كانت الهوة كبيرة بين الكلمات الاحتفالية التي أُلقيت أثناء افتتاح الدورة الخامسة والسبعين لمعرض فرانكفورت للكتاب، التي احتفت بحرية الكلمة وأهمية تبادل الأفكار، وبين الواقع، وما أقدم عليه المعرض في الأيام الأخيرة من إقصاء لصوت الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي.
كان من المفترض أن يفتتح هذه الدورة اليوبيلية المستشار الألماني أولاف شولتز (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، لكنه سافر في اليوم نفسه إلى إسرائيل ليعرب عن تضامنه معها، فنابت عنه وزيرة الدولة للثقافة كلاوديا روت. أكدت روت (من حزب الخضر) تضامنها المطلق مع إسرائيل ووصفت هجوم "حماس" عليها بالبربري. وأشادت بدور المعرض كساحة لقاء بين الأفكار الحرة، وشددت على أهمية هذا الدور في فترات الحروب والأزمات بشكل خاص.
لكن الاحتفاء "بالأفكار الحرة" لم يستمر طويلاً. فعندما تحدث الفيلسوف سلافوي جيجيك – ممثلاً لسلوفينيا ضيف شرف هذه الدورة – عن القضية الفلسطينية، قوطع مراراً بصيحات استهجان، بل وغادر البعض القاعة لأنه تجرأ وتحدث عن أهمية الإصغاء إلى الصوت الفلسطيني. وبعد حفل الافتتاح قابلت معظم وسائل الإعلام الألمانية كلمة جيجيك بالاستهجان، ووصفتها صحيفة "بيلد" اليمينية بـ"الفضيحة".
ماذا قال الفيلسوف في كلمته؟
لم يهاجم جيجيك إسرائيل أو يشكك في الحق في وجودها، ولم ينفِ حقها في الدفاع عن نفسها، كلا، لقد بدأ كلامه بإدانة واضحة لهجوم "حماس" على إسرائيل، "إدانة من دون قيد أو شرط"، ثم أضاف: "إنني أعطي إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، والقضاء على ما يهدد أمنها. لكن بمجرد أن يبدأ المرء في تحليل خلفيات الصراع، تحوم حوله الشبهات بأنه يدعم الإرهاب". تحدث جيجيك عن "فرض حظر على التحليل"، وأضاف: "لا يمكن أن يسود السلام في الشرق الأوسط من دون حل القضية الفلسطينية". عندما نطق جيجيك بهذه الجملة تصاعدت صيحات استهجان من الحاضرين، ونهض مفوض ولاية هسن لمكافحة معاداة السامية، أوفه بيكر (من الحزب الديمقراطي المسيحي)، وغادر القاعة أكثر من مرة، ثم قاطع جيجيك قائلاً إنه بذلك "يهوّن من شأن الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)". فصاح جيجيك بدوره: "أنا لا أهوّن من أي شيء، ولا أبرر الجريمة. يجب الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، ويجب أيضاً مكافحة معاداة السامية." وأضاف جيجيك: "كل الذين سبقوني، تحدثوا عن إسرائيل، ولم يتحدث أحد عن الفلسطينيين". واعتبر الفيلسوف السلوفيني إرجاء منح جائزة "ليبراتور" إلى الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي "فضيحة". وأضاف قائلاً: "إنني أشعر بالفخر لوجودي هنا، لكنني أيضاً أشعر ببعض الخجل".
حاصلون على "نوبل" ينتقدون إخراس الصوت الفلسطيني
وكان ما يزيد على ستمئة كتاب ومترجم وناشر قد وجهوا رسالة مفتوحة إلى المعرض، انتقدوا فيها قرار تأجيل منح جائزة "ليبراتور" إلى عدنية شبلي عن روايتها "تفصيل ثانوي". ومن بين الموقعين ثلاثة من الحاصلين على جائزة نوبل، وهم آني إرنو، وعبد الرزاق قرنح، وأولغا توكارتشوك، إضافة إلى الناقدة المشهورة يوديث هِرمان، والكاتبة النمساوية ذات الجذور اليهودية إيفا ميناسه المتحدثة باسم نادي القلم في برلين. وانتقد الموقعون إدعاء "ليتبروم"، الجهة المانحة، أن التأجيل حدث بموافقة الكاتبة، فالعكس هو الصحيح، لقد أرادت شبلي أن تنتهز الفرصة للتحدث عن دور الأدب في هذه الفترة المؤلمة والمفزعة. وأشار الموقعون إلى مسؤولية معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في إتاحة الفرصة أمام الكتاب الفلسطينيين للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وتأملاتهم، بدلاً من إخراسهم. وجاء في الرسالة: "إن علينا أن نبحث عن لغة جديدة وأفكار جديدة للتعامل مع هذا الزمن المظلم على نحو جديد. ولهذا فنحن بحاجة إلى الكتّاب – أيضاً إلى الكتّاب الفلسطينيين - أكثر من أي وقت مضى".
وكان مدير معرض فرانكفورت يورغن بوس قد ادعى أن الجهة المانحة هي التي قررت التأجيل، وأنها تبحث عن إطار آخر ملائم في وقت لاحق، وأضاف أن المعرض ينوي إتاحة فرصة أكبر للأصوات الإسرائيلية بسبب الظروف الراهنة. ولم يذكر أحد في الإعلام الألماني أن بوس، مدير المعرض، هو أيضاً رئيس مجلس إدارة جمعية "ليتبروم"، إلى أن كشفت ذلك الصحافة الأميركية. لذا أقر المتحدث باسم المعرض أمس بوجود "سوء تفاهم" في ما يتعلق بموافقة عدنية شبلي على تأجيل حفلة الجائزة. وتبلغ قيمة الجائزة 3000 يورو.
في إثر إرجاء منح عدنية شبلي الجائزة، أعلن عدد من المشاركين العرب مقاطعتهم لدورة هذا العام من المعرض، ومنهم اتحاد الناشرين العرب، وهيئة الشارقة للكتاب، وكذلك اتحاد الناشرين الإماراتيين، كما أعلنت ماليزيا مقاطعتها للمعرض. وقالت الناشرة جوديث غرويتش إن إلغاء حفل يكرم كاتبة فلسطينية مهمة "هو خطأ جسيم ارتكتبه ألمانيا. لقد كفرت ألمانيا عن الهولوكوست، على نحو محترم ومرئي للغاية، أما دعم إسرائيل في عزمها على ارتكاب إبادة جماعية، فهو أمر لا يعبر عن موقف أخلاقي".
سلمان رشدي يحصل على جائزة السلام
ويمثل منح جائزة السلام المرموقة الذروة التقليدية لمعرض فرانكفورت للكتاب. وسيحصل الكاتب البريطاني الهندي سلمان رشدي (76 سنة) على جائزة هذا العام "لصلابته، ولموقفه الإيجابي من الحياة، ولأنه يثري العالم عبر قصصه"، مثلما ذكرت رابطة تجار الكتب في ألمانيا المانحة للجائزة. وأضافت الرابطة أن رشدي يثير الإعجاب بتفسيراته للهجرة والسياسة العالمية منذ صدور روايته "أطفال منتصف الليل" عام 1981، وأنه يجمع في رواياته بين البصيرة السردية والإبداع الأدبي، وبين الفكاهة والحكمة. وقالت إن رشدي لا يزال واحداً من المدافعين المتحمسين عن حرية الفكر واللغة – حريته الشخصية، وأيضاً حرية أشخاص لا يشاطرهم وجهات نظرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، أعرب سلمان رشدي عن سعادته البالغة وشعوره بالامتنان، وقال: "إنني أشعر بشيء من الرهبة أمام قائمة الفائزين بالجائزة". وتبلغ قيمة الجائزة 25 ألف يورو، ومن بين الحاصلين عليها في السنوات السابقة الكندية مارغريت أتوود (2017)، وسفيتلانا ألكسييفتش من روسيا البيضاء (2013)، والإسرائيلي دافيد غروسمان (2010)، والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (2001).
وكان رشدي قد تعرض إلى اعتداء في آب (أغسطس) 2022، فَقَدَ في إثره عينه اليمنى. وروايته الأخيرة "مدينة النصر" هي أول عمل يظهر له بعد هذا الاعتداء. وقال رشدي في أحاديث صحافية إنه يعمل حالياً على كتاب يتناول فيه ما حدث له، ومن المنتظر صدوره في نيسان (أبريل) المقبل.