ملخص
تجميد الاهتمام الشعبي بالانتخابات الرئاسية المقرر لها أن تبدأ بعد أسابيع قليلة لا يعني إلغاء لكن يعني انشغالاً وانغماساً في قضايا مغايرة تحت وطأة الأحداث الفادحة المتواترة في غزة التي تدق باب مصر
لم تكن غزة على قائمة مكونات البرامج أو مقايضات الأصوات أو مكايدات المعارضة أو حتى جهود جماعة "الإخوان المسلمين" والمتعاطفين معها استعداداً للانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة، لكنها بعد ساعات قليلة من "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري أصبحت مكوناً رئيساً، إن لم يكن الرئيس في مسار الانتخابات.
تم تصنيف الانتخابات هذه المرة بأنها الأكثر تسبباً للشد والجذب، وثاني أكثر انتخابات رئاسية في تاريخ مصر إثارة للاستقطاب. صحيح أن الاستقطاب هذه المرة ليس بين فريق إسلامي ومعه الكارهون والمعارضون لنظام الرئيس السابق الراحل حسني مبارك، وآخر غير إسلامي، مثلما جرى في انتخابات عام 2012، إلا أنه يظل استقطاباً ولكن أكثر تشعباً وتشعثاً.
اقتصاد ومصريون وإخوان
الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة شعبت مشكلات المصريين وشعثت المواقف الثابتة التي جمعتهم قبل عقد، وتحديداً في عام 2013 حين وقفت الجموع على ضفتين لا ثالثة لهما: ضفة الإخوان وضفة المصريين الرافضين للإخوان. وعلى رغم عدم تطابق مكونات كل ضفة مع بعضها بعضاً، واحتواء كل منهما على أيديولوجيات وأولويات وانتماءات غير متناغمة بالضرورة، فإن الغاية الكبرى كانت، إما إبعاد الجماعة عن سدة الحكم، أو التمسك بتلابيب أعضاء الجماعة أو متعاطفين أو متسامحين معها قرب سدة الحكم.
كان هذا في عام 2013 حين تفجرت الأحداث الشعبية الرافضة لحكم الرئيس السابق الراحل الإخواني محمد مرسي، ومعها محاولات أعضاء الجماعة عبر قواعدها الشعبية الإبقاء عليه. وجاءت انتخابات عام 2014 لتكون بمثابة استفتاء شعبي على من لبى نداءات الشارع في عام 2013 بالتخلص من حكم جماعة "الإخوان المسلمين"، ألا وهو الرئيس عبدالفتاح السيسي.
لكن الزمن والأحداث والتطورات لم تبق الأمور عند حد الجماعة من عدمها، بل وجدت مصر والمصريون والرئيس أنفسهم في أوضاع اقتصادية صعبة، بعضها لأسباب عالمية والبعض الآخر يتعلق بعوامل داخلية، فتحولت الأنظار والاهتمامات على رغم الجميع صوب منصة شد بين الرئيس ومؤيديه والحكومة والمسؤولين من جهة، وجذب بين معارضي الرئيس "التقليديين" من أعضاء الجماعة وأبناء عمومتهم من جماعات شبيهة، وكذلك الرافضين رئيساً من خلفية عسكرية وضلوع الجيش في تفاصيل الحياة المدنية.
أحدهم نقر خاصية التجميد
وتبدو مدن مصر وقراها وشوارعها حالياً في حال يختلف كلياً عما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر الجاري، حتى لافتات تأييد السيسي لولاية جديدة، وحراك المرشح الذي كان محتملاً أحمد الطنطاوي، وصخب التوكيلات والشد والجذب بين من يشكون التضييق والتسويف في مكاتب الشهر العقاري أمام الراغبين في تحرير توكيلات لغير الرئيس الحالي، ومن ينكرون التضييق وينفون التسويف، وكذلك القيل والقال المصاحبان لمرشحين باتوا في حكم المؤكدين مثل عبدالفتاح السيسي وحازم عمر وفريد زهران وعبدالسند يمامة وكل تلك الأجواء خفتت، وكأن أحدهم نقر خاصية التجميد.
تجميد الاهتمام الشعبي بالانتخابات الرئاسية المقرر لها أن تبدأ الأول من ديسمبر (كانون الأول) المقبل للمصريين في الخارج، والـ10 من ديسمبر في داخل مصر لا يعني إلغاء، لكنه يعني انشغالاً وانغماساً بمعضلات ومشكلات أخرى غير الاقتصاد، وذلك تحت وطأة الأحداث الفادحة المتواترة التي تدق باب مصر.
باب مصر في رفح
باب مصر القابع في معبر رفح الذي وجد نفسه ضالعاً وفاعلاً في الحرب الدائرة بين "حماس" (وإلى حد ما "حزب الله") وإسرائيل ليس السبب الوحيد للضلوع المصري في الأحداث الراهنة، لكنه، وما يعنيه، انضم إلى قائمة من المعطيات التي دفعت الاهتمام الشعبي بالانتخابات بعيداً من الصدارة، وحل محلها الاهتمام بما يجري في غزة، وما ستسفر عنه الأحداث في الأراضي الفلسطينية وكذلك مصر. خفت الاهتمام بالانتخابات، لكنه لم يختف. وتبدلت قائمة الأولويات، وألقت بظلال يراها كثر تصب في مصلحة المرشح الرئاسي شبه المؤكد عبدالفتاح السيسي.
من دون ترتيب مسبق أو تنظيم مزمع، أفسح برنامج الرئيس السيسي الانتخابي غير المعلن بعد، الطريق للحرب في غزة والأزمة الإنسانية المريعة الدائرة رحاها على بعد كيلومترات معدودة من حدود مصر، وعلى بعد ميلليمترات من قلب مصر، حيث القضية الفلسطينية تشكل جزءاً من الوعي الجمعي المصري منذ عام 1948. وأصبح "طوفان الأقصى" ومعه "السيوف الحديدية" نقطة قوة للمرشح السيسي، سواء أسعد ذلك مؤيديه أو أتعس معارضيه.
عودة التفويض
ليس هذا فقط، بل إن تصاعد الإشارات المبهمة تارة، والحديث المباشر تارة أخرى حول وطن بديل، أو مخيم موقت، أو تهجير غير معلن لأهل غزة في سيناء المصرية أمد الرئيس المرشح بقدر كبير من القوة، وآخر غير قليل من الشعبية، مما يمكنه من التلميح بخروج 105 ملايين مصري (تعداد سكان مصر) للتعبير عن رفض هذه الفكرة (تهجير الفلسطينيين إلى سيناء)، بقوله خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتز أول من أمس الأربعاء، "سترون الملايين من المصريين يخرجون للتعبير عن دعم الموقف المصري".
خروج الملايين إلى الشارع لدعم الموقف المصري الرافض لفكرة التهجير في سيناء يختلف عن خروج الملايين إلى الشارع لرفض استمرار حكم جماعة "الإخوان المسلمين" لمصر في عام 2013، ولطلب دعم الجيش ممثلاً بوزارة الدفاع المصرية وعلى رأسها آنذاك الوزير المشير السيسي للقيام بالمهمة. يختلف عنوان اجتياح الملايين للشوارع، لكنه يتشابه لدرجة التطابق في تفويض السيسي، وزيراً (2013) أو رئيساً (2023).
وما حدث على أرض الواقع بعد ساعات من حديث الرئيس المصري أثناء المؤتمر الصحافي مع المستشار الألماني، هو أن مناطق عدة في مصر شهدت تظاهرات "شعبية" متضامنة مع الشعب الفلسطيني، وذلك على رغم أن التظاهرات والاحتجاجات والتجمعات في الشارع المصري تحولت إلى "تاريخ" من جهة، وأمر محفوف بأخطار أمنية وقانونية من جهة أخرى.
مسيرات طلابية في عدد من الجامعات، وتجمعات تبنتها أحزاب سياسية، وتجمعات نقابية مدروسة هتفت وصاحت "فلسطين عربية" و"بالطول والأرض مش هنسيب الأرض" (لن نترك الأرض) و"الشعب يريد إسقاط إسرائيل"، ثم هتفت وصاحت أيضاً تأييداً للرئيس في رفض التهجير، ومعها جاءت هتافات لا تعني إلا تفويضاً للرئيس في إدارة معضلة غزة وما يتعلق بها من مسائل تتعلق بالأمن القومي المصري. وعلى رغم أن هذه التظاهرات - التي يسمح بها رسمياً وتغطى إعلامياً بإيجابية - لم تشر من قريب أو بعيد إلى دعم الرئيس كمرشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإنها تحمل ضمناً دعم الرئيس مرشحاً، ومن ضمن مهامه الرئاسية الحالية والمقبلة إدارة ما تتعرض له مصر من ضغط غربي وإسرائيلي وإقليمي مموه لفتح حدود سيناء وطناً بديلاً أو مخيماً مزمناً لأهل غزة.
من جهة أخرى، ولكن في سياق الدعم الانتخابي الرئاسي غير المباشر، أعلن "تحالف الأحزاب المصرية" (يتكون من 42 حزباً) تفويض الرئيس لاتخاذ الإجراءات التي يراها مناسبة لحماية أمن مصر، كما أعلن عدد من الأحزاب السياسية المنفردة دعماً شبيهاً للرئيس في ملف غزة وما أصبح يعنيه من تهجير إلى سيناء. وأصبحت الأحزاب والكيانات السياسية ومعارضو الأمس القريب، "غير الداعمين" أو "غير المفوضين" للسيسي في هذا الشأن فئة قليلة بعد ما كانت أصوات بعضهم وقدراتهم قد بدأت تكتسب زخماً في الأيام التي سبقت يوم السابع من أكتوبر.
تليين عقول القاعدة
فئة من المعارضين الناشطين في الأغلب عبر منصات التواصل الاجتماعي كانت تعول على تليين عقول قاعدة عريضة من المصريين البسطاء الذين يعانون الأمرين بفعل أوضاع اقتصادية طاحنة، إذ ارتفاع معدل التضخم في المدن المصرية بنسبة 38 في المئة في سبتمبر (أيلول) الماضي على أساس سنوي مقابل 37.4 في المئة في أغسطس (آب) الماضي، ناهيك بارتفاع أسعار الطعام والمشروبات بنسبة 73.6 في المئة على أساس سنوي في سبتمبر الماضي.
هذا التعويل صاحبته جهود "تدوينية وتغريدية" موجهة إلى قاعدة عريضة من المصريين لا تقل عن 30 في المئة، هي نسبة من يعيشون أعلى قليلاً، أو على، أو تحت خط الفقر، وذلك بحسب الأرقام الرسمية التي يتوقع أن تكون أكثر بكثير بعيداً من معايير القياس النظرية الجامدة.
الجهود العنكبوتية المبذولة من قبل جهات وأفراد يمكن تصنيفها كــ"معارضة" على مدى سنوات حكم السيسي، التي اشتعلت حدتها وتفجرت شدتها في الأسابيع القليلة الماضية، يصفها مؤيدو الرئيس بنعوت تتراوح بين "الخبيثة" و"التهييجية" و"المنظمة"، في حين يراها المعارضون وفئة من المواطنين الأكثر معاناة من الأوضاع الاقتصادية "واقعية" و"حقيقية" ولا تحتاج إلى تهييج أو تهويل أو من يحزنون.
الحزن الحقيقي الحالي هو من نصيب فئات من المعارضة، لا سيما العنكبوتية، إذ الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية لا يمكن تصنيفها كمعارضة بل مؤيدة وداعمة. هذه الفئات وجدت جهودها المنصبة على "إيقاظ المصريين من غفوتهم السياسية" و"استعادة رغبتهم في التغيير" ومحاولة إعادة نشر منظومة "رئيس مدني" (في مقابل رئيس بخلفية عسكرية) في الأجواء، وهي المنظومة التي شكلت جزءاً من الحراك السياسي الشعبي في مصر في أحداث عام 2011، والأشهر التي تلتها.
هدف العودة للسياسة
الأحداث الجارية حققت هدف عودة قطاع عريض من المصريين إلى الاهتمام بالسياسة والضلوع في مناقشات وسجالات لا تقتصر بالضرورة على سعر طبق البيض ومآل عبوة الحليب وجنون الشاي والسكر والزيت، أو حتى التسعيرة الجديدة للدروس الخصوصية والقيمة التعسفية التي يفرضها "السياس" وسائقو الـ"توك توك" وغيرهم من مقدمي الخدمات العشوائية من دون ضابط رقابي أو رابط أخلاقي. هذه العودة غير المحسوبة أو المرتقبة، أعادت إلى الرئيس المرشح عبدالفتاح السيسي جزءاً غير قليل من الشعبية التي أهدرتها الأوضاع الاقتصادية.
شعبية الأوضاع الاقتصادية المتضائلة في أحاديث المصريين واهتماماتهم، التي كانت أيضاً الشغل الشاغل لعدد غير قليل من وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية أو بلغاتها، تزحزحت وتقهقرت وتراجعت أمام سطوة الحرب على غزة وهيمنة صورها وتسلط أجوائها. حتى تلك التقارير الصغيرة والأخبار الضئيلة عن أوضاع البلاد الاقتصادية وظروف العباد المعيشية صارت تقابل إما بـ"عدم القراءة" أو الاتهام بـ"انعدام الحساسية"، حتى في صفوف كثر من المواطنين العاديين من المعارضين للأولويات الاقتصادية والغاضبين من الأحوال المعيشية.
غزة شغل شاغل
الأحوال المعيشية لأهل غزة صارت شغلاً شاغلاً لملايين المصريين. ومصير أهل غزة المجبرين على الوقوع بين طرفي "كماشة" حيث القصف شمالاً أو النزوح جنوباً، والأول يعني موتاً شبه مؤكد، والثاني يلمح باضطرار شبه يقيني إلى اجتياز أو اجتياح معبر رفح صوب شمال سيناء، بات هماً من هموم المصريين حالياً. همّ القضية، وهمّ سيناء، وهمّ الحرب الدائرة رحاها على رؤوس المدنيين الفلسطينيين، والهموم الإقليمية والدولية الناجمة حتماً عن الأوضاع الملتهبة أثرت سلباً في الخيارات الرئاسية التي كانت مطروحة بشكل أو بآخر حتى الأمس القريب.
الأمس القريب كان مشاحنات عنكبوتية ونقاشات شارعية وطروحات افتراضية يحلو للبعض أن يعتقد أنها كانت حقيقية حول خيارات المصريين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومعظمها يدور حول الأوضاع الاقتصادية والأولويات، وإلى حد ما أحوال الحريات وهوامش الرأي والرأي الآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قدرات الإصلاح
مساجلات ومناظرات المصريين صالت وجالت وغاصت في قدرة المرشح فلان على إصلاح الأوضاع، وإمكانات المرشح علان في التغيير نحو الأفضل، ومقومات المرشحة الفلانية للتفكير في المنصب، وما لكل من طرحت أسماؤهم لمنصب الرئاسة من خبرات وقدرات لإدارة بلد بحجم مصر وشعب بثقل المصريين.
اليوم تبدو منصات السجالات وحلبات المناظرات وكأنه قد تم تصفيرها. لا صوت يعلو على صوت ما يجري في غزة، ولا همّ يفوق همّ ما سينجم عنه "الطوفان" وما ستسفر عنه "السيوف". ما يمكن قراءته بين سطور مناقشات المصريين، وما يمكن استشرافه في ضوء دفة الحوارات هو أن "طوفان" هجمات "حماس" و"سيوف" ردود إسرائيل ستضع من دون أدنى شك أمن مصر وسلامة حدودها ووحدة أراضيها في موقف صعب وحساس، إن لم يكن خطراً ومهيباً.
مجلس الأمن القومي
الشعور بالهيبة الذي يعتري كثراً كلما ذكر اسم "مجلس الأمن القومي" في جملة مفيدة في نشرة أخبار أو عنوان تقرير أو شرح لخبير يقول كثيراً هذه الأيام. ترؤس الرئيس السيسي اجتماع "مجلس الأمن القومي" الأحد الماضي أثار كثيراً من الاهتمام. مجرد ذكر اسم المجلس الذي أسس في فبراير (شباط) 2014 بهدف إقرار استراتيجيات أمن البلاد، وحماية هوية الدولة وسيادتها واستقلالها، رسخ شعوراً عاماً لدى فئة من المصريين بأن المرحلة و"الطوفان" و"السيوف" لا تتحمل مغامرة رئاسية بأي شكل من الأشكال، مهما كانت واعدة أو بدت مبشرة.
"مجلس الأمن القومي" الذي انعقد على خلفية "تطورات التصعيد العسكري في قطاع غزة وتطورات الأوضاع الإقليمية" كما ورد في البيانات الرسمية، أضاف بنداً رئيساً إلى برنامج المرشح السيسي، وهو البرنامج الذي لم يكتب أو يعلن بعد. بند أمن مصر القومي، وقدرة البلاد على مواجهة أخطار عبر الحدود، وما يجري على بعد كيلومترات معدودة من تصعيد عسكري وضغط على أهل غزة للنزوح جنوباً (صوب الحدود المصرية)، والخوف من تسلل عناصر غير مرغوب فيها بين المدنيين، ربما تعيد منطقة شمال سيناء إلى ما كانت عليه عقب انقلاب الإرادة الشعبية المصرية على حكم جماعة "الإخوان" في عام 2013، جميعها هموم تفرض نفسها على فكر المصريين، وتصب رأساً في مصلحة المرشح الرئيس.
المرشح الرئيس أكد في اجتماع "مجلس الأمن القومي" أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا حل الدولتين، إضافة إلى رفض صريح واستهجان واضح لسياسة التهجير، أو محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب "دول الجوار"، كما أكد المجلس أن أمن مصر القومي خط أحمر، ولا تهاون في حمايته.
وشكلت الكلمات والجمل ما أرادت قاعدة عريضة من المصريين أن تسمعه في مثل تلك الأحوال والأيام الصعبة. ولأن الوضع جلل، والظرف جسيم، فإن قاعدة أخرى توقفت "موقتاً" عن توجيه الانتقادات العنيفة وتصويب التعليقات الحادة إلى النظام والرئيس.
رئيس ذو خلفية عسكرية، وتحديداً استخباراتية عسكرية، بدا الأنسب والأصلح والأفضل بين "طوفان" وصبيحته، لكن الأمر لا يخلو أيضاً من أن بعض الواقفين على الضفة الأخرى، وتحديداً بين معتنقي نظريات المؤامرة، يعتقد أو يروج أن جزءاً من الأحداث الدامية جرى من أجل الإبقاء على الرئيس في منصبه.
منصب الرئيس
لن يخلو منصب الرئيس في الانتخابات المقبلة من مكون أمني قومي شديد الحضور، طاغي الأثر. وبين مؤيدي الرئيس السيسي من يعتبر وصول رئيس مدني بلا خبرة عسكرية ودراية استخباراتية وفطنة سياسية انتحاراً للبلاد والعباد. وبين معارضيه من يعتبر أي رئيس مدني - بلا خبرة عسكرية أو استخباراتية أو سياسية - أمراً طبيعياً، إذ الرئيس هو موظف عام يستعين بخبرة واستشارة متخصصين في شؤون الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والتجارة، وكذلك الدفاع.
وتحولت دفة البرامج الانتخابية من الاقتصاد إلى الأمن القومي من دون سابق إنذار. وكثير ممن بدأوا يفكرون جدياً في التغيير، ويدرسون إمكانية التعديل في الانتخابات المقبلة، عادوا أدراجهم إلى ما يطلق عليه صفة "المرشح الآمن".
اللافت أن أذرع جماعة "الإخوان" الإعلامية المتناثرة في دول عدة وعبر منصات مختلفة وجدت نفسها هي الأخرى مضطرة إلى تحويل دفة الاهتمام من دعم مرشحين محتملين كان أبرزهم أحمد الطنطاوي، والدق على أوتار "إخفاقات" النظام الحالي صوب غزة وما يجري في القطاع. وعلى رغم ذلك لا يفوتها الربط بين الأحداث الدامية والانتخابات المقبلة. الطريف أن القناة نفسها تبث برنامجاً حوارياً "توك شو" يؤكد أن السيسي لا يولي اهتماماً لأهل فلسطين ويترك أهل غزة يموتون ويصابون ويشردون، ومن ثم فقد باع القضية، ثم تبث برنامجاً آخر يجزم أن الرئيس السيسي سيفتح حدود سيناء أمام سكان غزة ليجري توطينهم وخلعهم من أرضهم وتفريغ فلسطين من أهلها، ومن ثم فقد باع القضية.
قضية غزة وما يجري داخل القطاع في القلب من الانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة على رغم أنوف الجميع، ومن دون سابق إنذار أو تجهيز أو إعداد. المؤكد أنها ستضيف إلى شعبية الرئيس المرشح السيسي. والمؤكد أيضاً أنها لن تحل وحدها المعضلات الاقتصادية التي يشكو منها كثر، أو تحسن أوضاع الحقوق والحريات التي يتوق إليها كثر أيضاً، لكنها أضافت مكون "فقه الأولويات" في اختيار الرئيس.
هذا الفقه يتجلى ويتجسد ويتصاعد بمرور الأيام والساعات. مجلس الشيوخ المصري اتفق في جلسة طارئة أول من أمس على تفويض الرئيس السيسي "في اتخاذ ما يلزم من إجراءات لدعم ومساندة القضية الفلسطينية، وحماية الأمن القومي المصري".
هاشتاغ "مليونية التفويض" اجتاح منصات عنكبوتية. فنانون وفنانات ونقيبهم أشرف زكي خرجوا يعلنون تفويضهم الرئيس في مقاطع مصورة. صيغة تفويض تجول أرجاء الأثير حالياً تنص على "أفوض أنا المصري الرئيس عبدالفتاح السيسي في ما يلي: حماية أرض مصر من الأخطار والحرب مع إسرائيل وتجنب إنهاء مسيرة سلام استمرت عقوداً. حماية سيناء من مخطط تحويلها إلى مسرح حرب وعمليات عسكرية. حماية الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم "فلا دولة بلا شعب". حماية القضية الفلسطينية من الاندثار إلى الأبد حال تهجيرهم إلى مصر والأردن".
وتستمر التفويضات ويطغى الحديث عن الأمن القومي، ولا يخلو الحراك من دعم غزة وشعب فلسطين، وتندثر المكونات الكلاسيكية لأجواء ما قبل الانتخابات الرئاسية من اقتصاد وتعليم وصحة وطرق وغذاء، ولا صوت يعلو على صوت الخطر الداهم على الحدود والتفويض الذي يراه كثر تفويضاً لتحقيق الأولويات، وإن ظل آخرون يعتبرونه تفويضاً هو أشبه بالتفويض، ليبقى المرشح عبدالفتاح السيسي رئيساً لفترة رئاسية جديدة، مع توقعات بأن التفويض ربما يغني عن التصويت.