ملخص
تركيز حاييم وايزمان على ضرورة نقل الفلسطينيين إلى الأردن والعراق "أعطني الأراضي التي يسكنها مليون عربي وسأوطن فيها خمسة أضعافهم من اليهود"!
الضجة التي تعالت بين الأوساط المصرية والعربية إزاء دعوة الحكومة الإسرائيلية إلى تهجير العرب من قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء تعيد إلى الأذهان ما سبق ودار من محادثات عام 1941 بين حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وأول رئيس لإسرائيل، وإيفان مايسكي سفير الاتحاد السوفياتي في لندن، الذي أعرب عن دهشته إزاء ما قاله وايزمان حول نقل خمسة ملايين يهودي إلى الأراضي التي يقطن فيها مليون عربي:
• "لا تقلق بهذا الصدد. وغالباً ما يوصف العربي بأنه ابن الصحراء، لكنه بكسله وسذاجته يحول البستان المزدهر إلى صحراء مقفرة. أعطني الأراضي التي يسكنها مليون عربي، وسأوطن فيها خمسة أضعاف هذا العدد من اليهود على أفضل نحو".
وهز وايزمان رأسه على نحو يوحي بالأسى، مختتماً حديثه متسائلاً:
• " المسألة هي: "كيف سنحصل على هذه الأراضي؟"!
هذا ما أوردناه في كتابنا "موسكو - تل أبيب... وثائق وأسرار"، الصادر عام 2020. ومن هنا كانت بداية أول حديث شبه رسمي جرى مع حاييم وايزمان عام 1941، أي قبل قيام "دولة إسرائيل" بسبع سنوات. "فلم تكن إسرائيل لتظهر إلى الوجود لو لم يكن ستالين أراد قيامها"، وذلك ما اعترف به كثر غيره داخل روسيا وخارجها، بل وهناك في قلب إسرائيل، بمن فيهم من اعتلى سدة السلطة هناك، ممن اعتمدوا مبدأ "الهجرة والتهجير" أساساً لقيام "دولة إسرائيل"، ومنهم غولدا مائير (الأوكرانية الأصل) أول سفيرة لإسرائيل في موسكو، ولاحقاً وزيرة الخارجية، ورئيسة الحكومة الإسرائيلية، وإحدى أبرز الموقعين على "إعلان قيام دولة إسرائيل في مايو (أيار) 1948"، بما قامت به من جهد "خارق" خلال الفترة القصيرة التي قضتها كأول سفيرة لإسرائيل في الاتحاد السوفياتي.
وكان ديفيد بن غوريون (البولندي الأصل) رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين وأول رئيس لحكومة إسرائيل، أشار في حديثه إلى مايسكي السفير السوفياتي في بريطانيا في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 1941، إلى ما قاله حول "حاجة الاتحاد السوفياتي إلى وساطة اليهود لدى الولايات المتحدة":
• "أنتم تسافرون إلى أميركا. أنتم تستطيعون القيام بخدمة كبيرة لنا إذا استطعتم إقناع الأميركيين بضرورة سرعة تقديم المعونات اللازمة. نحن نحتاج إلى الدبابات والمدافع والطائرات، بأكبر قدر ممكن، والأهم في أسرع وقت ممكن".
وذلك ما يمكن اعتباره أول إشارة إلى تلمس الاتحاد السوفياتي لوساطة اللوبي اليهودي لدى الولايات المتحدة! وهو ما وعد به بن غوريون، قبل أن يعود ويهاجم الاتحاد السوفياتي من موقعه كرئيس للحكومة الإسرائيلية، حين وصفه بأنه "حظيرة للعبيد"، مما كان بداية "الفراق التاريخي" مع إسرائيل في مطلع الخمسينيات.
الهجرة إلى فلسطين
وكان زعماء الحركة الصهيونية واصلوا في تؤدة وإصرار شديدين عمليات الالتفاف والمناورة بغية تحقيق مرادهم في شأن حشد الدعم اللازم لخطتهم في فلسطين، سواء من خلال المساعدات المادية المباشرة أو عبر السماح لليهود في الاتحاد السوفياتي وبلدان شرق أوروبا بالهجرة إلى هناك. وفيما بدأ هؤلاء تلمس طريقهم عبر اقتراحات طرحوها على سفراء موسكو في العواصم الغربية من مجرد إمداد الاتحاد السوفياتي بالبرتقال والأدوية، حتى تحولوا إلى الهدف مباشرة، مستندين في ذلك إلى حاجة موسكو إلى الدعم الدولي والعسكري اللازم لمواجهة الغزو الهتلري إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. ومن هذا المنظور كان اقتراح إيفاد مفوض عن الوكالة اليهودية في فلسطين إلى الاتحاد السوفياتي للإشراف على شؤون هجرة اليهود السوفيات.
وكان مايسكي قد أعرب عن كثير من شكوكه ومخاوفه في معرض حديثه مع بن غوريون:
"إن القضية اليهودية ستكون أكثر تعقيداً بعد الحرب، ومن الواجب حلها. علينا أن نصوغ كل المواقف والطرق، ومن ثم فإنه من الواجب معرفة كل التفاصيل. ثمة من يقول لنا إنه لا توجد في فلسطين، الأراضي التي يمكن أن تستوعب مهاجرين جدداً. إننا نريد تقصي الحقائق حول صحة مثل هذه الأحكام، نريد وضع التصورات المناسبة عن قدرات هذا البلد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونقل بن غوريون تعليقات مايسكي إلى أعضاء الهيئة الإدارية للوكالة اليهودية في اجتماعهم الذي عقدوه في الرابع من أكتوبر 1942، مشيراً إلى أن ما شاهده هناك أصابه بالدهشة:
"يمكن القول إن ما رأيته هناك كان بمثابة اكتشاف. ولم أكن أتصور ذلك أو أتوقعه، لذا من الواجب علينا الآن العمل بمزيد من الجهد نظراً إلى ظهور دولة أخرى تعرب عن اهتمامها بهذه القضية".
وفي هذه الدولة أي في الاتحاد السوفياتي، تعرجت وتعقدت مسارات حياة كثير ممن سبق وعهد إليهم بكثير من مهام الدولة والحكومة. ومن هؤلاء كان مايسكي الذي لم يمض من الزمن كثير بعد عودته إلى موسكو حتى تعثرت مسيرته في أروقة الخارجية الروسية في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتنتهي الحال به قبيل وفاة ستالين في الـ19 من فبراير (شباط) 1952 إلى غياهب السجون بتهمة "الخيانة العظمى" التي لاحقته حتى نهاية حياته.
وكانت المراسلات بين الجانبين قد اتخذت شكلاً أكثر نشاطاً حتى استقر الاتحاد السوفياتي على رأيه بخصوص "تقسيم فلسطين"، الذي لعب فيه أندريه غروميكو السفير الأسبق في واشنطن والمندوب الدائم في الأمم المتحدة دوراً محورياً.
تشيكوسلوفاكيا ومداولات قرار "تقسيم فلسطين"
وكانت غولدا مائير رئيسة الحكمة الإسرائيلية السابقة اعترفت في "مذكراتها" صراحة بالدور الحاسم الذي "لعبته تشيكوسلوفاكيا في دعم الميليشيات اليهودية والوحدات غير النظامية في معاركها ضد الجيوش العربية":
• "من ذا الذي كان يمكن أن يعرف ما إذا كنا نستطيع الصمود لو لم نستطع شراء الأسلحة والذخيرة من تشيكوسلوفاكيا، ونقلها عبر يوغوسلافيا وبلدان البلقان الأخرى في تلك الأيام السوداء، قبل أن تنصلح الأمور في يونيو (حزيران) 1948؟ لقد كان اعتمادنا الكلي في الأسابيع الستة الأولى من الحرب على الرشاشات والذخيرة التي اشتريناها من أوروبا الشرقية واستخدمتها فصائل الهاجاناه، في وقت كانت أميركا تحظر فيه إرسال السلاح إلى الشرق الأوسط".
لكنها سرعان ما اعترفت بالدور الحاسم لكل من القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في دعم قيام دولة إسرائيل، التي أكدت أنها لم تكن لتقوم من دونه. وقالت في مذكراتها:
• "إن قيادات تشيكوسلوفاكيا كانوا بطبيعتهم متعاطفين مع اليهود في فلسطين. وكان توماش ماساريك أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا يؤيد الصهاينة بشتى الطرق". ونقل عنه قوله "يجب ألا ننتظر أن تسلك الدول سلوك (الجنتلمان)".
وكشف المؤرخ الروسي ليونيد مليتشين عن أن وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا وابن رئيس الجمهورية قام بدور كبير في إرسال اللاجئين اليهود إلى فلسطين. وفي هذا الصدد لم يغفل مليتشين الإشارة إلى مصرع مازاريك وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا في ظروف غامضة، مكتفياً بالقول "إنه في التاسع من مارس (آذار) 1948 سقط من شرفة مكتبه ليلقى حتفه على الفور"، وإن أشار إلى ما قيل آنذاك حول أنه أقدم على الانتحار.
وفي شأن مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول قرار "تقسيم فلسطين"، نشير إلى أن بريطانيا التي أصدر وزير خارجيتها آرثر بلفور "وعده" في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 حول تأييد حكومة بلاده لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، امتنعت عن التصويت مع ذلك القرار رقم 181 الذي صدر بهذا الشأن في نوفمبر 1947، في الوقت نفسه الذي نجحت فيه الدوائر الصهيونية، بحسب مؤرخين، في شراء أصوات ممثلي عدد من بلدان أميركا اللاتينية للتصويت مع قرار التقسيم من خلال الهدايا لزوجاتهم من مجوهرات وفراء ثمين. وقد اعترف ترومان الرئيس الأميركي الأسبق في مذكراته بما قام به من أدوار في ذلك. وكانت "اندبندنت عربية" تناولت هذا الموضوع في تقرير سابق لها من موسكو، إذ أشارت إلى العوار الذي اتسم به القرار من ناحية المساحة الأقل التي حددها قرار التقسيم للدولة العربية، والأراضي الأقل جودة، إلى جانب ما تضمنه القرار من سلبيات أخرى.
تراجع ستالين عن تأييد إسرائيل
لم تستمر العلاقة المتميزة بين الاتحاد السوفياتي وإسرائيل طويلاً. فسرعان ما تكشفت ملامح التوتر الذي سجل الأديب اليهودي السوفياتي إيليا إهرنبورغ بعضاً من تفاصيله، في رسالته "المثيرة للجدل" التي نشرها بإيعاز من ستالين شخصياً، والتي قال فيها إن قيام دولة إسرائيل لم يعد الحل للمسألة اليهودية. وتكشف هذه الرسالة كذلك عن تراجع ما كانت تراهن عليه موسكو حول "إقامة أول دولة اشتراكية في الشرق الأوسط، ما يمكن أن يكون نقطة انطلاق لثورة الطبقة العاملة والانتصار على الرأسمالية وتغليب النظام الاجتماعي على الطابع القومي للدولة". ولعله من المثير هنا التوقف عما طرحه الجانبان من تصورات حول الأهمية الاقتصادية للمنطقة وموقعها الاستراتيجي إلى جانب المداولات الخاصة بمستقبل القدس.
وكان الاتحاد السوفياتي تحول من المدافع الأول عن إسرائيل إلى خصمها الرئيس، وأيضاً تحولت موسكو من تأييدها المعنوي والسياسي لإسرائيل إلى تسليح البلدان العربية وتأييد "أعمالها العدوانية"، على حد قوله، وهو ما عزاه إلى أنها "لم تعد تبرر آمال ستالين فيها". وكان ستالين على معرفة بالأصول الفكرية للقيادات السياسية لإسرائيل وانتمائهم إلى التنظيمات العمالية والنقابية اليهودية، وتعاطفهم مع روسيا من منطلقات أيديولوجية ماركسية واشتراكية، وهو ما كان يعلق عليه كثير من آمال "بناء أول دولة اشتراكية" في الشرق الأوسط.
وذلك ما رصده السفير الإسرائيلي الجديد في أول تقاريره "السرية" التي بعث بها إلى قيادته في إسرائيل من موسكو في الـ30 من ديسمبر (كانون الأول) 1953. وكان هذا التقرير أشار إلى كثير من وقائع التحول الذي طرأ على المجتمع السوفياتي وشهد تصاعد العداء والكراهية لليهود السوفيات، بما في ذلك على مستوى المدرسة ورياض الأطفال في موسكو. وعلى رغم الفرحة التي عمت الأوساط اليهودية السوفياتية من جراء إعادة العلاقات الدبلوماسية التي كانت قطعت مع إسرائيل في أعقاب "تفجير" السفارة السوفياتية في تل أبيب، وما سبق ذلك من قرارات اتخذتها السلطات السوفياتية حول الإفراج عن الأطباء المتهمين في القضية المعروفة باسمهم قبل وفاة ستالين، فإن ما تلا ذلك من أخبار ومشاهد كانت تقول بتحفظات كثيرة مكتومة، ومخاوف يخشى أصحابها الإفصاح عنها.
ومع ذلك فقد تواصلت الاتصالات ومنها محاولة إسرائيل في نهاية عام 1953 رفع مستوى العلاقات بين البلدين إلى مستوى السفارة، وهو ما أبلغه رئيس قسم بلدان الشرقين الأدنى والأوسط في الخارجية السوفياتية في تقريره "السري" إلى نائب وزير الخارجية زورين في الـ11 من يناير (كانون الثاني) 1954، وذلك ما تحقق صيف عام 1954.
غير أن العلاقات لم تعد إلى سابق عهدها، بل وراحت تسير من سيئ إلى أسوأ، بقدر ما كانت إسرائيل تحققه من تقارب مع التحالف الأنغلو - أميركي. ومن المثير واللافت أن ذلك كله كان يجري في توقيت مواكب لبداية التقارب بين الاتحاد السوفياتي ومصر، على ضوء ما تحقق من تقارب بين البلدين اعتباراً من عام 1954، وما نجم عن ذلك من نتائج لأول مفاوضات رسمية جرت في القاهرة خلال زيارة دميتري شيبيلوف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، لمناسبة الذكرى الثالثة لثورة الـ23 من يوليو (تموز) 1955. وكنا قد أشرنا في كتابنا السابق "القاهرة - موسكو... وثائق وأسرار" الصادر عن "دار الشروق" القاهرة 2019، إلى كثير من تفاصيل تلك الفترة، وما أسفرت عنه من نتائج بين القاهرة وموسكو، وذلك ما يمكن التوقف عنده في موضوعات لاحقة، فما نشهده اليوم من تراجع في وتيرة علاقات الجانبين يعكس مدى تأثير "العملية العسكرية الروسية" الخاصة في أوكرانيا على قدرات الجانب الأوكراني، فضلاً عما نجم عن "عملية غزة" من نتائج، وتأثير ذلك في ما كان يحصل عليه من دعم عسكري ومالي من جانب الدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص، التي انصرف جهدها الأساس إلى إسرائيل.