ملخص
لغرابة الصدف أن معركة فلسطين احتدمت بعد أسبوعين من إنجاز الصواريخ الإيرانية، فحضرت المدمرات والحاملات الأميركية، وغابت صواريخ المهدي وسليماني عن المشهد، لتسقط أوهام كثيرة حول دور ملالي إيران وحرصهم على فلسطين العربية.
بعد مرور أسبوعين على "طوفان الأقصى" والرد الإسرائيلي التدميري المميت على قطاع غزة يزداد السؤال إلحاحاً عن الموقف الإيراني الفعلي من القضية الفلسطينية ومن المعركة التي فتحتها "حماس" المنظمة المرتبطة عضوياً بإيران وقيادتها.
خلال أسبوعين دمرت إسرائيل جزءاً كبيراً من المناطق المأهولة في القطاع ودفعت بمئات الألوف من سكانها نحو الجنوب وقتلت منهم ما يزيد على أربعة آلاف شخص وإصابة أكثر من 12 ألفاً، قسم كبير منهم من المدنيين الأطفال والعجز.
كما تواصل إسرائيل عمليات التدمير والتهجير تمهيداً لفرض واقع جديد على المنطقة التي انسحبت منها قبل 18 عاماً وسلمتها للسلطة الوطنية الفلسطينية قبل أن تنقلب "حماس" على هذه السلطة وتقيم حكمها الخاص في غزة منذ عام 2007، مدعومة من إيران ومشروعها التاريخي للإمساك بالمنطقة العربية باسم فلسطين والقضية الفلسطينية وتحرير القدس وما إلى ذلك.
لم تخف إيران طوال السنوات الماضية طموحاتها العربية من البحر المتوسط إلى الخليج العربي، ودائماً كانت القدس عنواناً لتغطية وتبرير تلك الطموحات، احتضنت "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة، وفي لبنان جعلت من "حزب الله" فصيلاً مكلفاً بتحرير فلسطين.
وفي سوريا نظمت ميليشياتها لدعم نظام بشار الأسد وجعلت لهم شعاراً يتصل بتحرير القدس، وفي العراق نظمت ميليشيات "الحشد الشعبي" لتوطيد سلطة فريقها المذهبي، لكنها أعطته مهمة فلسطينية تبدأ بمواجهة الأميركيين.
وفي اليمن حيث سيطر أتباعها الحوثيون على السلطة في صنعاء اخترعت لهم شعارات فضفاضة عن تحرير فلسطين قوامها: الموت لإسرائيل، الموت لأميركا، الموت لليهود.
الشعارات نفسها تتردد في تظاهرات طهران، مع تعديلات تناسب المصلحة الإيرانية، لكن النتيجة أن إيران تمكنت من إعداد جيوشها المحلية التابعة تحت عنوان بارز هو فلسطين، فيما كان كل جيش من تلك الجيوش منصرفاً إلى تعزيز نفوذه المحلي في البلدان المعنية والدفاع عن سياسات طهران وتجميل صورتها في مجتمعات عربية جرى تمزيقها.
أعادت حرب غزة الأدوار إلى أحجامها، كشفت بسرعة مستوى الانخراط الفعلي للقيادة الإيرانية في معركة التحرير الفلسطينية، وبينت أن الهدف الإيراني المرسوم لكل ميليشيا من ميليشيات "محور الممانعة" هو أولاً الدفاع عن إيران في حال تعرضها لهجوم مباشر، وثانياً خوض المعارك المتفرقة بما يخدم مصالح تلك الميليشيات المباشرة وفي الوقت نفسه مصالح إيران البعيدة المدى في تثبيت حضورها وتعزيز موقعها التفاوضي مع الخصوم الكبار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قال محللون كثر إن هجوم "حماس" في ضواحي غزة كان له هدفان: واحد إيراني، مضمونه تعطيل المفاوضات الأميركية- السعودية ونسف مشروع الممر الهندي من جهة، وتعزيز موقف الفصيل الحليف في المناخ الفلسطيني العام، على حساب المنظمات الأخرى، وضدها في آن، من جهة أخرى.
السلوك نفسه ينتهجه الحوثيون في اليمن، يؤخرون السلام والتسوية ويزيدون في عوامل تعطيلها مع انطلاق الحديث عن المفاوضات الأميركية- السعودية، ثم ينخرطون في الحملة الخطابية لدعم غزة ويبحثون عن طريق إليها فيما كانت صواريخهم الإيرانية قادرة على الوصول إلى مكة وأقصى شرق الخليج.
لا يختلف موقف "حزب الله" كثيراً، أطنان الخطابات عن حيفا وما بعد حيفا تقف عند حدود قذائف مدروسة بتأن على طول الحدود اللبنانية بانتظار ما سيقرره المرشد، ساعة الحزب الإيرانية لم تأت بعد، بمعنى أوضح أن مهمة الميليشيات الأبرز في الجهاز الإيراني تبدأ عند الهجوم على إيران، وليس في إضاعة الجهود على سفوح الجليل.
سلوك الميليشيات العراقية كان معبراً، حيث تخطت صدمة دمار غزة وذهبت مباشرة إلى التهديد الاستراتيجي، هادي العامري رئيس ميليشيات "بدر" ورئيس الإطار التنسيقي المتحالف مع إيران قال إن "موقفنا واضح، على الأميركيين أن يفهموا، إذا تدخلوا في المعركة فسنتدخل وكل الأهداف الأميركية سنعتبرها حلالاً وسنستهدفها"، وشرح زميله أكرم الكعبي أمين عام حركة "حزب الله" (النجباء): "لن ننضم للحرب إلا إذا تدخلت أميركا"، أما كتائب "حزب الله" وهي فصيل عراقي آخر يدين بالولاء لطهران فشدد على أن "واجب المقاومة الديني يلزمها أن تكون في أرض المعركة، وقد تم توجيه الصواريخ والمسيرات والقوات الخاصة لاستهداف الأميركيين"، والقول الفصل يأتي لاحقاً، فصواريخ "الكتائب" يمكنها أن "تصيب إسرائيل إذا لزم الأمر".
إذا لزم الأمر هو لزوم ما لا يلزم في سلوك طهران نفسها، فمع أن مختلف التحليلات تساءلت عن دورها في هجوم "حماس"، فإنها حرصت على النأي بنفسها عن موجبات المعركة وزادت من وتيرة حديثها عن استعدادات "محور المقاومة" الذي أنشأته للانخراط فيها.
وفي لفتة أثارت الانتقادات داخل إيران نفسها نشرت صحف إيرانية خريطة لتوزع قوى ذلك المحور مع إغفال ذكر الرأس في طهران، كان ذلك نوعاً من الاستخفاف المرير بكل نظرية الممانعة ووحدة ساحتها من أجل التحرير، وفضحاً للتجارة الإيرانية المديدة بقضية الشعب الفلسطيني.
خلال أسبوعين من الهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة، والتهديد بطرد الشعب الفلسطيني إلى سيناء والأردن، بقيت المواقف الرسمية الإيرانية متراوحة بين إدانة لفظية لإسرائيل ودعوة لدعم إنساني لسكان القطاع وحديث عن" فتح المحاور" غير الإيرانية، بدت إيران فعلياً كمن يهدد خصمه بسكين جاره.
في الأيام الأولى حرص المرشد علي خامنئي على إنكار أي دور في التخطيط لـ"الطوفان"، و"قبل أيادي الفلسطينيين الذين خططوا للهجوم"، ثم تطوع الرئيس إبراهيم رئيسي للقول إن "طهران تدعم فلسطين لكن جماعات المقاومة تتخذ قراراتها بنفسها".
بعده هرع حسين أمير عبداللهيان إلى جولة، استمع خلالها إلى " تقييم مفصل من حسن نصر الله" والتقى زعيم "حماس" إسماعيل هنية في قطر ليؤكدا على "التعاون المستمر لإنجاز أهداف المقاومة والشعب الفلسطيني".
منذ تلك اللقاءات عمم اللهيان وجهة نظره ولم يضف إليها جديداً، "استمرار إسرائيل في هجومها سيلقى رداً من محور المقاومة"، وسرعان ما جاءه "الرد التوضيحي" من بعثته في الأمم المتحدة، "إيران لن تتدخل إلا إذا هوجمت مباشرة".
كان ذلك مثار اهتمام الصحافة الإيرانية في حينه، نقلت تلك الصحف أن "جبهات أخرى في حالة استنفار" (خراسان الأصولية) وأن "الحرب ستتوسع" (كيهان المقربة من خامنئي). وإذا دخلت إسرائيل إلى غزة "فلن نبقى ساكتين" (صحيفة جوان التابعة للحرس الثوري).
وشرح الدبلوماسي الإيراني السابق عبدالرضا فرجي راد معنى الكلام الصحافي فأوضح أن ما يقصده رئيسي واللهيان هو "دخول الجماعات الموالية لإيران مثل حزب الله والحوثيين في الحرب وليس إيران"، لأنها "لن تتدخل بنفسها بسبب عدم وجود حدود برية بينها وبين إسرائيل".
لم تقصر السلطة في استعمالها للشارع تضامناً مع غزة، وسرت في إيران حملة على التواصل الاجتماعي قيل إنها جمعت أربعة ملايين متطوع للقتال في فلسطين، ولم يتغير موقف الحكومة ومرشدها، فهي تكتفي بميليشيات محورها، تمسكها تماماً وتقرر كيفية استخدامها في الزمان والمكان المناسبين لحماية نظام الملالي أولاً وأخيراً.
قبل أسبوعين فقط من غزوة "طوفان الأقصى" أعلنت إيران عن صاروخها الجديد باسم "قاسم سليماني" وقالت إن مداه 1400 كيلومتر، وهو مخصص تحديداً "لتحرير القدس"، قبله في يوليو (تموز) الماضي أطلقت صاروخها "أبو مهدي المهندس" المخصص لضرب حاملات الطائرات من مدى ألف كيلومتر.
لغرابة الصدف أن معركة فلسطين احتدمت بعد أسبوعين من إنجاز الصواريخ الإيرانية، فحضرت المدمرات والحاملات الأميركية، وغابت صواريخ المهدي وسليماني عن المشهد، لتسقط أوهام كثيرة حول دور ملالي إيران وحرصهم على فلسطين العربية.