يُعرف عن الأدب اليابانيّ الحديث والكلاسيكيّ ارتباطه وثيق الارتباط بثيمات الموت والانتحار واليأس من الحياة. وعُرف الكتّاب اليابانيّون بميلهم إلى الانتحار وبإمعانهم في نصوصهم في الخوض في مشاعر العبث والفراغ واللامبالاة. ومن هؤلاء يظهر اسم الكاتب اليابانيّ أوسامو دازاي (1909-1948) الذي حاول الانتحار مراراً وتكراراً في حياته إلى أن نجح أخيراً بذلك وهو بعد في التاسعة والثلاثين من عمره. ويُقال إنّه تمّ العثور على جثته وجثّة صديقته التي انتحرت معه في 19 حزيران/ يونيو الذي يصادف يوم عيد مولده.
وعلى الرغم من ذيوع شهرة دازاي في اليابان، ما زال هذا الكاتب غير معروفٍ نسبيّاً في بقية أرجاء العالم وبخاصّة في الترجمات إلى العربيّة. وقد صدرت حديثاً عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر في الدوحة ترجمة لروايته "صندوق باندورا" (2022) وهي رواية لا تتخطّى المئة وخمسين صفحة. وتنتمي إلى نوع الروايات القائمة على فنّ التراسل أيّ أنّ السرد بأسره يتمّ من خلال رسائل يرسلها الراوي من داخل المصحّة التي يقيم فيها إلى صديق له. فيكتشف القارئ أحوال الراوي وإصابته بمرض السلّ وأحوال المصحّة التي ينتقل إليها للشفاء كما يكتشف طباع الزملاء المرضى وشخصيّات الممرّضات وصولاً إلى استشفاف أحوال اليابان والمرأة والمجتمع. ومن خلال مجموعة من الرسائل، هي ثلاثة عشر رسالة على وجه التحديد تتمّ كتابتها بين 25 آب/ أغسطس 1945 و9 كانون الأوّل/ ديسمبر 1945، ينتقل القارئ إلى اليابان أواسط أربعينيّات القرن العشرين عقب انتهاء الحرب العالميّة الثانية.
فنّ التراسل
يبدأ الراوي رسائله بشرحه سبب دخوله إلى المصحّة كما يتطرّق إلى علاقته بجسده وبمرض السلّ المصاب به هو الذي لم يرد العلاج منه في البداية ولم يكن يرغب حتّى في إخبار أحد به، فيكتب: "لقد دخلتُ صالة الألعاب الصحّيّة هذه عقب الحرب، بعد أن شعرتُ فجأة بالندم على ضياع حياتي، وفكّرت بضرورة أن أكون بصحّة جيّدة، وأنّ الوضع سيكون على ما يُرام؛ وبالطبع لم يكن لديّ نيّة لفعل أيّ شيء مقابل أن أنجح في حياتي،" (ص: 8). ثمّ يكمل الراوي موضحاً بجملة قصيرة عمره وظروف حياته قبل دخوله المصحّة، فيكتب: "بسبب رقودي في الفراش ثلاثة أشهر لم أستطع إجراء اختبار الالتحاق بالمدارس الثانويّة." (ص: 11). وليست حياة الراوي وحدها هي التي تحدّد الإطار الزمانيّ للرسائل، إنّما أيضاً الذكر الواضح لأحداث التاريخ السياسيّ للعالم ولليابان، فيكتب الراوي في إحدى رسائله لصديقه: "أبيدت النازيّة في أوروبّا إبادة تامّة، وفي شرق آسيا توالت المعارك؛ معركة جزر الفلبّين، ثمّ معركة أوكيناوا، ثمّ القصف الجوّيّ الأميركيّ لأراضي الداخل اليابانيّ" (ص: 12).
يقوم السرد بأكمله في رواية "صندوق باندورا" على الرسائل التي يرسلها الراوي لصديقه والتي تحتوي على وصفه للأمور والأحداث والأشخاص من منظاره. وتحمل هذه الرسائل المرسلة إلى صديق مفترض خصائص العمل الرسائليّ الواقعيّ بأكملها، فهي موضوعة ضمن إطار مكانيّ واقعيّ وإطار زمانيّ حقيقيّ وفي ظروف تاريخيّة سياسيّة واضحة مع تقديم أسماء الشخصيّات وألقابها وتاريخها وقصصها الاجتماعيّة. يضع أوسامو دازاي رسائله في إطار واضح، وإن بجمل بسيطة يجب على القارئ أن يجمعها ويركّبها ليخلق السياق العامّ، وهي خاصّيّة من خصائص الأدب اليابانيّ الحديث التي يعتمدها عدد كبير من الكتّاب اليابانيّين: فهم لا يمنحون المعلومة كاملة واضحة بل يتركون مهمّة تركيب الفضاء السرديّ وترتيبه للقارئ الذي يجمع شذرات المعلومات من مقتطفات جمل وكلمات موزّعة على مدار النصّ.
ويجد القارئ أنّ كلّ فصل مخصّص لرسالة واحدة، والرسائل موردة بالتسلسل الكرونولوجيّ لتقدّم المعلومات بشكل متسلسل عن محيط الراوي. فهناك وصف للمصحّة ولغرفها ولقاعاتها ولمرضاها وللعاملين فيها، وهناك إيراد لجدول المواعيد فيها. ويستغرب القارئ علاقة العنوان بالرسائل وبموضوع النصّ. فما علاقة صندوق الآلام والأوجاع والأحزان والمشاعر القاتمة من غيرة إلى حسد وجشع وطمع بالنصّ وبالمصحّة وباليابان؟ ولماذا هذا الخيار؟
بحسب الأسطورة، كانت باندورا امرأة بارعة الجمال وكان زوجها قد أعطاها صندوقاً ناله هديّة من زوس كبير الآلهة. لكنّ الزوج منع باندورا من فتح الصندوق منعًا باتّاً خوفاً ممّا قد يكون داخله. وذات يوم، لم تستطع باندورا كبح جماح فضولها ففتحت الصندوق. خرجت حينها من الصندوق مآسي البشريّة كلّها. خرجت المشاعر البشعة كلّها، وحده اليأس بقي في الداخل ولم يخرج. ترك ذلك للإنسان الأمل، الأمر الوحيد الإيجابيّ المتبقّي للبشريّة. ويبدو أنّ سبب اختيار هذا العنوان للرواية إنّما هو العنصر الوحيد الذي لم يفقده الإنسان مع فتح صندوق باندورا: الأمل.
تتجلّى العلاقة بالأمل محرّكًا للنصّ وما يهندس شكل العلاقة بالوطن والمرض والموت والمرأة وغيرها من الموضوعات الوجوديّة الكبيرة التي تؤرق الراوي. فعلى الرغم من البساطة التي تبدو عليها الرسائل، يتمكّن القارئ من فهم الجوّ العامّ في اليابان والجوّ الداخليّ في المصحّة ودور المرأة في المجتمع ومسائل أكثر تعقيداً بعد وذلك ضمن رسائل الراوي التي تفضح رأيًا يحاول أن يجعله إيجابيّاً ومفعماً بالأمل بالمستقبل.
العلاقة بالموت
على الرغم من محاولات الراوي بثّ التفاؤل والحماسة في نصّه، يبقى الموت حاضراً بطيفه داخل وجدان الراوي وكذلك حوله عبر وفاة إحدى المريضات الموجودات في المصحّة. فيقول الراوي في إحدى رسائله: "وأنا لست ذلك العاطفيّ الضعيف الذي "يمجّد الموت"، إلاّ أنّني فقط لا أندهش من الموت الآن لأنّنا نحيا إلى جواره ولا يفصلنا عنه إلاّ ستار شفّاف." (ص: 43).
يقبل الراوي بمصيره وبضرورة الموت في حياة كلّ إنسان، لدرجة أنّه يكتب: "لا يكتمل الإنسان إلاّ بالموت." (ص: 42). لتكون العلاقة بالموت أوّل ما يتنبّه له القارئ ضمن هذه الرسائل. يدرك الراوي أنّ الموت أمر محتّم ويدرك أنّه محيق به، إنّما أكثر من ذلك بعد. يميل الراوي في أحيان كثيرة إلى الموت ويؤثره على الحياة فيكتب لصديقه: "ما باليد حيلة. أنا إنسان ليس لي هدف آخر أعيش من أجله. يجب أن أعرف حدودي. آه، في الحقيقة من الأفضل لي أن أموت بأسرع ما يمكن، اليوم قبل الغد." (ص: 13).
على الرغم من كلّ ما يتسلّح به الراوي من أمل ورغبة في إقامة صداقات مع المرضى المحيطين به وعلى الرغم من رغبته في الشفاء لبناء يابان جديدة، يبقى الموت موجوداً في ذهنه. وليس الموت بشكله المخيف وبكونه نهاية موجعة لمرضى السلّ، لا. يبدو الموت في هذه الرواية راحة وملجأ ومنفذاً. يبدو الموت الصديق الذي طال انتظاره والذي يعرف الراوي أنّه آت لا محالة لكنّه لا يعرف متى، فيكتب: "إنّني توصّلتُ إلى إدراك أنّ الموت والحياة وجهان لعملة واحدة، ولكن، أليس الموت والحياة حقّاً الشيء نفسه؟ أيّاً ما اخترت منهما، فالمعاناة واحدة." (ص: 15).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو السرد في رسائل الراوي حميميّاً وهادئاً وبسيطاً. لكنّ القارئ يكتشف ملاحظات يقدّمها الراوي حول المجتمع ودور المرأة ومستقبل اليابان. فلا يخفي الراوي عدم رضاه عن حال اليابان من حيث العلم والطبابة ووضع المرأة. لا يخفي الراوي أنّ اليابان "حاليّاً في وقت عصيب". (ص: 112). فتتحوّل هذه الرسائل في مواضع قليلة إنّما مهمّة إلى وثيقة جميلة فيها رأي مواطن يابانيّ بشأن مجتمعه ووطنه والحرب والعلاقة بالدول الأخرى.
يتحدّث الراوي بالمطلق عن الإنسان اليابانيّ وعن الوطن. يتحدّث بالمطلق عن النساء الممرّضات ودورهنّ وزينتهنّ. الوصف والسرد سهلان وبسيطان ولا حفر فيهما ولا رمزيّة ولا كنايات، لكنّ الصورة ترتسم رويداً في ذهن القارئ فيفهم هذا الأخير حقيقة المجتمع والمرأة والعلم والطبابة وإلى ما هناك من شؤون يابانيّة داخليّة، حتّى أنّ الراوي يتحدّث في مواضع عن الرغبة في تحسين مستقبل اليابان بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية، فيكتب: "نحن بالفعل بذلنا أرواحنا في سبيل الوطن، (...) يُفترض أنّه ما من شيء يستحقّ أن نناقشه، ومع ذلك دبّت الحماسة فينا، وكشفنا عن مشاعرنا الداخليّة بشأن إعادة بناء اليابان الجديدة." (ص: 124).
"صندوق باندورا" رواية سهلة سلسلة لا رمزيّة فيها ولا صعوبات لغويّة أو دلاليّة. تشبه في ذلك الأدب اليابانيّ ببساطته وأسلوبه وتناوله موضوعات الموت والوطن والحرب بأبسط التعابير. قد تبدو الرواية للوهلة الأولى بسيطة، لكنّ القراءة الثانية أو الثالثة تزيل الحجب عن المعاني وتحثّ القارئ على البحث عن أعمال أوسامو دازاي الأخرى التي قد تكون أشهرها: "لم يعد إنساناً" أو "الشمس الغاربة".