Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المعتقلات السرية في المغرب... المصالحة مع التاريخ والمكان

محاولات جادة لطي صفحة أليمة من الماضي ولكن بعض الندوب النفسية قد يصعب نسيانها

تحويل سجن تازمامارت إلى مركز لحفظ الذاكرة (أ ف ب)

ملخص

سلك معتقلون سابقون مسارات عدة في مرحلة ما بعد الاعتقال، ولم يقفوا مكتوفي الأيدي يجترون آلام الماضي ونكساته وخيباته، بل استطاعوا شق طريق النجاح بجدارة

تخلص المغرب بصورة حاسمة من "الماضي الأسود" الذي يُعرف بمرحلة "سنوات الرصاص" التي اتسمت بسياسة القمع والاعتقالات ضد الأصوات المعارضة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وذلك من خلال تحويل معتقلات سرية إلى أماكن للحياة العامة ومراكز لحفظ الذاكرة الجماعية.
وعلى رغم ذلك لا يزال معتقلون سياسيون سابقون يحملون ندوباً داخلية جراء ما تجرعوه في تلك الزنازين السرية المليئة بالآلام والموت البطيء، قبل أن تقرر الدولة المغربية إنهاء وجودها أو تحويلها إلى مراكز ثقافية تنضح بالحياة.

واستطاع كثير من هؤلاء المعتقلين على رغم ذلك شق مسارات جديدة في الحياة أعانتهم على تناسي ذلك "الماضي الأليم".

أشهر المعتقلات السرية

ومن أشهر المعتقلات السياسية التي كانت توصف حينئذ بكونها "سرية" معتقل "تازمامارت" الموجود في ضواحي مدينة الريش جنوب المغرب، وكان يضم وفق روايات معتقلين سابقين 58 زنزانة استقبلت عشرات المعتقلين العسكريين وحتى بعض أفراد أسرهم، خصوصاً بعد محاولتي الانقلاب الفاشلتين ضد الملك الراحل الحسن الثاني عامي 1971 و1972.
وتواترت سرديات المعتقلين السابقين الذين مروا في هذا المعتقل المشيد داخل ثكنة عسكرية بناها الجيش الفرنسي خلال مرحلة الاستعمار، وأخبرت عن بعض أوصاف هذا السجن السري، إذ كانت كل زنزانة مستطيلة الشكل بطول ثلاثة أمتار وعرض مترين وعلو أربعة أمتار، وكان النزلاء يعيشون في ظلام دامس من دون تهوية إلا من ثقوب صغيرة.
وأنكرت السلطات المغربية وجود هذا المعتقل السري طوال أعوام إلى أن قررت في آخر المطاف إغلاقه عام 1991، وخصصت الدولة مبلغاً مالياً كبيراً من أجل تحويل هذا السجن الرهيب إلى مركز لحفظ الذاكرة، من خلال إقامة مشاريع اقتصادية واجتماعية في المنطقة.
وأما معتقل "درب مولاي الشريف" الشهير الموجود في مدينة الدار البيضاء، فكان في البداية مقراً عادياً للأمن قبل أن يتحول إلى معتقل سري خلال الفترة الممتدة بين عامي 1959 و1991، وفق هيئة الإنصاف والمصالحة، وهي هيئة حكومية خاصة بتسوية ملف الاعتقالات والانتهاكات الحقوقية.
وتخصص "معتقل درب مولاي الشريف" المسمى على اسم الحي الذي يقع فيه، في سجن المعارضين السياسيين، خصوصاً في فترات شد الحبال بين الدولة والمعارضة السياسية، سواء كانوا يساريين أو حتى إسلاميين، ومثل "معتقل تازمامارت" الذي تحول إلى مركز لحفظ الذاكرة، فإن السلطات الحقوقية ممثلة في المجلس الوطني لحقوق الإنسان عمدت عام 2021 إلى تحويل معتقل "درب مولاي الشريف" إلى مكان للدعم الطبي والنفسي والترويض الحركي لمصلحة ضحايا المعتقل السابقين وأسرهم وسكان الحي.
بدوره كان "معتقل أكدز" السري الموجود في ضواحي مدينة ورززات جنوب البلاد، يستقبل عشرات المعتقلين العسكريين والسياسيين طوال "سنوات الرصاص"، قبل التخلص من هذا الماضي السيئ وإعادة الاعتبار لضحايا بجبر ما لحقهم من ضرر مادي ومعنوي.
وحولت الدولة معتقل أكدز إلى فضاء ثقافي مفتوح بعدما كان سجناً مغلقاً يحمل كثيراً من الأسرار الرهيبة للضحايا، وفتحت أبوابه للعموم حيث يمكن زيارة 33 قبراً داخله بشواهد ونصب تحمل أسماء الضحايا.


حفظ الذاكرة

ودخل المغرب في أجواء المصالحة مع الماضي من خلال إغلاق المعتقلات السرية وتنزيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة على الأرض، والتي سبق لها أن خصصت تعويضات مالية لجبر ضرر ضحايا الانتهاكات بأكثر من 14 مليون دولار.
ويعتبر المجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية) تحويل مثل هذه المعتقلات غير النظامية إلى فضاءات ثقافية أو خدماتية أو مراكز لحفظ الذاكرة "خطوة حاسمة نحو تحقيق مصالحة تفاعلية وإيجابية مع المكان والتاريخ والمجتمع أيضاً".
وشكل مجلس حقوق الإنسان "وحدة حفظ الذاكرة" ومهمتها "البحث الموضوعي في التاريخ الراهن وامتداداته التي قد تعرقل بصورة مباشرة أو غير مباشرة تكريس دولة الحق والقانون، وأيضاً التفاعل مع مختلف أنواع التدوين الشخصي للأحداث التاريخية ذات الصلة بالانتهاكات السابقة، فضلاً عن التأهيل السوسيو-اقتصادي لمراكز الذاكرة، ثم إنشاء المتاحف والعناية بالأرشيفات".
وفي هذا الصدد شدد المعتقل السياسي السابق صلاح الوديع على أهمية التوثيق بأشكاله كافة لما حصل في تلك المعتقلات السرية، بهدف إثراء الذاكرة الجماعية للمغرب، باعتبار أن ما حصل جزء لا يتجزأ من تاريخ المغرب المستقل.
وثمّن الوديع ما سماه "تحويل الألم إلى أمل، والخصومة إلى مصالحة وعدم الاستقرار إلى سلم اجتماعي، من خلال ترميم وإصلاح ذاكرة البلد المجروحة بسبب اجترار ذكريات ما وقع في تلك الزنازين السرية، بهدف الطي النهائي للصفحات السوداء للماضي".

وربط الوديع بين المكان والتاريخ، "فالمعتقلات السرية كأمكنة كانت ترمز إلى حقبة مريرة في تاريخ المغرب ما بعد الاستقلال، دفع فيها عدد من أبناء البلد حرياتهم وأغلى ما يملكون، وبتحويلها إلى فضاءات ثقافية أو مراكز لحفظ الذاكرة يتحقق نوع من المصالحة مع التاريخ والماضي".

نجاحات مهنية

وسلك معتقلون سابقون مروا في تلك الزنازين السرية مسارات عدة في مرحلة ما بعد الاعتقال، ولم يقفوا مكتوفي الأيدي يجترون آلام الماضي ونكساته وخيباته ويرددون مواويل الأسى والألم، بل استطاعوا شق طريق النجاح بجدارة واستحقاق.
وصلاح الوديع أحد هؤلاء المعتقلين السياسيين السابقين، فقد خرج من الزنزانة التي قضى فيها ردحاً من الزمن بسبب انتمائه لحركة "23 مارس" الماركسية اللينينية الراديكالية، ليخط نجاحاً لافتاً في مجال الكتابة الإبداعية، كما أنه عمل عضواً في الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وزاول كثيراً من المهن الحقوقية المهمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جمال بن عمر بدوره كان معتقلاً سياسياً في شبابه خلال "سنوات الرصاص" بسبب انتمائه اليساري، لكنه بعد مغادرته البلاد استطاع أن يتسلق مناصب دبلوماسية سامية عدة، كان آخرها عمله مستشاراً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اليمن بين عامي 2011 و2015، أما عبدالقادر الشاوي الذي قضى 15 عاماً في الاعتقال السياسي بمدينة القنيطرة، فخرج من الزنزانة ليخط أول رواية له صُنفت في أدب السجون سماها "كان وأخواتها"، ولم يكتف بالنجاحات الأدبية التي حققها بل تم تعيينه سفيراً للمغرب لدى تشيلي قبل أعوام خلت.

إدريس بنزكري شخصية أخرى جربت ويلات الزنازين السرية بسبب انضمامه للتيار الماركسي اللينيني، إذ ذاق الأمرين في سجن درب مولاي الشريف وحكم عليه بالسجن 30 عاماً قبل أن يغادر أسوار المعتقل ليصبح أحد أبرز الوجوه الحقوقية الرسمية، إذ عُين عام 2003 رئيساً لهيئة الإنصاف والمصالحة التي أنشأت لإرساء أجواء المصالحة مع الماضي وجبر ضرر المعتقلين السياسيين.

وأما أحمد المرزوقي الذي كان ضابطاً عسكرياً قبل أن يجد نفسه متورطاً في محاولة انقلابية ضد الملك الراحل الحسن الثاني، على رغم عدم علمه ورفاقه بما دُبر من طرف رؤسائه ليحاكم رفقة آخرين ويزج به في سجن تازمامرات الرهيب حيث أمضى 18 عاماً كاملة، ليخرج ويفرج عن آلامه المبرحة في روايات أدبية أشهرها "الزنزانة رقم 10".
وهذه النجاحات المهنية التي حظي بها كثير من خريجي "السجون السياسية غير النظامية" بالمغرب لم يحققها آخرون ممن لا يزالون حتى اليوم يتجرعون مرارة الاعتقال وتداعيات عدم الاندماج الكامل في المجتمع بعد تجربة الزنزانة.
ويلخص المرزوقي متاعب هذه الفئة في "عدم تحقيق مطلب الاستفادة من التقاعد باعتبار أن معتقلي سجن تازمامارت كانوا عسكريين، كما لم تتسلم عائلاتهم رفات بعضهم، علاوة على الظروف الاجتماعية التي يعيشونها منذ خروجهم من جحيم تازمامارت".

ندوب اجتماعية ونفسية

هذه الندوب الاجتماعية داخل نفوس نزلاء المعتقلات السرية يراها الباحث في الشأن السياسي والاجتماعي محمد شقير قائمة وغائرة لدى الذين بقوا أحياء بعد خروجهم من المعتقلات السرية التي وظفت كآلية للصراع السياسي، سواء بين "حزب الاستقلال" ومنافسيه من الأحزاب، مثل "دار بريشة"، أو بين السلطة ومعارضيها مثل "درب مولاي الشريف"، أو معارضيها العسكريين من خلال "معتقل تازمامارت".

ويشرح شقير أن التعويضات المادية التي صرفتها الدولة لهؤلاء المعتقلين في سياق "هيئة المصالحة" لا يمكن أن تمحو "آثار التعذيب والإذلال التي تعرضوا لها، فضلاً عن محاولة كسر صمودهم عبر بعض أدوات التعذيب التي كانت تروم تجريد المعتقل من إنسانيته".
ويسترسل قائلاً إن "هذا التكسير المعنوي والنفسي هو الذي يلتصق بالمعتقل حتى بعد حصوله على حريته، إذ يصعب أن يسترجع بعض سمات شخصيته السابقة وبخاصة أن غالبية المعتقلين والمعتقلات لا يُعرضون على أطباء نفسيين، وحتى إن وجدوا فلا يكونون متخصصين لعلاج مثل هذه الحالات".
وفي المقابل يستدرك شقير أن "جلسات الاستماع التي نظمت من طرف هيئة المصالحة ونقلتها شاشات التلفزة أسهمت في تخفيف المعاناة النفسية لبعض المعتقلين، إذ كان ذلك بمثابة علاج جماعي لهذه الفئات وساعد في التنفيس عن بعض المعاناة لكثير من المعتقلين من خلال الاستماع والبكاء الجماعي".
ولفت المحلل إلى أن "لجوء معتقلين إلى الكتابة في ما سمي بأدب السجون أسهم بدوره في تخفيف شيء من المعاناة النفسية وعلاج بعض الندوب النفسية التي تركها السجن في حياتهم"، مورداً أن "عائلات المعتقلين تعاني بدورها تلك الندوب بسبب الاقتحامات البوليسية والبحث في مخافر الشرطة ومعاملة السجانين، مما يستوجب من الدولة توفير أطباء نفسانيين متخصصين لتتبع الحالات النفسية لكل هؤلاء المعتقلين والمعتقلات وعائلاتهم".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير