ملخص
أحضر الأب سرنغة طبية بمقاس 10 سنتيمترات وسحب من القارورة قطرات من المياه العذبة وأخذ يسقي صغيرته ليروي عطشها، هكذا يضع سكان غزة قيوداً على المياه
كانت جوان تلح على والدها ليجلب لها القليل من الماء، بعد دقائق استجاب الأب، فهو يدرك أن الصغار لا يتحملون العطش، وعلى الفور أحضر سرنغة (حقنة) طبية بمقاس 10 سنتيمترات وسحب من القارورة قطرات من المياه العذبة وأخذ يسقي صغيرته.
مجبر الأب إبراهيم على ذلك، فهو لا يملك كمية كبيرة من الماء، بعدما نفدت خزاناته في اليوم الثالث للحرب، وكل ما في بيته لا يزيد على 15 ليتراً، خمسة منها مياه عذبة للشرب، والبقية متعددة الاستخدامات، ويحاول أن يحافظ على هذه الكمية لأطول فترة ممكنة.
ليترات معدودة بعد حرمان
يقول إبراهيم "أدرك أن الحصول على قطرات من الماء أمر معقد ويحتاج إلى جهد مضن، لكنه عصب الحياة ولا يمكن الاستغناء عنه مثل الكهرباء والإنترنت والوقود، لذلك أشرف بنفسي على استخدام أي قطرة ماء ولا أسمح لأحد بالتصرف في هذا الأمر".
ويعاني سكان غزة منذ ثلاثة أسابيع من أزمة مياه حادة، بعد أن قطعت إسرائيل عنهم إمدادات مياه الشرب التي كانت تصل إلى القطاع من أراضيها، وذلك ضمن حربها الضروس التي تشنها ضد حركة "حماس" منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
وحصل إبراهيم على ليترات معدودة قبل ثلاثة أيام، بعدما كان قد حرم منها لمدة أسبوع، لذلك فهو حريص على تقنين استخدامها، وجلب الأب المياه بصعوبة شديدة، إذ خاض أصعب التحديات التي واجهها في حياته وأكثرها مأسوية، وقال "بعدما نفدت المياه العذبة وتلك متعددة الاستخدامات، ذهبت إلى البقالة لشراء قوارير مياه معدنية، لكني لم أجد أي زجاجة، حينها أدركت أننا سنشتهي الماء ولن نحصل عليه، وفهمت أن هذه الحرب تتبع سياسة التجويع".
رحلة البحث
لا يستطيع أي فرد في غزة الاستغناء عن الماء، وعند السادسة صباحاً بدأ إبراهيم رحلة البحث عن المياه، مصطحباً معه قارورة فارغة وأوعية بلاستيكية، وأخذ يسير في الشوارع يبحث عن أي مصدر للمياه، وقطع مسافة خمسة كيلومترات عندما شاهد مجموعة من السكان يحملون مثله أوعية وغالونات بلاستيكية، حينها تأكد أنه عثر على بئر ماء، وعلى الفور تنفس الصعداء وقال في نفسه "لقد وجدت الفرج".
بالعادة، تعتمد غزة في استهلاك الماء على ثلاثة مصادر، الأول المياه الواردة عبر الخطوط الإسرائيلية وتضخ 18 مليون متر مكعب في السنة وتُستخدَم للشرب، والثاني الآبار الجوفية لكنها غير صالحة بالمطلق للاستخدام البشري نظراً لشدة ملوحتها، وعلى رغم ذلك تستخدم لأغراض متعددة، فيما المصدر الثالث هو محطات تحلية مياه البحر المتوسط التابعة للأمم المتحدة وعددها ثلاثة وتنتج مجتمعةً خمسة ملايين متر مكعب في السنة، لكن نتيجة الحصار الإسرائيلي لغزة، فإن جميع هذه المصادر متوقفة تماماً، إذ لا يوجد وقود لجلب المياه من الآبار أو تشغيل محطات التحلية، كما أغلقت تل أبيب الخط المغذي لغزة.
وبات سكان غزة يعتمدون في توفير المياه على الآبار الارتوازية التي حفروها في وقت سابق بجانب بيوتهم، وأصبحت هي مصدر الماء الوحيد في القطاع.
بالقرب من إحدى هذه الآبار أخذ إبراهيم يزاحم المصطفين عليها ليحصل على بضعة ليترات من المياه المالحة والقليل من المياه المحلاة، وبعد ساعات عدة استطاع ملء أوعيته البلاستيكية بالمياه متعددة الاستخدامات، وحصل على 30 ليتراً، وقال "سنستخدمها لتنظيف الأواني وغسل الملابس والاستحمام والنظافة الشخصية في الحمامات، وقد نشرب منها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قيود على الاستخدام
يعتبر إبراهيم نفسه محظوظاً لحصوله على القليل من الماء، ويدرك بأن ذلك قد لا يتكرر على رغم محاولات البحث اليومية، ويضيف "إذا حالفني الحظ مرة أخرى سأكون نجوت من الموت عطشاً لوقت إضافي".
بالحد الأدنى يستخدم إبراهيم الماء الذي يحتفظ به، ويضع قيوداً صارمة "فالأولوية للشرب وبكمية مدروسة ومحدودة، ولا توجد فرصة لغسل الملابس أو الاستحمام أو أي من هذا البذخ"، بحسب وصفه.
وبحسب الأمم المتحدة فإن "الناس على شفا الموت عطشاً"، ويقول المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني إن "المياه أصبحت مسألة حياة أو موت في غزة، هناك أفراد يشربون مياهاً غير نظيفة من الآبار، وفي قاعدة الأمم المتحدة بدأت المياه المأمونة للشرب في النفاد".
لم يعودوا في حالة ترف
ويقول مساعد رئيس لجنة الطوارئ الحكومية في غزة زهدي الغريز، إن "غالبية سكان غزة لم يعودوا في حالة ترف للسؤال عن نوعية المياه واضطر كثيرون إلى شرب مياه مالحة وغير معالجة، وأصبح نصيب الفرد في اليوم نصف ليتر لجميع الاستخدامات بما فيها الشرب، وقبل الحرب كان 22 ليتراً في اليوم".
ويضيف "حالياً نستطيع توفير 15 ألف كوب يومياً، في حين يحتاج سكان غزة إلى نحو ثلاثة ملايين ليتر يومياً، وفي هذا الوضع توجد أماكن لم تصلها المياه منذ أكثر من 10 أيام، ومناطق أخرى أصبحت تشرب من مياه البحر، فيما البقية من الآبار شديدة الملوحة".
في ظل هذا الوضع، يقول مساعد وزير الطاقة الإسرائيلي يسرائيل كاتس "استأنفنا إمداد غزة بالمياه في منطقة الجنوب فقط، وهذا من شأنه أن يشجع المدنيين على التجمع هناك بينما تضرب إسرائيل أهداف حماس في مدينة غزة".
لكن منسق اتحاد بلديات غزة حسني مهنا يؤكد أن "أزمة المياه في القطاع لا تزال قائمة على رغم فتح إسرائيل الخطوط، لأن ضخ المياه للمواطنين يحتاج إلى تيار كهربائي وهو غير متوفر، كما أن المياه الواصلة إلى القطاع لا تزال ضعيفة جداً".