انتهت الحلول الرسمية والرقابية والتدخلات الردعية، ولم يتبق سوى الأماني والدعوات والأمنيات لكي تعود سوق الدخان والسجائر في مصر إلى رشدها، وعلى رغم أن أسعار السجائر منفلتة وخارجة عن السيطرة منذ شهر مايو (أيار) الماضي، فإن الـ48 ساعة الأخيرة شهدت استفحال الأزمة حتى فقد المدخنون الأمل في شراء سجائر بسعرها الرسمي المطبوع على عبوتها، واضطروا إلى الشراء إلى أعلى سعر بحسب رغبة وهوى التجار والبائعين، وإلا سيكون العقاب من كلمتين "مفيش سجائر"، أي (لا توجد لدينا سجائر).
أين الرقابة؟
قد تكون لقوى السوق العرض والطلب تأثير كبير في تسعير المنتجات، تلك ببساطة إحدى أقدم النظريات والمبادئ الثابتة منذ قرون عدة، فإن ما يحدث في مصر لا يخضع لقوى العرض والطلب أو إلى أية نظرية اقتصادية، ففي وقت ارتضى فيه المدخن أو المستهلك بالأثمان المرتفعة لعبوات السجائر على رغم عدم صدور قرار رسمي بزيادتها، فيبحث عنها ولا يجدها، مما جعل الأمر أشبه باللغز الكبير تاركاً المدخنين يضربون أخماساً في أسداس.
وحاولت "اندبندنت عربية" في هذا التحقيق فك الطلاسم بالتواصل مع غالبية أركان منظومة السجائر والدخان في مصر، بداية من المدخن والمستهلك وحتى الجهات الرقابية.
في البداية، وإلى جانب أحد أكشاك بيع السجائر في أحد الشوارع الشعبية بمنطقة إمبابة دار حديث بين مدخن وبائع الكشك، إذ طلب المدخن شراء علبة سجائر نوعية "ميريت"، فجاء رد البائع "لا توجد"، لكنه يستطيع توفيرها له خلال دقائق بـ100 جنيه (السعر الرسمي 64 جنيهاً)، فما كان من المدخن إلا أن طلب نوعاً آخر "مارلبورو أحمر"، فرد البائع سعرها 90 جنيهاً (السعر الرسمي 60 جنيهاً)، فرفض المدخن متجهاً إلى بائع آخر، ثم عاد في غضون دقائق طالباً عبوة سجائر "مارلبورو أحمر"، إلا أن البائع صدمه بأن سعرها ارتفع إلى 95 جنيهاً.
هنا تدخلت "اندبندنت عربية" لتسأل المدخن عن الأزمة، فرد قائلاً "مش عارف فيه إيه؟ وفين السجائر؟ السعر عالي مش مهم! لكن هي فين؟ وفين الرقابة وفين الحكومة؟"، متسائلاً "إذ كان التجار يحتكرون السجائر من أجل زيادة السعر، فنحن قبلنا تلك الزيادة غير الرسمية التي تراوح بين 20 و25 جنيهاً (0.81 دولار) في العبوة الواحدة، لماذا تختفي؟".
أين الخلل؟
هكذا كان حال المدخن المغلوب على أمره، في المقابل لم يكن البائع صاحب كشك (محل صغير لبيع السجائر ومنتجات بسيطة) أفضل حالاً من المشترى، بعدما أقسم أكثر مرة تأكيداً على صدق حديثه قائلاً "لا احتكر أو أمنع سيجارة واحدة سواء سيجارة شعبية أو أخرى أجنبية طمعاً في البيع بسعر أعلى"، موضحاً "عندما أذهب إلى تاجر الجملة (البيع بالكميات) لا أجد سجائر"، مشيراً إلى أنه في حالة نجاحه في الحصول علي أية كمية يشتريها "بأعلى من أسعارها الرسمية، من ثم لن أبيع بالخسارة على الإطلاق"، متسائلاً "أين الخلل"، مضيفاً "نفسي أعرف من يحكم سوق السجائر في مصر".
ومنذ ثلاثة أشهر اختفت بعض الأنواع من السجائر الأجنبية مثل "إل إم" و"مارلبورو" و"ميريت" من الأسعار على رغم بيعها بأسعار تتجاوز الأسعار الرسمية بأكثر من 30 في المئة.
السجائر المحلية، أو ما يطلق عليها السجائر الشعبية ليست في مكانة أفضل من نظيرتها الأجنبية بعد، طاولتها الأزمة أيضاً، وارتفعت أسعارها في الأسواق بنحو 30 في المئة من أسعارها الرسمية.
في محاولة منها لحلحلة الأزمة أعلنت الشركة الشرقية "إيسترن كومباني"، بداية من الخميس الماضي، زيادة أسعار السجائر والمعسل، في إطار تعديلات قانون ضريبة القيمة المضافة التي أقرها مجلس النواب المصري، إذ تضمن مشروع القانون زيادة ضريبة الجدول الثابتة على منتجات السجائر بالسوق المحلية بمقدار 50 قرشاً (0.016 دولار) للشرائح الثلاث الدنيا والمتوسطة والعليا، إضافة إلى رفع سعر التبغ المسخن وسائل السجائر الإلكترونية.
النقص مستمر
وعلى رغم أن زيادة أسعار السجائر بصورة رسمية قد تكون محاولة من جانب الشركات المنتجة لضبط واستقرار السوق أملاً منها في تقليل الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي في الأسواق، فإن الأزمة لا تقف عند هذا الحد، إذ إن التجار يبيعون منتجات السجائر بأسعار أعلى من الأسعار الرسمية في الأشهر الأخيرة على خلفية النقص الحاد في الأسواق مع ارتفاع كلف الإنتاج وأزمة نقص العملات الأجنبية.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، استحوذت شركة "غلوبال" الإماراتية على حصة تبلغ 30 في المئة من أسهم "الشركة الشرقية للدخان"، في صفقة بقيمة 625 مليون دولار.
الدولة لم تتخارج من "الشرقية للدخان"
وحول تأثير الصفقة الإماراتية في السوق المصرية بعد أن زعم البعض على مواقع التواصل الاجتماعي أن الدولة تخارجت تماماً من صناعة الدخان بعدما باعت حصة كبيرة من أسهمها، وهذا السبب الرئيس في الأزمة الآنية، نفى رئيس "الشركة الشرقية للدخان" هاني أمان تلك المزاعم، قائلاً "هذا كلام عارٍ تماماً من الصحة"، موضحاً أن "الصفقة لم تتم بصورة رسمية حتى الآن"، مضيفاً "حتى لو تمت الصفقة فلا تزال الحكومة ممثلة في (الشركة الشرقية للدخان) تمتلك 20 في المئة من أسهم الشركة، إذ إن "الشركة الشرقية" تابعة لـ"الشركة القابضة للصناعات الكيماوية"، وهي إحدى شركات قطاع الأعمال العام.
وحول أزمة سوق الدخان في مصر قال رئيس "الشرقية للدخان" إن "تلك الأزمة لا دخل لنا فيها، ونحن بدورنا أبلغنا الجهات الرسمية والرقابية بأسماء كبار تجار وموزعين الشركة لمراقبة أسعار البيع، إضافة إلى أننا نطبع أسعار السجائر على العبوات بواسطة باركود يمكن من خلال الهاتف المحمول معرفة السعر في الحال".
وبعد التعديلات الأخيرة وصل سعر "كليوباترا"و"كينغ سايز" إلى 27 جنيهاً (0.87 دولار)، بدلاً من 23 جنيهاً (0.74 دولار)، بينما وصل سعر عبوة سجائر "كليوباترا" ("سوفت كوين" و"بوكس" و"سوبر" و"بلاك ليبول" و"مونديال" و"بوسطن" و"بلومنت") إلى 27 جنيهاً، بدلاً من 24 جنيهاً (0.78 دولار)، في حين سجل سعر عبوة سجائر "فيسروي" و"بال مال" إلى 42 جنيهاً (1.36 دولار)، بينما لم تعلن الشركات المصنعة والمنتجة للأصناف الأجنبية قوائم الأسعار الجديدة بعد تعديلها.
تعديل سياسة التوزيع
وحول أسعار السجائر الأجنبية قال رئيس شعبة الدخان باتحاد الصناعات في مصر إبراهيم إمبابي إنه "لا حل لأزمة السجائر في مصر إلا بعد تنفيذ ثلاث خطوات مهمة"، مضيفاً "الخطوة الأولى تمت بالفعل بعد الزيادة الجديدة في ضريبة القيمة المضافة، إذ ستصدر الشركات المنتجة للأصناف الأجنبية قوائم الأسعار الجديدة للسجائر بحسب الشرائح الثلاث، بعد التعديل الأسبوع المقبل"، موضحاً أن الأسعار المقررة من الشركات قد تنخفض بقيمة جنيه عن الحد الأقصى لسقف السعر المقرر، تحسباً لارتفاع سعر صرف الدولار أو ارتفاع مستلزمات الإنتاج مستقبلاً".
كبار الموزعين يسيطرون
وحول الخطوة الثانية قال رئيس شعبة الدخان باتحاد الصناعات في مصر "لا بد من إعادة هيكلة نظام التوزيع من قبل الشركات المنتجة التي في العادة تبيع السجائر لكبار الموزعين المسيطرين على السوق الذين بدورهم يوزعونها على تجار الجملة على أن يوزعوها أيضاً على تجار التجزئة وصغار البائعين والأكشاك" قائلاً "هنا المتحكم في السوق ليست الشركات ولا الدولة بل الموزعين"، مؤكداً "السوق لن تستقيم مطلقاً من دون عكس عمليات التوزيع، مشيراً إلى أن التاجر الجشع سيعمد إلى إخفاء مخزونه من السجائر لرفع أسعارها، وزيادة هامش ربحه إلى أكثر من 50 في المئة عن الأسعار الرسمية المقررة قائلاً "لا توجد حلول".
وحول الخطوة الأخيرة اللازمة للسيطرة على سوق السجائر قال "يجب على الجهات الرقابية، التي ضبطت كميات ضخمة من السجائر المخزنة بغرض الاحتكار منذ يونيو (حزيران) الماضي، أن تضخ تلك السجائر في الأسواق لزيادة المعروض وتقليل الطلب، مطالباً الجهات بتوزيع تلك الكميات على صغار التجار والأكشاك والمحال الصغيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المستهلك يطالب بحقه
وطالب إمبابي المستهلكين على الطرف الآخر بالبحث عن حقوقهم قائلاً إنه "في حال التعرض لتاجر يرفع السعر عن السعر الرسمي بالتحري عن صحة السعر من طريق مسح رمز الباركود عبر الهاتف، والذي سيظهر له السعر الرسمي ورقم التشغيل، ثم يحرر محضر للتاجر".
ووجهت الصحيفة سؤالاً إلى أحد مسؤولي مباحث التموين والتجارة الداخلية المنوط بها رقابة توافر السلع بالأسواق واستقرار أسعارها ومحاربة والتهريب والتزوير الذي لم يرد أن يذكر اسمه قبل أن يجيب "نحن لا نكل ولا نمل عن مطاردة المهربين والمزورين ومواجهة جشع التجار في المدن والقرى والمراكز الرئيسة في الدولة"، مضيفاً "مراقبة الأسواق والمحال والأزقة والحواري تحتاج إلى جيش جرار من رجال المباحث، وهذا لا يمكن بالطبع"، مطالباً المواطنين بمعاونة رجال المباحث بالإبلاغ عن أية حالة فوراً لمساعدتهم في القضاء على تلك الأزمة.
ودخن المصريون 88 مليار سيجارة في العام المالي الماضي مقارنة بـ94 مليار سيجارة في العام المالي السابق له، بنسبة خفض ستة في المئة، وبلغت كمية المبيعات المحلية من منتجات "الشركة الشرقية للدخان" من دخان المعسل ستة آلاف طن في مقابل تسعة آلاف بنسبة خفض 33 في المئة، بحسب ما أفصحت الشركة في وقت سابق من العام الماضي.
وتستهدف الحكومة المصرية قيمة الحصيلة الضريبية على التبغ والدخان بنحو 88 مليار جنيه (2.85 مليار دولار) خلال السنة المالية الحالية 2023-2024، مقارنة بـ86 مليار جنيه (2.78 مليار دولار) في السنة المالية الماضية 2022-2023.
أخيراً، تواصلت "اندبندنت عربية" مع أحد كبار موزعي السجائر في مصر بمنطقة باب البحر بوسط العاصمة القاهرة الذي بدوره رفض رفضاً قاطعاً التعليق على الأزمة أو الإدلاء بأية معلومات أو بيانات.