ملخص
مع احتدام معركة "أفدييفكا" على خط المواجهة بين روسيا وأوكرانيا يبدو أن موسكو تلجأ بشكل أكبر إلى تكتيكات "فاغنر" عبر إرسال الجنود أفواجاً متتالية نحو مصير قاتم محتم
في محيط مدينة أفدييفكا، شرق أوكرانيا، تشهد ميادين القتال المحصنة معارك شرسة ووحشية، حتى أن أجهزة الاستخبارات الغربية لمحت إلى أن بعض القادة العسكريين الروس يعدمون جنوداً يرفضون خوض غمار المعارك والتقدم تحت وابل من نيران الصواريخ والرصاص.
والحال أن أفدييفكا التي شوهتها ومزقتها أحداث الحرب، وتقع في تخوم مدينة دونيتسك المحتلة من الروس، أصبحت اليوم في مركز اهتمام الكرملين، الذي يسعى جاهداً إلى الاستيلاء على أية غنيمة قد يقدمها [للشعب] على أنها انتصار. لكن حتى في ظل الرقابة الشديدة، بات الروس يستوعبون أن قرار الغزو الشامل الذي اتخذه فلاديمير بوتين هو فعلاً كارثة، لا سيما أن بعض التقديرات تشير إلى أن عدد الإصابات تخطى ربع مليون، بين قتيل وجريح.
وما لا شك فيه هو أن هذه الأرقام آيلة إلى الارتفاع، في مواجهة هذا النوع من "هجمات جحافل الزومبي البشريين" عديمة الرحمة المدفوعة بأوامر من القيادة العليا الروسية الغارقة في اليأس أكثر فأكثر.
ولهذه الأرض المنكوبة رواية مجبولة بالدماء والتحدي. فمع أن روسيا استولت على مدينة دونيتسك عام 2014، لم تنجح يوماً في السيطرة على أفدييفكا، إذ بقيت القوات الأوكرانية متمركزة بعناد في مواقع تمنحها الأفضلية [في القتال] منذ ذلك الحين. وقبل اندلاع القتال في المدينة عام 2014، كان عدد سكانها يناهز 30 ألف نسمة - علماً بأن هذا الرقم تقلص عندما بدأت روسيا أخيراً، وبعد بضع سنوات، محاولتها الساعية إلى الاستيلاء على مجمل [أراضي] أوكرانيا. ومذاك، تحولت المدينة، شأنها شأن عدد كبير من المدن الأوكرانية الأخرى، إلى كومة أطلال وركام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في وقت سابق من هذا الأسبوع، صرح جون كيربي، المتحدث باسم الرئيس جو بايدن، بأنه وفق بيانات الاستخبارات، خسر الروس 1000 عنصر، وما لا يقل عن 125 آلية مدرعة أساسية منذ الـ11 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وأضاف كيربي أنه بنظر أجهزته [الاستخبارية]، تلجأ روسيا إلى هجمات انتحارية تشنها "جحافل بشرية"، في محاولة منها للضغط على قوات الدفاع الأوكرانية ولطردها من مواقعها.
ومن جهته، كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لريشي سوناك عن أن الروس خسروا ما يرتقي، من حيث العدد، إلى كتيبة كاملة [من الجنود]، بينما كانوا يحاولون الاستيلاء على هذه الأراضي المدمرة والمنكوبة. وأعلن مكتبه يوم الجمعة أن الزعيمين أجريا مكالمة هاتفية، وقال زيلينسكي خلالها لسوناك: "تواصل روسيا مساعيها إلى احتلال منطقة دونباس بالكامل [وهي عبارة عن مقاطعة تقع في شرق أوكرانيا، وتضم مساحات شاسعة من منطقتي دونيتسك ولوهانسك]. وحاول المحتل تطويق أفدييفكا أكثر من مرة، لكن قواتنا ردعته ودحضته في كل مرة، وكبدته خسائر مؤلمة. وعلى أقل تقدير، خسر العدو كتيبة [كاملة من الجنود] خلال هذه المحاولات".
وبعكس كتائب الناتو التي يناهز عدد عناصرها عادة 5 آلاف جندي، قد يتراوح عدد عناصر الكتائب الروسية ما بين ألفين و8 آلاف جندي. لكن الخسائر الفادحة التي تكبدها الروس، والصعوبات التي تواجهها على صعيد تجنيد عناصر متطوعين بديلين منذ أن شن بوتين غزوه الشامل، معناها أن قلة قليلة من الكتائب فقط تعمل بكامل قدراتها.
وفي هذا السياق، تتفق أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية على أن الروس يختبرون صعوبات على صعيد تجنيد رجال يسدون الفراغات والنقص في عديد قواتهم. وما يحصل هو أن المجندين الجدد يفتقرون إلى التدريب والعتاد، ومع ذلك، يرمى بهم إلى قلب "فرامة لحم"، فيتكبدون خسائر فادحة، ويختبرون هبوطاً في المعنويات.
وتفيد الأجهزة بأن الروس نقلوا مقاتلين لهم من الجنوب، للتعويض عن تراجع عدد قواتهم في أفدييفكا. وفي هذا الصدد، لطالما ذكر الجيش الأوكراني بأنهم شاهدوا كم الإصابات في صفوف الروس، لأن هؤلاء يتلقون تهديدات بعقوبات قد تذهب إلى حد الإعدام، في حال امتنعوا عن التقدم.
وفي سياق مواز، كشف عميد في الجيش الأوكراني، يقوم بصد هجمات روسية مكثفة شمالي جبهة القتال، عن أن بيانات الاستخبارات تبين أن العناصر الذين يرفضون التقدم يرسلون إلى "ثكنات خاصة، إذ يسجنون، ويتعرضون للاعتداء والضرب، ويعانون سوء التغذية، ويتلقون التهديدات إلى أن يستسلموا ويتعهدوا بالعودة لخطوط [القتال] الأمامية".
وأكد قائلاً: "كان مرتزقة ’فاغنر‘ يقتلون عناصرهم، ومعظمهم من المساجين المدانين، رمياً بالرصاص. ويعود السبب لأن كثيرين بينهم كانوا يموتون في هجمات جحافل الزومبي البشريين ضد خطوط القتال الأوكرانية. واليوم، تعتمد القوات النظامية الروسية التكتيك نفسه".
عملياً، يعزى انتصار الكرملين الوحيد وباهظ الثمن إلى مرتزقة "فاغنر"، التي أرسلت أفواجاً وراء أفواج من عشرات آلاف المقاتلين تحت نيران الجيش الأوكراني الذي أعرب عن ذهوله حيال مواصلة الروس إرسال مقاتلين جدد فوق جثامين مكدسة تعود لرفاقهم المقتولين. وفي النهاية، زعم [الروس] أنهم استولوا على باخموت، التي لم يكن بقي منها، آنذاك، سوى كومة من الركام. بيد أن معركة الاستيلاء على المدينة لم تتوقف يوماً، وفي هذا الشهر تحديداً، نرى أن القوات الأوكرانية تحرز تقدماً تدريجياً طفيفاً على هذا المحور.
إلى ذلك، اقتدى الجيش النظامي الروسي أيضاً بمنهجيات عمل "فاغنر" عندما بحث عن مجندين داخل السجون، بعد أن وعدهم بإصدار عفو في حقهم في حال شاركوا في القتال لفترة معينة من الزمن.
في سياق مواز، تفيد أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية، شأنها شأن الأوكرانيين، بأن المقاتلين المترددين [حيال المشاركة في القتال] يحشدون ضمن مجموعات تطلق عليها تسمية "شتورم زد" ShtormZ أو "بلاك مامبا" Black Mamba. وهنا، يشار إلى أن مصطلح "شتورم" معناه "الهجوم السريع" [باللغة الروسية]، أما حرف "زد" Z فيستعمله الكرملين كشعار وطني، وللإعلان والتسويق لقواته. بيد أن حرف "زد" المذكور يحمل معنيين، كونه أيضاً الحرف الأول من كلمة "زيك" الروسية، وتعني "سجين". والحال أن الحكومة والقيادة العسكرية العليا في روسيا لطالما أثبتتا عدم اكتراثهما بعدد الإصابات في صفوفها.
من جهتهم، يعرف جنود "زيك" [المساجين] أن حياتهم أقل قيمة حتى من حياة الجنود العاديين. وبالتالي، فإن معنوياتهم هبطت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وقد تؤدي أية بوادر اعتراض [من قبلهم] إلى عقوبات في حقهم، قد تصل إلى حد الإعدام على يد رفاقهم.
وللتذكير، انهارت "فاغنر" كمجموعة متماسكة بعد أن نظمت تمرداً لم يكتب له الاستمرار طويلاً ضد القيادة العليا الروسية. وعلى امتداد الفترة التي نشط فيها مرتزقة "فاغنر"، اتسمت عملياتهم بقيادة سيئة على أرض المعركة، نتجت منها خسائر كبيرة في الأرواح، في حين أن سوء التنظيم اللوجستي تسبب بنقص في الأسلحة والذخائر والمواد الغذائية والإمدادات الطبية.
واليوم، تصدر عن عناصر الجيش النظامي شكاوى مماثلة [لتلك التي كانت تصدر عن عناصر ’فاغنر‘]، وتدفعهم إلى عدم الانصياع لأوامر بالمشاركة في الهجمات المشؤومة.
استطراداً، يرى "معهد دراسة الحرب" Institute for the Study of War أن روسيا، وعلى رغم من توظيف قسم كبير من اقتصادها لخدمة الحرب، وتعزيز إنتاجها للأسلحة إلى حد كبير، لن تتمكن من "تعويض الخسائر المتراكمة في العتاد في أوكرانيا". وفي هذا السياق، تشير توقعات "معهد دراسة الحرب" إلى أن كم الإصابات الهائل، والنتائج الكارثية، ستقوض أكثر بعد قدرة [روسيا] على تحقيق انتصارات في مواجهة القوات الأوكرانية.
وبالعودة لزيلينسكي، اتصل هذا الأخير بسوناك ليشكره على دعم بريطانيا الحثيث للجهود الحربية [الأوكرانية]، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية، في الـ23 من أكتوبر الماضي، منحها كييف مساعدات عسكرية إضافية بقيمة 100 مليون جنيه استرليني (121 مليون دولار).
ذات يوم، قد يتسنى للجنود الروس المتجهين للقتال، مع بنادق موجهة إلى جباههم وظهورهم، أن يفكروا في ما إذا كانت قيادتهم تشاركهم امتنانهم على الجهود المشينة التي يذلونها. مع أن ذلك قد يكون مستبعداً.
© The Independent