ملخص
يبدو أن الثقافة الذهنية في إسرائيل باتت تدور عكس عقارب الساعة، فيما يرسي شعبها في مجمله مرحلة الاتباع والديكتاتورية بعدما انتهى المؤسسون من زرع عقل متقد قادر على حماية فكرة الدولة
تمثل جولات الحرب المتكررة في غزة فرصة دوماً لمراجعات تقليدية، فهي من ناحية أضحت أهم تحد لمشهد السكون واستمرار الأمر الواقع للاحتلال الإسرائيلي، وخلالها وفي أعقابها اعتاد كثير من العرب رفع سقف التوقعات والأماني بتحريك الموقف، في المقابل تستغل إسرائيل الموقف لإحلال مزيد من التدمير للبنية التحتية الفلسطينية، على أن خطورة الجولة الحالية أنها تتجاوز التدمير وانتهاكات الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلى ما يبدو، وكأنه تسريع لمشروعات إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية أو لإفشال هذه المشروعات.
ولقد تراجع ذلك الزمان الذي كنا نتحدث فيه بلغة الحتميات، فقد صار العالم معقداً ومتشابكاً بشكل لافت، ومع ذلك كان من الممكن أن أصف شخصياً الصراع الدائر حتى الآن في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع" بأنه كان حتمياً في ضوء وجود قوتين مسلحتين واحدة شرعية والأخرى كذلك، في الأقل حتى انقلابها على الأولى الشرعية المؤسسية.
ولقد عشنا زمناً طويلاً في حتميات الصراع العربي - الإسرائيلي، وأن الحق الفلسطيني سينتصر إن عاجلاً أو آجلاً، ومع أن الأمر الآن يبدو معقداً، إلا أن ثمة حتميات لافتة في المشهد.
ولعل أبرز حتمية، لعلي لم أكن وحدي من أثارها، وهي حتمية المسار الراهن في السياسة الإسرائيلية. من يتأمل الفكرة الصهيونية منذ نشأتها سيجد بذورها، فالفكرة أساسها حق الشعب اليهودي في إنشاء وطن قومي مؤسس على الرواية التوراتية، من جهة مفردات عدة: شعب الله المختار، وأرض الميعاد. وكنا مع دارسي الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية حتى الثمانينيات نسمح للبعض بقدر من الاندهاش أن يقود الفكرة مجموعة من العلمانيين شبه اليساريين بل بعضهم يساري التوجهات بالفعل، وأن يلعبوا دوراً محورياً في تأسيس الدولة واستغلال توجهات اليمين الديني لجذب الهجرات وتعبئة المجتمع، ويمارسون ادعاء التباعد عن قيام العناصر اليمينية المتطرفة بأعمال إرهاب وقتل الفلسطينيين، بل وحتى اغتيال وإرهاب الحلفاء البريطانيين الذين كانوا يريدون دعم إسرائيل بقدر من التوازن.
من هذا الطريق كان السياق التاريخي في حتمية انحسار التيارات اليسارية والديمقراطية، ليس فقط لأن الأولى أي اليسارية تنحسر عالمياً، بل لأن الفكرة الصهيونية كانت في حاجة إلى كوادرها المثقفة والتعبوية لخدمة بناء المشروع ومخاطبة العقل الغربي، التي تستمد منه جذورها، ومن ثم تنتفي الحاجة إلى هذه التيارات بعد ترسخ أقدام الدولة.
ويلعب الخطاب التعبوي التحريضي الذي كرسته القيادات المؤسسة ناتجه الحتمي في نشأة أجيال أكثر تطرفاً وانغلاقاً، فهي ليس مطلوباً منها التفكير والمراجعة والعقل النقدي، بل مطلوب تبرير العنصرية وتكريس مفاهيم شعب الله المختار الذي يبصق على المسيحيين في القدس، ويمعن في قتل المسلمين، لا يفكر ولا يتشكك في ما يفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا عقل آخر غير عقل المؤسسين، ولا عقل المتظاهرين الخائفين على ديمقراطية الدولة، فالعقل المتشكك النقدي يمكن أن يراجع نفسه، ويتفاعل إنسانياً مع ضحايا الانتفاضة الفلسطينية، مثلما فعل كثير من زعماء اليهود في الولايات المتحدة الذين لعبوا دوراً مشهوداً في الدعم والدفاع عن الدولة الصهيونية، لم يعد هؤلاء مطلوبين، بل مكروهين وربما خونة للفكرة والنقاء اليهودي كما هي نظرة بن غفير، فعندها هم يقوضون المشروع الصهيوني وربما لا مانع من مغادرتهم أرض الميعاد أيضاً. هي إذاً مآلات وحتمية طبيعية للفكرة الصهيونية ذاتها.
ووفقاً لهذه التركيبة السياسية أيضاً يصبح المشروع الاستيطاني واضحاً أو بالأدق يصبح كذلك، نستبعد غزة أولاً ثم نعيدها أرضاً محروقة بلا بشر، ويتم الاستيلاء التدرجي بكل العنف الممكن على أراضي الضفة الغربية، ويجب أن يتم هذا سريعاً في ظل الترتيبات الدولية المواتية التي قد تتغير في المستقبل وقد تصبح الأمور أصعب.
الحتمية الثانية أثر المعضلة الديموغرافية في الأراضي المحتلة، فعلى رغم أنها كانت أكبر كثيراً لحظة الاستيلاء على الضفة والقطاع ومرتفعات الجولان عام 1967، وعالجتها إسرائيل سريعاً بهجرة مواطني شرق أوروبا، خصوصاً الاتحاد السوفياتي وكذا النمو السكاني وأيضاً تغذية اليمين الديني الذي يساعد على كثرة الإنجاب، فإن التحدي عاد وبقوة خلال العقود الأخيرة مع نمو نسبة عدد السكان الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة كلها، فتهميش عرب إسرائيل لا يكفي، وكل حيل إفساد صوتهم الانتخابي وإحباطهم لا تكفي أيضاً لتهدئة مشاعر الخوف عند اليمين الإسرائيلي من نمو هذه الكتلة السكانية والتصويت ضدها بما يعرقل استقرار الحكومات اليمينية التي تشجع خططها على الاستيطان.
بالنسبة إلى هذا اليمين كان الأمر مزعجاً، نسب التمثيل العالية نسبياً في الكنيست حتى لو كانت لا تعبر عن الحجم السكاني الحقيقي لهم، فالمستقبل يحمل تهديدات وبخاصة لو اضطرت مستقبلاً إلى ضم نسبة ولو ضئيلة من سكان الضفة الغربية لدول الجوار، الذين لن يتزحزحوا من الأرض على رغم تواصل خطط الاستيطان وخنق سكان الضفة، الذي ثبت أنه لم يغير من أعدادهم إلا بدرجة محدودة بفضل معدلات الإنجاب العالية.
في النهاية هذه الضغوط التي تفرضها الحتمية الديموغرافية تدفع اليمين الإسرائيلي لإجراءاته التصعيدية والمتطرفة التي تولد الانفجار الفلسطيني الذي هو أيضاً مطلوب عند هذه القوى المتشددة لتبرير مزيد من إجراءات القمع والاستيطان، ولكن تظل هذه الحتمية أيضاً أبرز العوامل التي قد تحسم في النهاية معضلة تأخر إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
الأمر الأخير الذي لم يتأكد بعد أنه يمكن أن يشكل حتمية فهو استحالة تكرار ما حدث من إبادة جماعية للسكان الأصليين في أي مكان إلا في العالم الجديد في أستراليا وبعض مجتمعات الأميركتين وليس كلها، ففي أميركا اللاتينية كثير من الخليط البشري الذي يمتد إلى الجماعات الأصلية، والمشروع الصهيوني منذ بدايته افترض إمكانية تحقيق الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني القاطن في الأراضي المحتلة من طريق القتل والإرهاب والإزاحة، التي تشكل من غزة محورها الراهن، وسيكون له خطوات تالية تجاه الضفة الغربية، وقد يصبح هدفاً تجاه عرب إسرائيل 48 المهمشين بالفعل الذين تنتشر في أوساطهم الجريمة والبطالة والتطرف الديني والإحباط، ومع ذلك تتزايد أعدادهم بمعدلات كبيرة تنذر بزيادة أخطار عدم الاستقرار والاضطرابات الاجتماعية في أوساطهم وفي الدولة الإسرائيلية.
وعلى رغم كل مظاهر الضعف الفلسطيني جراء الانقسام وغياب الزعامة القادرة على قيادة نضال صعب ومعقد لاستعادة الحقوق، وفي ظني أن هذا أبرز أبعاد الضعف الفلسطيني الراهن، فإن مسألة الإبادة الجماعية من خلال النزوح أو القتل التي تحاولها السياسة الإسرائيلية تبدو أمراً بالغ الصعوبة في ظل العالم المعاصر.
خلال قرون سابقة أسهمت العزلة في نجاح الإبادة، وفي العالم الجديد لم يحدث هذا لا في العصور المعاصرة وربما ولا حتى في العصور الوسطى، والمثال اليهودي ذاته شاهد على ذلك، فقد تمكن اليهود من البقاء في أوروبا على رغم قرون من الاضطهاد، وعلى رغم خسائر الأرمن البشرية الضخمة فقد تمكنوا في النهاية من تأسيس دولة، والنماذج التي شهدتها القارة الأفريقية في رواندا وحتى السودان مع كلفتها البشرية الهائلة لم تكتمل وما كان يمكن لهذا أن يحدث.
وفي الحقيقة أنه على رغم ثمن الصمود الفلسطيني البارز والضروري في الوضع الراهن فإن ما يحدث هو البروفة الحقيقية لما يمكن أن يمثله عدم إمكانية تحقق الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في العصر الحديث، وفي ظل التوازنات الديموغرافية، بل ربما يصبح الانتصار عليه، أي على هذا المشروع، من الحتميات.
وفى جميع الأحوال نحن على أعتاب مرحلة فارقة خطرة، ولكنها تتضمن فرصاً مع ذلك لو تدارك جانب من الشعب الإسرائيلي ومن العالم الغربي المنحاز أنه قد آن أوان وقف هذه الجرائم الخطرة، التي لا تتفق مع القيم الإنسانية القائمة على العدل والمساواة، وأنها تعيد البشرية لأزمنة ولت، وأن الإصرار على هذا النهج قد تكون تبعاته مدمرة لإسرائيل ولكل المنطقة.