فائدة كل الوحدات والخبراء؟ من القوة التي تسيطر على الخطاب العام، وهل يمكن التأثير عليه أو تغييره أصلاً بعد أن بدأ من دون موافقتك؟
وتتابع الصحيفة: تعلمنا التجربة الإسرائيلية أن وزارات الحكومة الإسرائيلية التي تتعامل مع القضايا ذات الصلة (وزارة الخارجية، جيش الدفاع الإسرائيلي، أجهزة العلاقات العامة) تتدخل بشكل تلقائي تقريباً في البيئة أو المجال الذي تعمل فيه مختلف الجهات الفاعلة لتشكيل الرأي العام. مع ذلك، في نهاية المطاف، عندما تحدد السردية التي سيتفاعل معها ملايين الأشخاص، تجد المؤسسة الإسرائيلية نفسها في وضع رد الفعل، وتحاول إقناع صحافيي وسائل الإعلام الأجنبية بتبني الرواية الإسرائيلية والترويج لها.
وتزداد المفارقة حدة عندما يقرر آلاف الإسرائيليين المساهمة في لعبة التأثير في الرأي العام العالمي خلال الأحداث الكبرى. وهو الحال في ما شهدته المستوطنات أخيراً. إذ قرر مئات، إن لم يكونوا آلافاً، من الإسرائيليين المشاركة في جهود صنع الرأي العام العالمي وقاموا بحملات تحمل صور القتلى وقصص المختطفين والمشاهد المروعة وغيرها كثير. بالنسبة إلى إسرائيل الرسمية، لم يبق أمامها سوى ركوب الموجة و"الاستمتاع" ببضعة أيام من الهناء في أذهان الجمهور العالمي.
لكن التأثير تلاشى بسرعة، إما بسبب الغارات الإسرائيلية المكثفة على غزة وصور الدمار الشديد التي انتشرت من هناك، إلى جانب صرخات اليأس لسكان غزة الذين يواجهون الأزمة الإنسانية التي ولدت بسرعة بسبب قرار إسرائيل بقطع الكهرباء والماء. أو بسبب قصر الذاكرة البشرية. إذ كشفت الدراسات الاستقصائية التي أجريت في الولايات المتحدة وعلى حسابات منصة التواصل الاجتماعي (إكس)، عن أن الرواية الفلسطينية سيطرت بسرعة واكتسبت تعاطفاً عالمياَ أكبر إذا ما قورن بالتعاطف مع المأساة الإسرائيلية. هل هذا يعني أن "هاسبارا" فشلت؟ هل كان من الممكن القيام بذلك بشكل مختلف؟ هل كانت إسرائيل، مرة أخرى، غير مستعدة بشكل كاف، حتى لحدث بهذا الحجم؟ يجب النظر في هذه الأسئلة بعد الحرب. ومع ذلك، يمكن بالفعل القول بحذر إن القدرة في التأثير في الخطاب العالمي منخفضة نسبياً.
عند النظر إلى الداخل الإسرائيلي، نكتشف أنه حتى هناك فإن ديناميات التأثير تجري بشكل نشط. ففي وقت مضى بدا فيه أن الجهات الخارجية لا تستطيع إحداث تأثير كبير في توجهات الرأي العام الإسرائيلي، يبدو الآن أن الإيرانيين ودول أخرى، بما فيها روسيا، لديهم القدرة على إثارة التوترات داخل إسرائيل نفسها. حتى أن برامج تجسسية إيرانية جرى اكتشافها تقوم بنشر رسائل داخل الخطاب العام الإسرائيلي بهدف إلحاق الضرر بالاستقرار والتماسك الداخلي الإسرائيلي.
على سبيل المثال، زعمت إحدى هذه الرسائل أن خيانة حصلت داخل إسرائيل بإبلاغ "حماس" بموعد الهجوم الوشيك. وفي حالة أخرى، استخدمت صورة لرئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، التقطت في مطار بن غوريون لتقول إنه هرب، في دليل على فشل إسرائيل.
في الماضي، دارت نقاشات حول قضايا مثل الأخبار المزيفة تلاها مفهوم ما بعد الحقيقة، وأخيراً معضلة المعلومات المضللة. اليوم، نحن مضطرون إلى معالجة مسألة الحملات التي تهدف إلى زعزعة استقرار دولة إسرائيل، التي تنظمها دول أجنبية ومنظمات إرهابية. وكما الحال مع المحاولات التي بذلها السوفيات لتخريب أو إضعاف الحكومات الغربية خلال الحرب الباردة، هناك جهود مماثلة جارية اليوم. وتستخدم هذه الجهات الخارجية، بالتعاون مع أفراد محليين متجذرين بعمق في السياسة الإسرائيلية، تكتيكات مثل نشر الكراهية والتحريض والانقسام. هدفهم هو تأجيج الصراعات الداخلية وزيادة تآكل الوحدة الاجتماعية والقدرة على الخطاب العقلاني داخل مجتمع ديمقراطي يواجه تحديات كبيرة.