ملخص
هل السياسة الخارجية رشيدة؟: لماذا يرتكب القادة الأذكياء حماقات؟
يعتبر مراقبون كثر أن قرار روسيا بشن غزو على أوكرانيا لم يكن منطقياً على الإطلاق، إذ إن أوكرانيا هي أكبر دولة في أوروبا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن لديه ما يكفي من الجنود الأكفاء والأسلحة ذات الجودة. ولم تبد أي دولة أخرى (باستثناء بيلاروس) تعاطفاً مع فكرة أن موسكو يجب أن تسيطر على كييف، وكانت الولايات المتحدة قد كشفت عن خطط بوتين المتعلقة بالغزو ثم نشرتها للعالم بأسره. فأطلقت معظم الاقتصادات الكبرى على مستوى العالم تهديدات بفرض عقوبات على روسيا إذا مضت قدماً في هجومها، فيما أوضحت دول حلف شمال الأطلسي أنها ستمد كييف بالأسلحة.
ولكن بالنسبة إلى عالمي السياسة جون ميرشايمر وسيباستيان روساتو، فإن قرار بوتين يبدو مفهوماً ومنطقياً. في كتابهما الجديد، "كيف تفكر الدول: عقلانية السياسة الخارجية"، يجادلان بأن بوتين ومستشاريه "تعاملوا مع الموقف استناداً إلى النظرية الصريحة والواضحة في توازن القوى"، معتبرين أن أوكرانيا حصن ضد حلف شمال الأطلسي، وأن عضوية كييف المحتملة في الحلف "خط أحمر". وكتب المؤلفان أن إبقاء أوكرانيا ضمن مجال النفوذ الروسي كان "مسألة حياة أو موت" للكرملين. وبحسب ما أكداه، فإذا خسرت روسيا الحرب في أوكرانيا أو خسر بوتين السلطة بسبب الصراع، لن يكون ذلك لأن قرار الغزو كان غير عقلاني، بل سيكون نتيجة عدم كفاءة الجيش الروسي، والجهود التي يبذلها حلف شمال الأطلسي من أجل مساعدة أوكرانيا على تحقيق التوازن في مواجهة روسيا.
شهدنا مرحلة من الزمن، اعتبرت فيها معتقدات ميرشايمر وروساتو بمثابة تفكير تقليدي ورائج، أو في الأقل تحظى بشعبية كبيرة، بين باحثي العلاقات الدولية. وخلال جزء كبير من القرن الـ20، هيمنت "الواقعية" على النقاشات والأحاديث، وهي نظرية أصبحت شائعة بفضل شخصيات مثل كينيث والتز، وهنري كيسنجر، وجورج كينان. ويعتقد الباحثون الواقعيون أن الدول تتصرف وفق هذا المنطق الثابت والحتمي، فهي تتصرف بعقلانية، وتعمل على تعظيم قوتها وحماية نفسها من الهجوم في عالم تسوده الفوضى. بالنسبة إلى هؤلاء الخبراء، لم تكن سيكولوجية القادة ذات أهمية تذكر. وفي المقابل، كانت أشكال الأنظمة الدولية ومعالمها وطريقة توزيع السلطة فيها هي التي تحدد سلوك الدول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن على مدى العقود الماضية، شهد هذا المجال تحولاً هادئاً. بدأ علماء السياسة يدرسون طريقة تفكير القادة وتحيزاتهم، وكيف تسهم هذه الخصائص في تشكيل عملية صنع القرار. وقد وجدوا أن علم النفس له تأثير هائل في سلوك القادة على الساحة الدولية. في الواقع، يعتمد القادة في كثير من الأحيان على الاستدلال [الأساليب التجريبية] لاتخاذ الخيارات، بخاصة أثناء الأزمات. وتؤثر معتقدات القادة وشخصياتهم وانطباعاتهم عن نظرائهم في طريقة رؤيتهم للعالم، وتحدد مشاعرهم الأسلوب الذي يعتمدونه في تعاملهم مع المشكلات والمواقف المختلفة. على سبيل المثال، كثيراً ما يذكر بأن هوس بوتين بالسيطرة على أوكرانيا هو السبب وراء غزوه للبلاد.
يحاول كتاب "كيف تفكر الدول" تقويض هذه الادعاءات وإحياء طريقة التفكير القديمة. ويرى المؤلفان أن معظم القرارات الدولية هي في الحقيقة عقلانية. إنهما يعملان على إيجاد ثغرات في دراسات عدد من علماء النفس السياسي وأيضاً في دراسات أصحاب نظرية الاختيار العقلاني الذين يختلف تعريفهم للعقلانية (وهي نظرية مفادها أن القادة يتخذون قرارات بناءً على الفوائد المتوقعة المرتبطة بالنتائج المحتملة) عن التعريف الأضيق الذي اعتمده المؤلفان. إن عنوان الكتاب نفسه مستوحى من خلال اللعب بطريقة ذكية على كلمات عنوان يحمله كتاب إبداعي في علم النفس السياسي، "كيف يفكر رجال الدولة"، من تأليف الراحل روبرت جيرفيس (وبصراحة تامة، كان جيرفيس معلمي ومرشدي). ويجادل ميرشايمر وروساتو أن شخصيات القادة قد يكون لها بعض الأهمية في عالم السياسة الدولية، لكن ليس بقدر ما يظنه الباحثون.
يشكل كتابهما مدخلاً مهماً إلى المناقشة الدائرة في العقلانية في العلاقات الدولية، وهو يقوم بعمل جيد في إظهار الأسباب التي تجعل الأكاديميين يجدون صعوبة في تحديد القرارات التي يمكن اعتبارها عقلانية، بيد أنه يفشل في نهاية المطاف في إظهار أن الدول تتصرف دوماً على أساس عقلاني. لم يتمكن المؤلفان من التوصل إلى تعريف مقنع للعقلانية. وهما لا يشرحان كيف أن ما هو عقلاني بالنسبة إلى القائد عقلاني أيضاً بالنسبة إلى الدولة. وهما يتجاهلان مصادر بيانات أساسية وأرشيفية هائلة تتعارض مع حججهما، ويقدمان لاحقاً [بعد أن تتخذ الدول قراراتها] تفسيرات توضح لماذا اعتبرت تلك القرارات عقلانية، مما يسلط الضوء على تحيزهما. والأمثلة التي يستخدمانها لإثبات ادعاءاتهما كثيراً ما تعمل على تقويضها، بما في ذلك غزو أوكرانيا.
عين الرائي
ميرشايمر وروساتو ليسا مبتدئين يحاولان إطاحة المعايير الراسخة في مجال اختصاصهما. يعد ميرشايمر أحد أشهر علماء السياسة في التاريخ، وكان كتابه المبدع الذي صدر عام 2001 تحت عنوان "مأساة سياسة القوى العظمى" The Tragedy of Great Power Politics هو أساس فكرة الواقعية الهجومية، التي تزعم أن الدول تعمل دائماً على تعظيم قوتها من أجل ضمان بقائها. أما روساتو، تلميذ ميرشايمر السابق، فقد صنع اسماً لنفسه من خلال تفكيكه المنطقي لنظرية السلام الديمقراطي، المتمثلة بفكرة أن الديمقراطيات لا تميل إلى خوض حرب مع بعضها بعضاً.
كتابهما الجديد "كيف تفكر الدول" هو كتاب شامل، يدرس فيه ميرشايمر وروساتو الخيارات الجماعية التي اتخذها صناع السياسات منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الوقت الحاضر. إنهما يعيدان النظر في خيارات رئيسة من الماضي غالباً ما اعتبرت غير منطقية ويجادلان بأنها كانت، في الواقع، عقلانية تماماً. حتى إنهما يستشهدان بغزو ألمانيا الكارثي للاتحاد السوفياتي عام 1941، وهجوم اليابان على بيرل هاربور في العام نفسه، باعتبارهما قرارين عقلانيين.
ويذكر أن بعض انتقادات ميرشايمر وروساتو صحيحة. يشير المؤلفان على نحو صائب إلى أن "العقلانية" مصطلح غامض، ويرفضان بشكل مبرر آراء المحللين الذين يصدرون أحكاماً في ما إذا كان تصرف الزعماء ناجحاً "ثم يعتمدون التحليل بأثر رجعي" لتحديد ما إذا كان عقلانياً [أي أنهم يستنتجون أن القرار كان عقلانياً لأنه أدى في النهاية إلى النجاح، بتعبير آخر هم يبررون العقلانية انطلاقاً من النتيجة المحرزة ثم يعملون بشكل عكسي للعثور على العوامل المبررة لتلك النتيجة]. كذلك ينتقد المؤلفان تعريفات العقلانية الضيقة المبالغ فيها التي تجعل كل زعيم يبدو كشخصية كرتونية مجنونة.
ولكن عندما يبدأ ميرشايمر وروساتو في توضيح نظريتهما الخاصة عن العقلانية، تنهار ادعاءات الكتاب وحججه وتبدو أقل إقناعاً. لقد كتبا أن العقلانية هي "فهم العالم ثم الإبحار فيه سعياً إلى تحقيق الأهداف المنشودة" وأن القرارات العقلانية هي تلك المستندة إلى نظريات مدعومة بـ"افتراضات واقعية" و"منطق سببي مقنع" و"دعم بالأدلة". وهذه صيغة غامضة تماماً مثل التعريفات التي ينتقدانها. ففي نهاية المطاف، يعتقد جميع القادة أن نظرياتهم وأفكارهم وخياراتهم متسقة ومنطقية ومدعومة بما فيه الكفاية، ونادراً ما يكون هناك اختبار موضوعي يمكن أن يثبت خلاف ذلك أو لا يعتمد على التحليل بأثر رجعي.
ويسلط المؤلفان الضوء على هذه المشكلة عن غير قصد عندما يشرحان ويميزان بين النظريات التي يجدانها جديرة بالثقة وتلك التي يرونها غير موثوقة. هما يرفضان نظرية الدومينو باعتبارها غير مقنعة، ومفادها أنه إذا تحولت دولة ما إلى دولة ديمقراطية أو ديكتاتورية شيوعية، فإن جيرانها سيخضعون للتحول نفسه بسرعة. ومع ذلك، فإنهما يجادلان بأن اعتقاد بوتين بأن روسيا وأوكرانيا جزء من دولة واحدة هو اعتقاد معقول، لأن أوكرانيا، تاريخياً، كانت بمثابة الحاجز الاستراتيجي لموسكو في وجه بقية أوروبا. ليس هناك أساس موضوعي بطبيعته للادعاء بأن القرارات القائمة على نظرية الدومينو غير عقلانية فيما يعتبر هجوم بوتين على أوكرانيا عقلانياً، ولكن يوجد سبب ذاتي غير موضوعي. ميرشايمر وروساتو باحثان واقعيان، ووفق رؤيتهما للواقعية فإن قرار بوتين كان بمثابة رد فعل طبيعي على توسع حلف شمال الأطلسي. وبعبارة أخرى، فإن صدقية النظرية تكمن في عين الرائي (تعتمد على كيفية رؤية الشخص لها).
وفي محاولتهما لتوضيح حجتهما، تجاهل ميرشايمر وروساتو أيضاً مجموعة قوية من المراجع والدراسات في العلاقات الدولية في موضوع طريقة تفكير القادة، وهي دراسات تعتمد على علم النفس والاقتصاد السلوكي، وتستخدم وثائق مرجعية أساسية [سجلات أو وثائق أصلية غير منقولة أو محرفة أنشأها أفراد لديهم معرفة مباشرة أو تجربة في حدث أو موضوع معين، وتعتبر أدلة قيمة للبحث والتحليل التاريخي]، وتتضمن بيانات تجريبية عن النخب. وحتى أثناء محاولتهما انتقاد البحوث المعارضة، بالكاد يذكر ميرشايمر وروساتو الدراسات الأساسية التي توضح كيف ينقاد الزعماء وراء العواطف والمعتقدات الموجودة مسبقاً والقلق في شأن السمعة وعوامل أخرى.
وحتى لو كان ميرشايمر وروساتو على حق في شأن القرارات التي تعتبر عقلانية، فهذا لا يعني أن القادة يتخذونها لأسباب عقلانية. على سبيل المثال، من المحتمل أن قرار بوتين بغزو أوكرانيا لم تكن له علاقة تذكر بحسابات توازن القوى. وربما قرر الرئيس أن يشن غزواً لأنه رأى نفسه في وضع يعاني فيه بالفعل خسائر فادحة، مما يقلل من تردده في خوض الأخطار، أو لأنه أراد تجنب تأثير أحجار الدومينو الذي يجعل انضمام أوكرانيا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي دافعاً يشجع مزيداً من الدول الواقعة على طول حدود روسيا على الانضمام إلى الحلف، بيد أن المؤلفين لا يعتبران هذين التفسيرين منطقيين. يمكن للقادة أن يؤمنوا بنظريات متعددة وفي بعض الأحيان متضاربة في الوقت نفسه. على سبيل المثال، اعتقد الرئيس العراقي صدام حسين أن الولايات المتحدة كانت قلقة للغاية في شأن الخسائر البشرية لدرجة تمنعها من اتخاذ قرار بغزو بلاده، لكنه ظل يخشى احتمال الغزو، لذلك لمح إلى أنه قد يمتلك أسلحة دمار شامل في محاولة لردع الهجمات. ببساطة، لا يملك الباحثون ما يكفي من المعلومات لتحديد النظريات التي يتبعها القادة أو ما إذا كانوا يفعلون ذلك بطرق تتوافق مع توقعات الخبراء في هذا المجال.
إن محاولة الاسترضاء المخزية التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين مع أدولف هتلر تشكل مثالاً آخر على ذلك. ويقول ميرشايمر وروساتو إن قرار تشامبرلين بالسماح للزعيم النازي بضم مساحات كبيرة من تشيكوسلوفاكيا في عام 1938، بدلاً من القتال ضد آلة الحرب الألمانية، كان عقلانياً ومدفوعاً بمنطق توازن القوى. ويزعمان أن الاسترضاء كان يتماشى مع نظرية الحكومة البريطانية القائلة إن نوايا هتلر التوسعية كانت محدودة وأن برلين أرادت تجنب الحرب، ولكن عندما سافر تشامبرلين إلى ميونيخ، كان في حوزته أدلة متزايدة على أن ألمانيا ترغب في ضم مزيد من الأراضي وستستخدم القوة لتحقيق ذلك. إذاً، كان على دراية بنظرية مختلفة في ما يتعلق بسلوك هتلر، تشير إلى أن برلين قوة رجعية لن تتوقف عن التوسع طوعاً بمحض إرادتها. وعلى رغم ذلك، تشبث رئيس الوزراء باعتقاده أنه يستطيع شخصياً إقناع هتلر بعدم القيام بذلك.
بسرعة وغضب
يعترف ميرشايمر وروساتو بأن الناس يمكن أن يكونوا غير عقلانيين ويمكن أن يتأثروا بالتحيزات النفسية، لكنهما يزعمان أن المزاجية والأهواء الشخصية نادراً ما تمثل مشكلة في السياسة الخارجية. ويعتبران أنه "عندما تكون الأخطار كبيرة، كما هي الحال في مسائل الأمن القومي، فإن القادة تكون لديهم حوافز قوية للتفكير بالاستناد إلى أطر نظرية". إنها حجة بسيطة مفادها أن الناس عندما يتعرضون للضغط، يميلون إلى أن يكونوا عقلانيين.
لكن هذا الادعاء يبدو واهياً وضعيفاً إذا ما خضع للتدقيق والتمحيص. في الواقع، يمكن للمرء أن يزعم العكس بالسهولة نفسها، فعندما تكون الأخطار كبيرة وصناع السياسات في ضائقة، فمن المرجح أن يستسلموا لطرق مختصرة معرفية [يستخدمها الدماغ لتخفيف العبء المعرفي الناجم عن عملية صنع القرار، مثل الاستدلال المذكور في مقدمة المقال]، والعواطف، وغير ذلك من السلوكيات غير العقلانية. وينطبق هذا بشكل خاص إذا لم يكن في حوزة القادة بيانات كافية، أو لم يكن لديهم الوقت للبحث في البيانات والتشاور حولها، لاتخاذ قرار مستنير. كانت إسرائيل، على سبيل المثال، تمتلك معلومات استخباراتية من مصادر بشرية تشير إلى أن الدول العربية تخطط لمهاجمتها في عام 1973، بيد أن الحكومة الإسرائيلية اعتقدت أن جيرانها لم يصل بهم الغباء لدرجة أن يقوموا بغزوها من دون تمتعهم بتفوق جوي. لقد تجاهلت إسرائيل الأدلة، من ثم فوجئت عندما شنت مصر الهجوم.
وحتى لو اتخذ القادة خيارات عقلانية عندما تكون الأخطار عالية، فهذا لا يعني أن البلاد ستتصرف بعقلانية، غالباً ما يكون هناك فارق بين ما هو عقلاني بالنسبة إلى الدولة وما هو عقلاني في نظر قادتها. فالرغبة في البقاء في السلطة، على سبيل المثال، قد تحفز القادة على شن حروب مضللة [لإلهاء الشعوب] أو غيرها من الإجراءات المكلفة التي تقوض مصالح دولتهم. في ذلك الإطار، تظهر البحوث أن غزو الأرجنتين لجزر فوكلاند في عام 1982 يرجع جزئياً إلى أن المجلس العسكري، الذي كانت شعبيته تتراجع أكثر فأكثر في الداخل، افترض أن الغزو من شأنه أن يخلق تأثير الالتفاف حول العلم [أي الالتفاف حول القائد والتلاحم الوطني حول قضية حيوية] مما قد يكسبهم مزيداً من الدعم. في البداية، حدث ذلك التأثير، مما أدى إلى تجنب الانقلاب على الجيش، ولكن من الواضح أن الحرب لم تكن في مصلحة الأرجنتين، حتى عندما تلاشت الآمال في التوصل إلى تسوية من طريق التفاوض في شأن الأراضي البريطانية، وعلى رغم أن المجلس العسكري اعتقد خطأً أن المملكة المتحدة لن تتدخل. وسرعان ما خسرت بوينس آيرس، وبعد فترة وجيزة سقط المجلس العسكري.
عندما يراجع الديكتاتوريون أفكارهم مع الآخرين، فإنهم لا يطلبون منهم إجراء تدقيق أو تقييم لهذه الأفكار.
يحاول ميرشايمر وروساتو إيجاد أرضية مشتركة والتوفيق بين مصالح القائد من جهة والمصلحة الوطنية من جهة أخرى من خلال تأكيد دور المداولات في صنع القرار. وكتبا أنه لكي يكون الاختيار عقلانياً، يجب على القادة التزام نظرية معقولة واتخاذ قرارهم بعد إجراء مشاورات، لكن تعريف المؤلفين للمداولات منقوص. فهو يتطلب ببساطة أن يدخل صناع السياسات المعنيون إلى الغرفة وينخرطون في مناقشة "قوية"، فيما يعمل صانع القرار الرئيس على حل العقبات وكسر الجمود، ولكن بالنظر إلى تعريف المؤلفين لما يجعل نظرية ما ذات صدقية، فإن هذا المعيار غامض ويصعب التحقق منه بشكل قاطع، بخاصة في الأنظمة الاستبدادية.
وفي الواقع، تعد منهجية الكتاب أحد أسباب عدم نجاحه في إقناع القراء بوجود المداولات أو عدم وجودها. فالمؤلفان يعتمدان على الروايات التحليلية، وليس البيانات الأولية، ولا يقومان بتتبع حقيقي (دراسة سلسلة من الأحداث مع مرور الوقت واستبعاد التفسيرات المختلفة) لمسار الحالات التي يسلطان الضوء عليها. ونتيجة لذلك، هما يغفلان عن أدلة واضحة تتعارض مع استنتاجاتهما. عندما يطلع القراء على الحالات المتعددة التي يذكرها المؤلفان باعتبارها حالات حدث فيها تشاور، لن يجدوا مناقشات متأنية، بل قادة منخرطين في مناقشات شكلية بلا مضمون. يقوم مستشارو أولئك القادة إما بعرض حججهم بطريقة مضللة تجعلها تبدو متوافقة مع معتقدات القائد أو يؤيدون ببساطة ما قرره القائد بالفعل. وينتشر هذا السلوك بشكل خاص في الأنظمة الاستبدادية التي نادراً ما يبحث الزعماء فيها عن معلومات جديدة أو وجهات نظر بديلة. عندما يراجع الديكتاتوريون أفكارهم مع الآخرين، فإنهم لا يطلبون منهم إجراء تدقيق أو تقييم لهذه الأفكار. كل ما يريدون سماعه هو أنهم على حق.
لننظر مرة أخرى إلى الغزو الروسي. يخلص ميرشايمر وروساتو إلى أن العملية التي قررت موسكو من خلالها شن غزو كانت مبنية على مشاورات لأن سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، قال للصحافيين إن "آلية صنع القرار" في موسكو "تعمل بشكل كامل"، لكن الحقائق تظهر أنه لا وجود لعملية من هذا النوع. وفقاً لتقارير "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، يعتقد مجتمع الاستخبارات الأميركية أن بوتين اتخذ قراراً بغزو أوكرانيا في وقت مبكر من مارس (آذار) 2021، لكنه أخبر معظم كبار مستشاريه بذلك قبل أيام فحسب من الغزو. وأقيل الوزراء والضباط العسكريون المعارضون، أو نفوا، أو اختفوا. عقد بوتين اجتماعاً متلفزاً مع مستشاريه قبل بدء الغزو، بحجة مناقشة ما إذا كان ينبغي لروسيا أن تعترف باستقلال المقاطعات الواقعة في أقصى شرق أوكرانيا، ولكن من الواضح أن ذاك الاجتماع كان مجرد شكليات. وقال بوتين لمسؤوليه، الذين بدوا متوترين بشكل واضح: "أود أن أؤكد أنني لم أناقش أي شيء بشكل مسبق مع أي منكم"، ثم نهضوا، واحداً تلو الآخر، لتأييد خطة رئيسهم. وعندما خرج أحدهم عن النص بالقول إن روسيا يجب أن تضم الأراضي، انفعل بوتين في وجهه، وسرعان ما صحح المستشار أقواله.
وتجدر الإشارة إلى أن قرار غزو أوكرانيا ليس القرار الوحيد الذي أخطأ ميرشايمر وروساتو في تصويره. يصف المؤلفان قرار غزو العراق بأنه لم يتخذ بناءً على مشاورات، مجادلين بأن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش "لم يكن منخرطاً بشكل عميق في المناقشات ذات الصلة داخل إدارته". وربما كانت الحرب في العراق غير عقلانية، فهي انتهت بالتأكيد بشكل سيئ، لكن في الواقع، هناك عدد هائل من المنشورات والكتب التي تناولت القرار الفاشل بالغزو، وكلها تظهر أن بوش وفريقه أجروا محادثات حقيقية. التقى الرئيس مستشاريه وناقش الفكرة معهم قبل أن يتخذ قراره. لقد خطط الجيش الأميركي لذلك مسبقاً، ولم يخف نواياه عن كبار القادة. والتزمت الإدارة نظرية واضحة وهي أنها كانت في حاجة إلى حرب وقائية لمنع العراق من الحصول على الأسلحة النووية. لقد فعلوا ذلك استناداً إلى معلومات استخباراتية أميركية، مهما كانت مغلوطة، وبناءً على تصور بأن صدام كان يخدع الولايات المتحدة مرة أخرى. إذاً، فالسبب الذي يجعل ميرشايمر وروساتو يعتبران غزو العراق غير عقلاني ليس أن ذلك الغزو فشل في استيفاء جميع العناصر الموجودة في قائمة التحقق الخاصة بهما، بل لأن الغزو لا يمكن تفسيره بنظريتهما الواقعية في توازن القوى.
النظرية والتطبيق
على رغم أن كتاب ميرشايمر وروساتو فيه عيوب في المنطق ويفتقر إلى الأدلة الدامغة، فإنه لا يزال يتمتع بقيمة كبيرة بالنسبة إلى الباحثين وصناع السياسات. ويظهر عملهما أن السياسة الدولية هي مجال مهم من خلال إثبات أن القادة يعتمدون على النظريات، سواء كانت ذات صدقية أم لا، لمساعدتهم في اتخاذ القرارات. في سياق متصل، كان إيمان القادة الأميركيين بالهيمنة الليبرالية هو الذي قاد السياسة الخارجية الأميركية في أعقاب الحرب الباردة. وعلى نحو مماثل، كان القرار الذي اتخذه الغرب بتوسيع حلف شمال الأطلسي مدفوعاً جزئياً بنظرية السلام الديمقراطية. كذلك، يثبت الكتاب أيضاً أهمية مسار العملية في تحديد ما إذا كان القرار الذي اتخذه القائد أو الدولة قراراً عقلانياً، وهو أمر تجاهله الباحثون. يكتب المؤلفان أن المداولات ضرورية إذا أراد صناع السياسات تجنب الانخراط في التفكير الجماعي [أو تفكير القطيع] أو الوقوع فريسة للتحيزات والتصورات الخاطئة. ولهذا السبب تتمتع المجتمعات الديمقراطية عادة بميزة جيوسياسية.
وبينما تقوم واشنطن بصياغة استراتيجيتها في ما يتعلق ببكين، ينبغي عليها أن تتذكر هذه الحقيقة. لا يزال هناك جدل في الولايات المتحدة في كيفية التعامل مع بكين، لكن الخطاب العدواني يهيمن على نحو متزايد على النقاش الأميركي في مسألة الصين. واليوم، وفق ما كتبته جيسيكا تشن فايس في صفحات "فورين أفيرز"، فعندما يتعلق الأمر ببكين "يشعر الأفراد بالحاجة إلى التفوق على بعضهم من ناحية التشدد وإظهار العدوانية". وقالت "النتيجة هي تفكير القطيع".
ونظراً إلى جوهرية العلاقات الأميركية - الصينية في السياسة المعاصرة، يتوقع القارئ أن كتاباً يدور حول "كيف تفكر الدول" سيناقش هذا الموضوع بإسهاب. ومع ذلك، فمن المستغرب أن كتاب ميرشايمر وروساتو لم يذكر الصين الحالية. وباعتبارهما واقعيين، من المفترض أن المؤلفين يعتقدان أن جهود واشنطن المتزايدة الرامية إلى ضبط بكين ومراقبتها هي جهود منطقية، لكن تحديد ما إذا كان مسار العمل الحالي عقلانياً يتطلب معرفة ما إذا كانت الصين قوة انتهازية أم قوة توسعية، وهو ما يتطلب بدوره التكهن بنوايا بكين. وهو أمر ربما لا يريد المؤلفان الاعتراف به. فإذا كانت البلاد في نهاية المطاف في موقف دفاعي بحت، فإن موقف واشنطن العدواني لا معنى له، وما يتعين عليها فعله عوضاً عن ذلك هو توفير الضمانات بأنها لن تحاول إضعاف بكين.
ولسوء الحظ، فإن الواقع هو أن صناع السياسات الأميركيين ومجتمع الاستخبارات الأميركي لا يعرفون سوى القليل عن الطريقة التي يفكر بها الرئيس الصيني شي جينبينغ فعلياً، مما يجعل من الصعب عليهم استخدام النظريات للتنبؤ بسلوك بكين. ومن دون هذه المعلومات، يتعين على القادة الأميركيين بدلاً من ذلك أن يلجأوا إلى تدابير أخرى، على غرار اختيار الأدلة التي تتماشى مع وجهات نظرهم الخاصة، أو استخدام الاختصارات العقلية [المعرفية]، أو الاعتماد على الانطباعات الشخصية للرئيس الأميركي جو بايدن عن الرئيس الصيني شي (وينطبق الشيء نفسه على التقييمات الأميركية لعدد من الأنظمة الاستبدادية الأخرى، بما في ذلك روسيا). وعليهم أن يتذكروا أنه حينما تكون الأخطار عالية وهناك كثير على المحك، فإن القوى العظمى وقادتها المتقلبين قد يخطئون في حساباتهم أو يتصرفون بطرق غير عقلانية وعصبية.
لقد أوضحت الحرب في أوكرانيا هذه النقطة بوضوح، ويجب على الولايات المتحدة أن تضع ذلك في الاعتبار عندما تفكر في تايوان أيضاً. وكما هو الحال مع روسيا وأوكرانيا، فإن تايوان لديها صراعات تاريخية غير محلولة قد تمنع شي من التفكير بوضوح قبل شن الغزو (تنظر بكين إلى الجزيرة باعتبارها مقاطعة منشقة). وعلى نحو متصل، تشكل تايوان مسألة ذات أهمية عاطفية كبيرة بالنسبة إلى قادة الصين. في الواقع، يبدو أن شي يعتبر الاستيلاء على الجزيرة مهمته الشخصية. وقد أعلن أن ضم تايوان يشكل ضرورة أساسية لتحقيق "التجديد العظيم للأمة الصينية"، وهو الهدف الذي يريد بلوغه قبل ترك منصبه.
وبالتالي، عندما يتعلق الأمر بتايبيه، فمن غير المرجح أن يطبق شي منطقاً بارداً وصلباً. والحقيقة أنه قد يكون من قبيل التمني أن نتوقع أنه سيكون عقلانياً في التعامل مع تايوان. وعوضاً عن ذلك، فمن المرجح أنه سيقرر ما يجب فعله استناداً إلى حالته العقلية العاطفية، أو تقييمه الشخصي لقوة الصين، أو قراءته عزيمة الولايات المتحدة. ومن المرجح أن يتجاهل الأدلة التي تشير إلى أن هدفه بعيد المنال أو أن كلف تصرفاته ستكون باهظة، تماماً كما فعل بوتين مع أوكرانيا. وهذه هي المأساة الحقيقية في سياسات القوى العظمى.
كيرين يارهي ميلو هي عميدة كلية الشؤون الدولية والعامة وأستاذة العلاقات الدولية في أدلاي ستيفنسون في جامعة كولومبيا. وهي مؤلفة كتاب "من يحارب من أجل السمعة".
مترجم عن فورين أفيرز 24 أكتوبر 2023