Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم غضبت "بجعات" المجتمع المخملي النيويوركي على كابوتي

صاحب كتاب "بدم بارد" حاول التأريخ لسهرات "الشاطئ الباسكي 1965" فخسر صداقات حميمة

لقطة من فيلم "بدم بارد" الذي اقتبسه ريتشارد بروكس عن كتاب كابوتي الأشهر (موقع الفيلم)

حدث ذلك في عام 1965 حين وقع بين يدي واحدة من كبريات سيدات المجتمع الراقي في مدينة نيويورك ثلاثة فصول من كتاب كان لا يزال قيد الإنجاز ونشرتها تحت عنوان هو غير الذي سوف يحمله الكتاب لاحقاً. وهي ما إن قرأت صفحات معينة من الفصول التي كانت مجلة "إسكواير" قد أعلنت عن قرب نشرها، حتى انتقلت إلى غرفتها وأغلقت الباب على نفسها وأقدمت على الانتحار. يومها بفضل تحقيقات سريعة أجرتها الشرطة جرى الربط بين ذلك المصير الذي اختارته لنفسها امرأة كانت قبل ذلك بعشر سنوات قد اتهمت بقتل زوجها الثري، وبين قراءتها لما في الكتاب. كان عنوان الفصول "الشاطئ الباسكي 1965" وكان من المفترض أن تشكل جزءاً من رواية ستحمل لاحقاً حين ستنشر غير مكتملة على أية حال عنوان "صلوات مستجابة". أما المؤلف فكان ترومان كابوتي الذي كان نجم المجتمع النيويوركي المخملي في ذلك الحين، لا سيما بعد النجاح الساحق الذي حققه كتابه "بدم بارد" الذي صدر في العام نفسه الذي نشرت فيه الفصول المذكورة، ولكن من المؤكد أن ليس لكتاب "بدم بارد" علاقة بانتحار السيدة التي لم يكشف عن اسمها إلا لاحقاً ليتبين أنها آن وودورد. لكن العلاقة كانت أكثر من واضحة بين الانتحار وما يرويه كابوتي في فصول "الشاطئ الباسكي 1965"، ومع ذلك لم يوجه أحد حينها للكاتب أي اتهام، كل ما في الأمر أن زملاء له في الكتابة من أمثال غور فيدال وتنيسي ويليامز غمزوا من قناته للمناسبة، لكن ذلك لم يهمه ولم يحزنه، وجاء حزنه الأكبر من مكان آخر تماماً.

... وانفرط عقد البجعات

جاء الحزن من انفراط عقد صداقات كانت عزيزة عليه وبالتحديد لأنها تتعلق بمجموعة من نساء كبيرات في ذلك المجتمع كان قد تمكن من أن يحيط نفسه بهن في جلسات شبه منتظمة يعقدونها معاً في مطعم في المدينة يحمل اسم "الشاطئ الباسكي". كن سيدات من طينة جاكلين كنيدي وبيغي غوغنهايم (راعية الفنون الثرية ومؤسسة المتحف الذي يحمل اسم عائلتها)، وكاتارينا غراهام (تلك الصحافية الكبيرة مالكة "الواشنطن بوست" التي ستلعب دورها لاحقاً ميريل ستريب في الفيلم البديع الذي كرسه ستيفن سبيلبرغ للصحيفة التي فضحت قضية "ووترغيت" وأخرجت ريتشارد نيكسون من البيت الأبيض في سابقة في التاريخ الأميركي)، وعدد من أرستقراطيات الثقافة والحياة الاجتماعية الأخريات التي كانت السيدة المنتحرة واحدة منهن. والطريف أن كابوتيي الذي كان يصر دائماً على اعتبار نفسه "واحداً" منهن كان "الذكر" الوحيد في تلك اللقاءات التي يتولى هو فيها دفة الحديث راوياً لـ"البجعات" كما كان يسميهن، أو بالأحرى "بجعاتي" كما كان يناديهن، حكايات بالغة الطرافة يقوم معظمها على النميمة والأكاذيب التي يخترعها لمجرد الترفيه عنهن، كأن يزعم مثلاً أنه كان الصديق الوحيد الذي ارتبط بعلاقة ودية مع... غريتا غاربو، أو أن الممثل آيرول فلين كان واحداً من عشاقه. وكانت تلك الخبريات تجعل السيدات الموقرات عادة يغرقن في الضحك.

نميمة متواصلة

غير أن لقاءات "الشاطئ الباسكي" كانت دائماً لقاءات تجمع كل البجعات معاً يستمعن إلى طرائف كابوتي وما يخترعه وما يغدقه عليه مزاج نميمته الذي عادة ما يتناول زملاءه الكتاب لا سيما منهم عدواه اللدودان نورمان ميللر وغور فيدال، دون أن يفوته أن "يكشف أسراراً" تتعلق بهم - وبفضائح كان غالباً ما يخترعها وهو يعرف أن بجعاته لا يصدقنها، بل يأخذنها على محمل التفكه وتزجية الوقت، وببعض من عرف من أهل "هوليوود" التي كثيراً ما كان يزورها مرتبطاً بصداقات مع أهلها، لا سيما مع مارلون براندو صديقه المقرب الذي كتب عنه "بروفايل" مبكراً أسهم في تبوؤ مارلون المكانة التي صارت له. وفي المقابل كانت له لقاءات أخرى في مطاعم ونواد نيويوركية متنوعة تجمعه في كل مرة مع واحدة أو اثنتين فقط من "البجعات"، فيكون موضوع هذا النوع من اللقاءات نميمة على البجعات الأخريات غير الحاضرات هنا، وفي نهاية الأمر كانت المسألة كلها لعبة اجتماعية يبدو التكاذب فيها مشتركاً ومقبولاً عند حدود معينة، لكن الذي حدث ووضع حداً لكل ذلك هو أن الكاتب في وقت كان يحرص على أن تكون النسخ الأولى من كل كتاب جديد يصدر له في ذلك الحين، من نصيب "البجعات" حرص حين وصلت الفصول الأولى من كتابه المقبل لتنشرها "إسكواير" تحت عنوان "الشاطئ الباسكي 1965" إلى المطبعة، أن يخفي أمرها عن "البجعات" وذلك بالتحديد لأن موضوعها هذه المرة كان واحدة من تلك السيدات أنفسهن، وبدا الكتاب مليئاً بالسخرية التي وصلت في بعض الصفحات إلى حدود ثأر طبقي لا يصرح باسمه، ولكن حتى هذا الأمر كان من الممكن أن يغتفر له... لولا تلك الصفحات التي أثارت ثائرة السيدة التي لم تسم أبداً في ذلك الحين ودفعتها إلى الانتحار. وكانت الفصول تتحدث بكل بساطة عن فصلين من حياة السيدة، أولهما ذاك الذي يتحدث عن تبرئة المحاكم لها من تهمة قتل زوجها، "لعدم كفاية الأدلة" وليس لأية اعتبارات أخرى، والثاني عن علاقة كانت سرية بين آن وودوارد نفسها وبين صاحب محطة "سي بي سي" الذي كانت زوجته باربرا كاشنغ الملقبة بيبي واحدة من "البجعات" الأكثر نفوذاً حينها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غضب ومقاطعة وشتائم

هنا أمام خبر الانتحار المؤسي لآن وودورد، الذي سرعان ما تبين أنه ناتج من قراءتها للفصول المذكورة، لم يعد في وسع "البجعات" أن يسكتن أكثر فقررن مقاطعة الكاتب من دون إعلامه بالأمر، إذ أدركن أخيراً أنه في حقيقة الأمر يستغلهن ويتلاعب بهن بحسب ما سوف يقال، وهو على أية حال لم يعلم بالمقاطعة إلا من خلال تداول الخبر في الصحف وهنا سارع كما سيروي صحافيون لاحقاً، إلى الاتصال بكل واحدة منهن فأقفلن سماعات هواتفهن في وجهه دون أن تنبس أي منهن بكلمة، جن جنونه وراح يستعطف ولكن ما من مجيب، بل كانت معظم الردود على محاولات التوفيق بينه وبينهن عبارة عن كلمة واحدة أو كلمتين تصفانه في أحسن الأحوال بـ"المتوحش" و"الكاذب"، وبـ"الأزعر السخيف" و"الأفعى". وهنا لجأ إلى صحافي صديق له يتمتع بنفوذ وجدية كبيرين لدى تينك السيدات وهو ونستون غروم على أمل أن يصالحه مع بيبي التي كانت من أكثرهن تعاطفاً معه في الماضي وسعادة بلقائه والإصغاء إلى حكاياته، لكن جوابها الوحيد كان، "لا أريد أن أراه حتى ولا ميتاً!". وكان من نتيجة ذلك أن أسقط في يد ترومان كابوتي وفهم أن ثمة مرحلة من حياته قد انتهت فغرق في نوع من انهيار عصبي جعله عاجزاً عن كتابة حرف بعد ذلك. فبالنسبة إليه كانت مجموعة "البجعات" مبرر وجوده وسعادته الوحيدة خلال السنوات الأخيرة من تلك المرحلة من حياته، هن اللواتي كان غالباً ما يجد لديهن مواضيعه ويقطف من بين صفوفهن أناقة وسلطة شخصياته النسائية التي تدور حولهن رواياته عادة، ويجعل منهن أول قارئاته وخير مشجع له، وها هو الآن يقع في فخ نصبه لنفسه، كان فخاً من النوع الذي لا يمكن الإفلات منه أبداً، والحقيقة أن في مقدورنا هنا أن نقول إن ترومان كابوتي، المولود عام 1924 والذي سيرحل في عام 1984 إنما دون أن يكتب شيئاً طوال السنوات المتبقية من حياته باستثناء كتابه البديع على أية حال "موسيقى من أجل حرباء"، كان قد انتهى تماماً، بل إن كتابه "صلوات مستجابة" عاد وأصدره كما هو، أي كما كان توقف عنه حين اندلعت فضيحة "الشاطئ الباسكي 1965" أي كرواية غير مكتملة. ولم يبق له من صديقات الأمس على أية حال سوى هاربر لي صديقة طفولته الكاتبة التي ستشتهر بروايتها "قتل عصفور ساخر" التي بقيت تتعاطف معه حتى النهاية هي التي لم تكن على أية حال من "البجعات"، بل كانت تحتقرهن علناً على الدوام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة