ملخص
سؤال الدولة ومنطقة الريف يظل مستمراً ومتجدداً في المغرب مع مرور الوقت لعديد من الاعتبارات... فما هي؟
علاقات "متشنجة ومتوترة" جمعت طيلة عقود بين الدولة المركزية ومنطقة الريف في المغرب، منذ استقلال البلاد سنة 1956 إلى اليوم، اتسمت بانتفاضات واحتجاجات اجتماعية، على رغم محاولات السلطات تنمية الإقليم بهدف إرساء مصالحة سياسية.
تقع منطقة الريف في أقصى شمال المغرب، وتتوزع جغرافيتها بين جبال شاهقة وغطاء نباتي كثيف، ويقطنها أمازيغ يسمون "ريافة" ويتكلمون باللهجة الريفية التي تعد إحدى اللهجات الثلاث المشكلة للغة الأمازيغية في المغرب.
مسارات الشد والجذب
لفهم مسارات الشد والجذب بين السلطة المركزية ومنطقة الريف في المغرب يلزم القيام بـ"إطلالة تاريخية" على فترة الاستعمار ثم ما بعد الاستقلال، إذ في سنة 1912 اقتسمت فرنسا وإسبانيا مناطق البلاد، وخضعت مناطق الريف والصحراء لسيطرة إسبانيا تحت مسمى "الحماية".
في خضم هذه الأحداث قاد الزعيم الريفي المعروف محمد عبدالكريم الخطابي مقاومة "ريافة" ضد الاحتلال الإسباني للمنطقة، وعام 1923 تشكل مجلس شورى لتنظيم المقاومة، الذي أعلن بعد ذلك تأسيس "جمهورية الريف"، قبل أن يتعرض الخطابي للنفي إلى خارج البلاد، ليتوفى في مصر سنة 1962.
أما في مرحلة ما بعد استقلال المغرب، فقد شهدت منطقة الريف عدداً من الأحداث التي عكست غضب السلطة المركزية من "ريافة"، بسبب واقعة إعلان "جمهورية الريف"، من أبرزها الانتفاضة الشعبية الشهيرة لسنة 1984، وأيضاً أحداث الريف (حراك الريف) التي اندلعت بعد مقتل بائع السمك الشاب محسن فكري في 28 أكتوبر (تشرين الأول) من سنة 2016، وعلى أثرها اعتقل وسجن عديد من المحتجين على رأسهم "قائد الحراك" ناصر الزفزافي.
يلخص أستاذ التاريخ بجامعة مكناس إبراهيم القادري بوتشيش مسار التشنجات والتوترات السياسية والاجتماعية بين الريف والدولة المركزية في محطات رئيسة، أهمها ما سمي بانتفاضة أو ثورة الريف لعام 1958، التي تسميها السلطة المركزية "أحداث شغب" من تدبير حركة انفصالية في الريف.
تفيد المعطيات التاريخية المتطابقة أن "انتفاضة الريف" المحملة بمطالب سياسية واجتماعية، أبرزها رفع التهميش التنموي عن المنطقة، انطلقت بقيادة سلام أمزيان في السابع من أكتوبر سنة 1958 وأخمدت في 13 مارس (آذار) من سنة 1959، بعد أن بعث الملك الراحل إلى الريف العسكر لقمع "العصيان المدني" وقتها، وسقط على أثرها عديد من الضحايا، ليسمي "ريافة" هذا العام "عام إقبارن"، للدلالة على إقبار طموحات ومطالب الريف.
يستعرض بوتشيش محطات أخرى من مسارات التوتر بين الريف والسلطة المركزية من خلال "انتفاضة سنة 1984"، التي سميت حينها "انتفاضة الخبز"، وعمت عدداً من مدن البلاد، ولكنها كانت أقوى وأشد في مدن منطقة الريف، ليتدخل الملك الراحل بنفسه ويخمد هذه الاحتجاجات بالقوة، كما وصف في خطاب تاريخي شهير المحتجين بكونهم "أوباش".
وبتقلد الملك محمد السادس مقاليد الحكم سنة 1999، انفرجت أسارير العلاقة المتوترة بين الدولة والريف، وانطلق العمل على جبر ضرر ساكني الريف، بل إن العاهل المغربي دشن زيارات لمدينة الحسيمة التي تلقب بجوهرة الريف، غير أن "حراك الريف" جاء ليوقف هذه الخطوات، بعد أن اندلعت احتجاجات مطالبة بالتنمية الاقتصادية و"رفع التهميش والإقصاء"، عقب مقتل بائع للسمك له علاقة بالسلطة المحلية سنة 2016.
سيكولوجية الغضب
في السياق يعزو أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة وجدة، محمد سعدي، مؤلف كتاب "حراك الريف.. ديناميات الهوية الاحتجاجية"، نشوب "انتفاضة 1958"، إلى "التهميش الذي عانت منه المنطقة، وأيضاً التعامل السيئ لممثلي الإدارة المركزية في المنطقة مع الساكنة".
ووفق سعدي، في تلك الفترة الزمنية عانى أهل الريف من سلسلة اغتيالات واختطافات ومطاردات استهدفت بالخصوص أعضاء حزب "الشورى والاستقلال" والمتعاطفين معه في الريف، وجيش التحرير الذي انطلقت عملياته العسكرية في المنطقة في أكتوبر 1955، ومنذ ذلك التاريخ تتعرض المنطقة لعقاب جماعي ممنهج أسهم في تهميشها وإقصائها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد توالي الأحداث اهتزت الأرض تحت أرجل ساكني منطقة الريف في 24 فبراير (شباط) عام 2004، ما أفضى إلى وقوع خسائر بشرية ومادية، وكانت فرصة، وفق سعدي ذاته، لتدشين التصالح مع المنطقة وإدماج "ريافة" في النسيج التنموي للبلاد، حيث انطلقت مشاريع تنموية مهمة، غير أن هذا لم يمنع من حدوث استياء واحتجاجات واسعة في مناطق الريف، بسبب "سوء تدبير عملية إعمار المناطق المنكوبة، وظهور نخب سياسية جديدة في الريف لم تكن محل رضى أهل الريف".
وأضاف سعدي أن واقعة مقتل محسن فكري واعتقال نشطاء "الحراك الشعبي" منذ 2017 عززا سردية اضطهاد منطقة الريف، لتنبعث من جديد بشكل أقوى سيكولوجية الغضب والمقاومة من العمل الشعوري لأهالي الريف".
وأشار إلى أن "ذاكرة الريف الجمعية تأبى أن يطويها النسيان، وتقاوم علناً جميع محاولات طمس الهوية التاريخية الجمعية"، مبرزاً أن ذاكرة الريف شعورية غير مشبعة وساخطة بلا أماكن للذاكرة، بمعنى أنها بلا معالم مادية للتذكر، مثل المتاحف أو الآثار أو المعمار، أو طقوس رمزية احتفالية أو تأبينية، أو نصب تذكارية أو تماثيل أو أعمال فنية أو مناهج مدرسية.
موقف الدولة
في المقابل، شككت الدولة في شخص وزارة الداخلية المغربية في خلفيات الاحتجاجات التي يقف وراءها شباب ونشطاء منطقة الريف، وخصوصاً المحتجين في مدينة الحسيمة.
وسبق لوزير الداخلية عبدالوافي لفتيت أن كشف داخل قبة البرلمان أن "الجهود المبذولة من طرف الدولة تطرح أكثر من علامة استفهام حول المغزى من إصرار البعض على سلوك الاحتجاج اليومي والمتواصل على رغم التجاوب الإيجابي للحكومة مع مختلف المطالب".
وطرحت الحكومة المغربية سؤال "من له مصلحة في دفع باب الحوار الذي فتحته الحكومة مع السكان ومختلف الفاعلين المحليين إلى الباب المسدود، ومن المستفيد من تبخيس الجهود التنموية للحكومة في المنطقة وخلق حالة الإحباط؟".
وزير الداخلية اتهم أطرافاً لم يحددها بالاسم بكونها "تتعمد تضليل الرأي العام المغربي ونشر وقائع غير صحيحة من خلال العمل على صناعة ونشر الأخبار الزائفة"، مشدداً على أن "الدولة تتعامل بكل حزم من أجل "فرض القانون".
وحاولت الدولة ترميم الأعطاب و"سوء الفهم" مع منطقة الريف، وإبداء حسن النية حيال المحتجين من خلال قرار العاهل المغربي الملك محمد السادس بإقالة ثلاثة وزراء ومسؤولين آخرين، بسبب التأخير في تنفيذ مشاريع التنمية التي كانت مقررة في مدينة الحسيمة.
معادلة الجغرافيا والتاريخ
من جانبه، يرى الأستاذ الجامعي الحبيب استاتي زين الدين، مؤلف كتاب "الحركات الاحتجاجية في المغرب ودينامية التغيير ضمن الاستمرارية"، أن سؤال الدولة ومنطقة الريف يظل مستمراً ومتجدداً مع مرور الوقت لعديد من الاعتبارات.
أحد أهم هذه الاعتبارات، وفق استاتي زين الدين، أن المجال الجغرافي لمنطقة الريف لا يزال يمتزج فيه ضعف التنمية بإرث ذاكرة جريحة لها رأسمالها المحلي الخاص في التاريخ المغربي المعاصر، على رغم ما بذلته الدولة من مجهودات ملموسة، بالاشتغال على البنيات والمشاريع الطموحة المبرمجة، وإن شابت بعضها اختلالات على مستوى إعدادها وتنفيذها حالت دون بلوغ جميع الأهداف التي شيدت لأجلها.
والاعتبار الثاني تبعاً للمحلل نفسه، أنه يتوقع أن يظل أي توتر جماعي في هذا الفضاء الجغرافي يتفاعل فيه التاريخي والوعي العصبي (يشد بالدرجة الأولى أفراد المنطقة بعضهم بعضاً) في بعده الرمزي مع الاجتماعي في نزعته الواقعية، بمعنى أنه سيعيد إلى الواجهة خصوصية التاريخ المحلي، وذلك ضمن صراع اجتماعي- سياسي يغديه الإحساس الجماعي بـ"الحكرة" (الغبن) والتهميش والأمل بإمكانية التغيير على مستوى واقع العيش اليومي في آن واحد".
ولفت زين الدين إلى أنه "إذا كانت المنطقة تشترك مع مختلف أنحاء البلاد في المشكلات المتعلقة بالتنمية والحق في العيش بكرامة، فإن أي تناول علمي أو إعلامي لطبيعة العلاقة بين الدولة ومنطقة الريف وما قد ينتج منها من توترات ظاهرة أو خفية، قريبة أو بعيدة، يجب أن يستحضر عمق وقدم قضية الريف، التي تمتد تراكماتها من نهاية الخمسينيات إلى اليوم، وتظل قابلة للتجدد والتفاعل مع أي حادثة طارئة ليس فقط في الحسيمة، وإنما في المنطقة برمتها".
وخلص المتحدث إلى أن "فهم هذه التراكمات والخلفيات الممتدة التي قد ينظر إليها البعض بوجس وحيطة، والعمل على تحليل أسبابها من دون أحكام جاهزة أو توظيف سياسي هو المسلك الأنسب للتعاطي الإيجابي معها في الحاضر والمستقبل، لا سيما أن التوجه الجديد الذي يدعو له النموذج التنموي الجديد يتمثل في الجمع بين "دولة قوية مع مجتمع قوي"، وهو توجه يفترض أن يعبئ القوى كافة ضمن توازن يخلق مزيداً من فرص التقدم".