ملخص
عندما جمعت المقاومة الفلسطينية الأولى الأسلحة التي خلفها الجيش المصري لاستخدامها لاحقاً
في روايته الجديدة "الهليون" (دارمكتبة سمير، غزة 2023) يعيدنا الروائي الفلسطيني طلال أبو شاويش إلى زمن البدايات التي تأسست فيها المقاومة الفلسطينية في غزة بعد احتلالها عام 1967 حين كانت الحامية المصرية تدير شؤون قطاع غزة .
وتتخذ البنية السردية فيها مزيجاً من التقليد الكلاسيكي والحداثة الفنية في معمار الرواية يتسم ببساطة السرد، وتتبادل فيها الفصول الشخوص الرئيسة وبعض الشخوص الثانوية حين يحتاج النص إلى أن يعلو بنبرته في تصوير تداعيات بدايات المقاومة في غزة على شخوص الرواية، وتصوير أساليب التعذيب الوحشية التي تعرضوا لها منذ البداية، هذا إن لم يتم إعدام المعتقل منهم بعد القبض عليه في ميدان المعركة، أو ربما يتقاسم الشخوص الأدوار مع شخوص أخرى لتروي حكاية غريبة عن موت "الهليون" أو الضابط الجاسوس والد الضابط في الـ "شاباك" "يوشع" بن ديفيد، والذي تكمن غرابته في عشق "حياة" التي أعادت للجاسوس هويته الإنسانية فدفع ثمناً باهظاً كلفه حياته.
تستهل الرواية أحداثها على معبر إيريز/ بيت حانون في لقاء جمع بين "يوشع" ضابط الـ "شاباك" الإسرائيلي المتقاعد و"منصور" أحد المؤسسين الأول للمقاومة الفلسطينية في غزة، حين بدأها مع جارته الشابة نرجس في جمع البنادق والأسلحة التي خلفها الجيش المصري قبل انسحابه وطمرها في أراض زراعية تمهيداً لاستخدامها لاحقاً ضد جيش الاحتلال.
"منصور" يصبح قائداً ومن ثم أسيراً في سجون الاحتلال ويتعرض لتعذيب وحشي على يد المحقق "يوشع" نفسه الأكثر قسوة بين المحققين، ويوثق "منصور" في السجن مع شبكة من رفاقه حياة الأسرى وعذاباتهم في السجون الإسرائيلية والتي كانت امتداداً ولا تزال للمقاومة خارج أسوار السجون، وكأن اليوم هو وليد تلك المفارقات الوجودية في غزة التي عاشها المقاومون/ات الأوائل، ليس بأحداثها التي تضاعفت كثافتها على رغم الجوهر ذاته لإرادة المقاومة، بل أيضاً في الأماكن التي نزورها في الرواية في أنحاء غزة وشوارعها ومخيماتها، والعنف الذي لا يزال يلاحقها حتى اللحظة التي يتكرر ذكرها في العدوان الإسرائيلي الحالي والمستمر على غزة.
المصير الغامض
وفي الرواية كما في أحداث اليوم، تتعرض غزة لنماذج متصاعدة من العنف على يد جيش الاحتلال، لكن في الرواية يحاول الكاتب الروائي والشاعر ابن غزة أن يقول شيئاً آخر أو يتساءل عن مصير "الهليون" الغامض الذي يدفعه عشقه لـ "حياة" للتخلي عن مهمته في التجسس على المقاومة، بعد أن يعيد له العشق إحساسه بذاته التي فقدها مذ كُلف بمهمة التجسس قبل احتلال إسرائيل لغزة بعام واحد، ومنذ زُرع في هذه البقعة الصغيرة من العالم، لكنه ما لبث أن توفي في ظروف غامضة أعقبت عصيانه للأوامر.
ابنه "يوشع" الذي شيع والده مرتين، مرة حين لفقت الاستخبارات الإسرائيلية موته ليتمكن من تغطية مهمته وأخفت الحقيقة حتى عن ابنه الذي عاش يتيماً لأب لا يزال حياً، أما الموت الثاني فكان حقيقياً حين عثر عليه بعد ثلاثة أيام من اختفائه. وهذا الاختفاء هو ما أثار الريبة في نفس "يوشع"، وتساءل عن ضابط الارتباط وكيف لم يشعر باختفائه أو يرتب عند فقدان الاتصال معه؟ لذلك حاول طلال أبو شاويش أن يظهر ارتياب "يوشع" بظروف اختفاء والده قبل موته حين جمع في مستهل روايته بين شخصيته الرئيسة "منصور" الذي جرى تعذيبه على يد "يوشع" نفسه في سجن غزة المركزي، بوصفه أقسى المحققين وأبرعهم على الإطلاق في نزع اعترافات الأسرى بفنون تعذيب لا تخطر ببال، فقابل "يوشع" "منصور" على معبر إيريز في سيارة الإسعاف التي كانت تقله إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية لتلقي العلاج من ورم سرطاني في الرأس، وخلال اللقاء الغريب بين الضحية وجلاده لم يتوان "يوشع" عن التحقيق مع "منصور" في ظروف موت والده لاحتمال انكشاف أمره و تصفيته على يد المقاومة، خصوصاً بعد تقاعده من مؤسسة الـ "شاباك" وتمنّع كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من الإجابة عن أسئلته. وما بين الترغيب والترهيب والتوسل حاول أن يعرف معلومات تفك شيفرة موت والده الملقب بـ "الهليون"، وحين لم يشف "منصور" غليل "يوشع" ولم يقدم له أية معلومة، لربما لأنه لا يملكها حقاً، حاول طلال أبو شاويش أن يوحي للقارئ أن "منصور" لا يعرف فعلاً ما حدث لـ "الهليون".
وتتسع حينذاك شكوك "يوشع" حول أياد استخباراتية إسرائيلية وراء موت والده الغامض، ومع ذلك يعاقب "يوشع" "منصور" على عدم تجاوبه بإعادته من المعبر وعدم السماح له بتلقي العلاج.
و"يوشع" الذي منح حياته كلها للاستخبارات هو أيضاً عانى الكلفة الباهظة لعمله في إمحاء هويته الفردية والإنسانية، وإن عزا ذلك لعيشه وحيداً في تل أبيب، حيث حياة فارغة لا لمسة إنسانية فيها بلا أب أو أم، "رفضت الهجرة إلى إسرائيل رفضاً للمشروع الصهيوني وصممت على البقاء في باريس"، لذا حين تتم إحالة "يوشع" للتقاعد ينتقل من تل أبيب و يقرر العيش في" كفار سابا" المحاذية لقلقيلية بعيداً من صخب الحياة والازدحام، ليعيش حياة أكثر هدوءاً وعزلة وليتفرغ لملف والده واستخدام علاقات صديقه ضابط الـ "شاباك" المتقاعد "يوسي".
"منصور" الذي ذاق الويلات على يد "يوشع" لم يشف غليل جلاده أو يعطه أية معلومة عن ظروف موت والده "ديفيد هيلين" المعروف لدى الغزيين بـ "الهليون"، بل بدت عليه علامات الشماتة والدهشة المبطنة اللتين أثارتا غضب "يوشع" وخيبته، ولم يسعفنا طلال أبو شاويش مرة أخرى في معرفة هل تمت تصفية "الهليون" على يد المقاومة في غزة أم تمت صفته الاستخبارات الإسرائيلية، بل ترك القراء في حال من الترقب والتشويق طوال الرواية، وعبر مونولوغ داخلي لشخصية "الهليون" يبين لنا كم عاش وحيداً حتى فقد أبسط الأحاسيس الإنسانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تُرد روحه إليه إلا حين وقع في حب "حياة" الغجرية التي كانت تصغره بـ 30 عاماً وكانت تقطن مع والدتها المومس "إنصاف" في حي الغجر في غزة، وتمت تصفيتها لاحقاً على يد المقاومة من غير أسباب واضحة أو بسبب علاقتها مع "صالح" العميل الذي تمت تصفيته قبلها، ولكن على رغم تمنع "حياة" من السير على خطى والدتها، أحبت" الهليون" وكان أول من سمحت له بمطارحتها الغرام على رغم تحفيز والدتها الدائم لإعطاء الفرصة للزبائن، ولم تفعل .
الحب والشك
كانت طريقة تعامل"الهليون" الراقية والأنيقة معها هي ما جذبها نحوه، وإن لم تكن تتناسب مع طبيعة عمله القذرة في إصلاح حفر المراحيض والتي كانت بالأساس غطاء لمهمته، وإذا بالحب الذي لمع فجأة في سماء حياته يذكره بنفسه حين كان يعيش في باريس، ولذا لم يستطع أن يخفي طقوس التعامل مع النساء التي نشأ عليها، بل لم يرد أن يخفيها، إن في تقبيل يدها أوالتعطر قبل المجيء إليها وممارسة الحب على مهل والتمهل في تقبيلها ولمس بشرتها وتحسس جسدها بأنامله برقة، قبل أن يأخذها بشهوة المشتاق إلى نفسه وإليها. وإن أعجبت "حياة" بطريقة تعامله معها فلأنه تعامل معها عكس أولئك الذين يضاجعون والدتها على عجل، أو هي تستعجل إفراغ رغباتهم كي تتخلص أسرع ما تستطيع من أصواتهم الفظة وأجسادهم الدبقة، لكنها في الوقت نفسه استغربت رقي "الهليون" وأحبت حبه لها، وإن أثار أسلوبه في التودد وممارسة الجنس فيها الريبة والتساؤل، فهي أيضاً لم تسع إلى سؤاله عن هذه الممارسات التي لا تتلاءم مع طبيعة مهنته ورثاثة حياته، بل استسلمت لحبه من غير سؤال، وزادت هداياه المميزة التي لا تتناسب مع مدخوله من ريبتها لاحقاً، وحين أحس "الهليون" بحيرتها من جديته معها قرر الزواج منها على سنة الله ورسوله مما أثار غضب رؤسائه. ولكن حين أبلغهم بتخليه عن التجسس طلبوامنه مهمة أخيرة تقضي بتعقب وقتل "جيفارا" بطل المقاومة وقائدها، قبل أن يموت هو الآخر من غير أن تلجأ الاستخبارات إلى تشريح جثته وفك لغز موته المريب.
من قتل "الهليون" أو من كان يتربص به حقاً؟
كانت تلك ثيمة الرواية وهي تتفاعل مع أحداث المقاومة ومفارقات البقاء في غزة والصمود فيها، على رغم الوحشية أو إهدار الحياة الإنسانية التي لم يتورع جيش الاحتلال من اعتمادها للتخلص حتى من رجالاته عند أقل خطأ صغير، حتى لو كان على حساب إنسانيتهم، وليس فقط على حساب إنسانية الفلسطينيين والفلسطينيات. وقد مثلت "نرجس" الحبيبة غير المعلنة لـ "منصور" نموذجاً صارخاً لها ولمفارقات العيش في غزة تحت الاحتلال، وما تتطلبه المقاومة من تضحيات حتى بالحبيبة لرفيق النضال "سميح". مفارقات قد تصل إلى خسارة الحبيب عند "نرجس" ومن ثم الزوج، بل واقتلاع الأطفال من أحضان أمهاتهم.
إن رواية "الهليون" فصّل من سردية غزة الطويلة في المقاومة والصمود والفداء قبل أن توجد "حماس"، وقد تستمر مع حركة جديدة مستقبلاً تلد غزة من نفسها، مما يسمح لها بالعبور أو الصعود إلى سموات أرحب، وهو ما حدا بالكاتب أن يعلق خاتمة روايته في شباك الغموض والترقب بعد تقطع الزمن وتداخله في زمن الرواية والانتظار.