Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 مازن حيدر يبحث في أمراض المتقاتلين بحرب لبنان الأهلية

رواية "الرجاء استبدال الأكاليل" تستعيد قضية المخطوفين واسرارهم المجهولة

مشهد من الحرب الأهلية اللبنانية جمال السعيدي (صفحة المصور - فيسبوك)

ملخص

رواية "الرجاء استبدال الأكاليل" تستعيد قضية المخطوفين واسرارهم المجهولة

يقول يوسف حبشي الأشقر في روايته "المظلّة والملك وهاجس الموت": "الحرب أول الهموم الأخرى الوجودية، الأصيلة، التيار التحت الأرضي الذي منهُ ينبعُ كلّ شيء...الحربُ حدثٌ، الحرب طارىْ".

هذه هو رأي الأديب اللبناني في الحرب المسمّاة أهلية، في أنها حدثٌ جوهريّ دالّ على طبيعة الإنسان (اللبناني عرضاً)، وفاضحة شروره وغرائزه المكبوتة، وفي ما يتعدّى النزاعات الطائفية والمناطقية والطبقية الأخرى، انسجاماً مع نظرته الفلسفية والوجودية الى العالم ومجرياته. وقد خالفه فيه أدباء آخرون، شهدوا الحرب الأهلية، وعاينوا، وقضوا في أتونها (توفيق يوسف عواد)، ونظروا في تأثيرها المدمّر على المجتمعات والأفراد، وعلى طموحات أجياله المتعاقبة. ولئن وجدنا أنّ ثيمة الحرب الأهلية حاضرة في أعمال أغلب الكتّاب اللبنانيين، وإن بنسب متفاوتة، وقد لا يكون آخرهم الكاتب جبور الدويهي في روايته "ملك الهند"، فإنّ كلاّ منهم أفردَ عملاً أو أكثر لمعالجة هذه المعضلة المتواترة في حياة اللبنانيين، ومن وجهة نظر متلائمة مع رؤية كل منهم.

الكاتب اللبناني مازن حيدر، يستعيد ثيمة الحرب الأهلية، عبر روايته "الرجاء استبدال الاكاليل" الصادرة حديثا (2023) عن دار الآداب، ولكن من منظوره ذي الموشور المتعدد الألوان والميادين؛ الانثروبولوجي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والعمراني - باعتباره مهندسا متخصصا في التراث المعماري - إضافة الى البُعد الفانتازي الخيالي.

حكاية بسيطة ولكن

للوهلة الأولى تبدو حكاية الرواية بسيطة، للقارىْ المتعجّل والراغب في الإفادة السطحية، ويمكن حصرها بالزمان والمكان والأحداث؛ إذ يوجزها بأنّ رجلاً وامرأته مضيا، من مكان إقامتهما في حيّ بيضون، وهو أحد أحياء الأشرفية المتاخم لطريق الشام، الفاصل بين شرق المدينة وغربها، الى حيّ عين الرمّانة، بحثاً عن مصلّح لشريط تسجيل صار يعني الكثير لهذين الزوجين (أمينة، وفريد)، لكونه آخر ما تبقّى لهما بعد التهجير من الجبل، ومن كلّ من قضوا في الحرب هناك، من أقربائهما. ويستفاد من وقائع الرواية أنّ الزوجين، وفي خلال بحثهما عن مصلّح أشرطة التسجيل المدعو (برجيس)، المقيم في عين الرمّانة، منطقة كثيرة التغيّر والخطورة، واقعة على خطوط التماس بين منطقتين متحاربتين زمناً طويلاً، أنهما يتواريان عن الأنظار ويختفي أثرهما، ولا يرجعان الى منزلهما في حيّ بيضون، فيصيران في عداد المفقودين والمخفيين قسراً في لبنان، السبعة عشر ألفاً.

لكنّ منظور الرواية، والروائي مازن حيدر، أعقد من تلك الحكاية المبسّطة، وأكثر تركيباً، وأقرب الى الوقائع التفصيلية التي انطوت عليها الحبكة الدرامية الواقعية لحدث اختفاء الزوجين وانطفاء أحلامهما وآمال ذويهما من غير الأكثريّتين المتجانستين، اللتين استبعد منهما كلا فريد وأمينة، لكونهما من ديانتين مختلفتين، (فريد مسلم، وأمينة مسيحية). بل أحسب أنها من المرّات النادرة التي يصنع فيها الروائيّ عالم شخصياته مراعياً فيه التفاصيل الصغرى بالتوازي والتناسب مع الوقائع الكبرى، ويضفي على تصرفاتهم أبعاداً فكرية واجتماعية مضبوطة ومنسجمة مع تكوينهم ومراتبهم ووظيفتهم في الحرب الأهلية التي كانت رحاها لا تزال دائرة، في مسرى حكاية الرواية. وفي هذا التدقيق الواقعي افتراق عن المنحى الذي اختاره غالب الروائيين اللبنانيين الرواد واللاحقين، إذ أعرضوا عن الوقائع وما تحملها من قضايا خلافية، ومالوا إلى الضرب على وتر وحيد، أو وترين على الأكثر، هما من معينهما الإيديولوجي أو من رؤيتهما الخاصّة الى العالم اللازمة الأولى لأيّ كتابة. ولئن كان للكاتب مازن حيدر رؤية تميل الى التشاؤم ولا سيما في خصّ مصائر الشخصيات الضحايا، إذ لا أبطال في روايته وإنّما ضحايا ماضيهم أو مجتمعهم، فإنّ جذرها الرومنطيقيّ يلامس آمال هؤلاء المستوحدين، واللائذين بالحبّ في ما يتجاوز الطوائف والأديان والمجتمع المنقسم أبديا حول حيازة السماء على الأرض.

استعادة الحرب وتقصّ

لا يعتبر مازن حيدر أنّه ينبغي للكتّاب أن ينصرفوا عن ثيمة الحرب الأهلية لمجرّد إعلان انتهائها، بمصالحات لم تتمّ، وبدستور لبناني جديد (الطائف) لم تُحترمْ بنوده. وإنما يتعيّن عليه استعادة الحرب الأهلية ليتسنّى له الغوص عميقا في مظاهرها، وتحليلها من أجل بلوغ نقاط جوهرية في الانقسام العمودي بين اللبنانيين، والمعتبر جمراً تحت رماد الواقع، جاهزاً للاشتعال في كلّ مناسبة، عنيتُ به الانقسام بين مسيحييه ومسلميه انقساماً يحول دون تأسيس مواطنية حقيقية ومستدامة. إنّ اللعنة التي أصابت فريد وأمينة بسبب زواجهما المختلط (مسلم ومسيحية)، وحالت دون تواصل أقربائهما من الطرفين بهما، هي التي عيّنت مصيرهما، وجعلتهما كائنين مطروديْن من جذورهما، وحيديْن، ومحروميْن من نعمة الأبناء، ومن الميراث على السواء. فلا يتبقى لهما سوى الأحلام، والتمسّك بأويقات حلوة مع أصدقاء نادرين، في الجبل قبيل حرب الجبل والتهجير منه، سجّلها فريد على شريط لديه، وحين أصيب الشريط بعطل، سعى الى إصلاحه لدى الماهر برجيس، المقاتل السابق، في محور عين الرمانة، والمصاب بعطب في ساقه بإحدى المنازلات.

هي استعادة تلزم القائم بها، عنيتُ الكاتب، اتّباع استراتيجية التقصّي، بحيث تتماهى الكتابة السردية، بأساليبها المختلفة (الحوار، والوصف، والتعليق، والمناجاة) بنوع التحقيق، ما دام أنّ الراوي العليم لا يكتفي بتدوين أفعال شخصياته المحتمل أن تكون لهم صلة باختفاء الزوجين (امينة، وفريد) مثل الرسّام الأجنبي راوول صاحب الحدس القوي بتوقّع أحداث في الجبل، وسمعان الأبرص المقاتل المستجدّ والمتطرّف، وغابي "رفيق السلاح وحامل وشم الأرزة على الزند الأيمن" (ص:174).  وفي المقابل يضعنا الروائي في إزاء الشخصيات المتعاطفين مع الزوجين، والمعرّضين للقمع والإخفاء والإبعاد، لتمثيلهما النموذج المضادّ للتعصّب والتجانس والكراهية؛ ومن هؤلاء توفيقة، شقيقة أمينة، والمتزوّجة من رجل مسلم والمقيمة في صيدا، والمستبعدة عن ذويها للسبب عينه، وشوقي ابنها، المهندس المقيم بباريس مع زوجته وولديه، والعائد ليرصد أيّ أثر لقريبيه (أمينة وفريد)، وليجعل كاميراته البانورامية تنقل، وعلى امتداد خمسة فصول (13-18)، الصيغ المحتملة والعديدة لاختفاء الزوجين، إلى أن يحظى بشريط مسجّل قد يكون عائداً لهما. إضافة إلى شوقي، يقع القارىْ على شخصيات طيفية أو شبحية، مثل الطفل ميدو (وأصل اسمه محمد) وجدّته أمّ إبراهيم واللذين يظهران، بالتناوب، على من قد يكون سبباً في هلاكهما.

رمزية الشريط المسجّل

لا شكّ في أنّ لشريط التسجيل حضوراً رئيسياً في الرواية؛ بل لعلّه أحد الرموز المشغول بعناية، من قبل الكاتب، ليكون دالاًّ على هاجس الاحتفاظ بالذكرى، ومن أجل دوامها وتصويبها في النفس باعتبارها معنى لوجودهما، نجد الشخصيتين الضحيّتين (أمينة، وفريد) تسعيان، بكلّ ما أوتيتا من قوّة وشجاعة، في إثر مصلّح شرائط التسجيل (برجيس) من دون أن يكونا على علم بماضي هذا الشخص المستعان به، المجروح نفسيا بمقتل والدته على يد قنّاص، والمستعدّ للثأر من مقتلها كلّ حين، ولا كانا مهتمّين بالكلفة المادية لجهود ذاك المصلّح. ولعلّ حضور شريط التسجيل، على امتداد الرواية، ومتداولا بين أيدي الفاعلين الرئيسيين والثانويين فيها (من فريد وأمينة، إلى برجيس، فإلى رينيه أخت برجيس الميّت انتحاراً، ومنها الى شوقي، ابن أخت أمينة) يكشف أمراً مهمّا، وهو أنّ في الشريط المسجّل خطاباً متعدّد الدلالات، بتعدد الناظرين فيه؛ فعلى سبيل المثال، يتبيّن لأمينة، لدى استماعها الأوّل للشريط، أنّ ثمّة علامة شؤم واردة فيه وهي بروز صوت شخص متوّفٍ وهو مشرق بو لطف الله، بل مقتول في حرب الجبل مع عائلته، وعلامة ذلك إكليل جنائزيّ أول. هذا الى جانب السرور العارم الذي كان يعتري الزوجين كلّما استمعا الى أصوات مقرّبين وأصدقاء باعدت الأحداث بينهم. وفي المقابل، نجد أنّ شوقي، قريبهما، وإن رأى في ذلك الشريط أثراً من ماضٍ زاهر عاشه الزوجان، متمثلا في أغنية التي صدحت بها صباح، ذات يوم من أيام لبنان الجميلة في 14 أيلول من العام 1974.

لا يخالف الكاتب الشاب مازن حيدر قواعد الكتابة الروائية – وهو يتقنها بأيّ حال- إذ يدخل الى حلبة المسرح الروائي أشخاصا كانوا قد توفّوا لعشرة أعوام خلت، شأن شخصيتي ميدو وجدّته ام إبراهيم، وإنما يقصد من هذا، الإشارة الى أنّه ليس من زمن حاضر، بل ثمة أزمنة متداخلة ومختلطة، ما دام ثمة بشر يستذكرون بشرا آخرين، أو يتخاطرون معهم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة