"مللت الاقتطاعات المتكررة والمتواصلة والعمولات الكبيرة من المصرف الذي أتعامل معه إلى درجة أن نحو 40 في المئة الراتب الشهري (يبتلعه) المصرف بين متأخرات قرض بنكي قديم وعمولات غير مفهومة"، بانفعال وسخط هكذا تحدث إبراهيم المسعودي إلى "اندبندنت عربية" قائلاً إن المصرف صار شريكاً له في راتبه الشهري التي تقارب 1500 دينار (نحو 500 دولار).
واعتبر الرجل الخمسيني الموظف بإحدى الوزارات في تونس أن كل المصارف لها السياسة التجارية والمالية نفسها في التعامل مع العملاء، متسائلاً عن البدائل؟ مستفسراً عن مصير مشروع تحويل البريد التونسي إلى مصرف ليقدم خدمات أفضل، بخاصة أن عمولاته أقل بكثير من المصارف المحلية.
وأضاف المسعودي أن أقل عمولة بنكية سواء تعلق الأمر بالسحب أو بتلقي الأموال في حدود دولار واحد لتصل إلى مستوى 36 ديناراً (10 دولارات)، بينما عمولات البنك البريدي أقل من دولار، مشيراً إلى أن اقتطاعات البنك لا تحصى ولا تعد وغير مفهومة تارة بقيمة 30 ديناراً، وتارة أخرى بقيمة 9 دينارات (3 دولارات)، لافتاً إلى أنها كلها عمولات تحت عنوان اقتطاعات لا نفهمها"، قائلاً "مشروع البنك البريدي أصبح مطلباً شعبياً لآف التونسيين، لا سيما الفئات الاجتماعية المتوسطة والضعيفة في تونس".
جدل وغموض
إلى ذلك يصاحب مشروع انتقال مؤسسة البريد التونسي والمعروفة أكثر لدى التونسيين بـ"البوسطة"، بحسب اللهجة العامية التونسية، إلى مصرف، جدل وغموض كبيران في شأن المشروع الذي لا يزال يراوح مكانه ولم تحسم السلطات المالية في البلاد أمرها، سواء بتفعيله أو إغلاقه.
وبين مرحب بالمشروع وبين رافضاً له، ضاع الملف ولم يحسم في ظل تركيز الحكومة التونسية على ملفات أخرى تراها عاجلة في ظل الظرف الاقتصادي والمالي الصعب الذي تمر به البلاد.
مطلب شعبي
من جانبه دافع الرئيس المدير العام لمؤسسة البريد التونسي سامي المكي عن ملف تحويل البريد التونسي إلى بريد بنكي، معتبراً إياه أولوية عمل المؤسسة ووزارة تكنولوجيا الاتصال في الاستراتيجية الرقمية لسنة 2023 و2024، مشدداً على أن هذا المطلب بالأساس شعبياً لدى عملاء البريد وغيرهم، مما جعل المؤسسة تتقدم بملف مستوفٍ كل الشروط، منذ سنة 2019 إلى البنك المركزي التونسي، مستدركاً "لكنه لم يحظ بعد بأولوية القبول".
وتابع المكي أن البريد التونسي يقدم كل الخدمات تتصدرها بنسبة 90 في المئة الخدمات المالية باستثناء خدمة إسناد القرض لم يقدمها بعد، معرباً عن أمله تقديم هذه الخدمة لعملاء البريد التونسي قريباً، بعد تحويل البريد التونسي إلى بريد بنكي. وأشار إلى أن مشروع البنك البريدي الذي يعد تطوراً طبيعياً في معظم بلدان العالم تأخر نسبياً، بخاصة أن 83 في المئة من معاملات البريد التونسي هي معاملات مالية، متوقعاً إصدار البنك المركزي قراراً لتغيير صبغة البريد التونسي إلى بنك بريدي قريباً، مرجحاً أن تأخر رد البنك المركزي يعود لفترة تقديم الطلب التي تزامنت مع فترة جائحة "كوفيد-19" والتحول السياسي والاقتصادي الذي تمر به تونس.
إرث تاريخي كبير
يشار إلى أن البريد التونسي تأسس في الأول من يوليو (تموز) 1888 تحت اسم "مكتب التونسية البريد والتليغراف"، ويعد من أولى المؤسسات البريدية في العالم التي انضمت إلى الاتحاد البريدي العالمي عام 1878، كما تم إصدار أول طابع بريدي تونسي في 1888، وفي 1918 أنشئت خدمة الشيكات البريدية في تونس، ثم في 1956 تأسس صندوق الادخار القومي التونسي.
وأظهرت مؤشرات العام الماضي أنه سجل 4.3 مليون حساب ادخار بريدي وبلغ رصيد حسابات للادخار البريدي إلى 8342 مليون دينار (2691 مليون دولار) رصيد حسابات للادخار البريدي و2.1 مليون حساب بريد جارٍ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تلك الأثناء نشر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (تابع لرئاسة الجمهورية) دراسة بعنوان "الإدماج المالي ودوره في الحد من الاقتصاد غير المنظم في تونس"، شدد فيها على الدور الذي يمكن للبريد أن يلعبه في التقليل من الفوارق الجهوية وفي مراجعة منظومة التعويضات والإدماج المالي في صورة وجود بنك بريدي، لا سيما في ظل توفر بنية تحتية محفزة بوجود 1046 مكتباً بريدياً موزعة على كامل البلاد، منها 53 في المئة في مناطق ريفية، وجميع هذه المكاتب مجهزة بالإنترنت و70 في المئة منها متشابكة بمنظومة معلوماتية موحدة.
وتستقطب هذه المكاتب يومياً 700 ألف عميل من مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية والسواد الأعظم منها يتصل بالبريد من أجل معاملات مالية، وعلى رغم أن التغطية البريدية موافقة للمعايير الدولية الجاري العمل بها بوجود مكتب لكل 11 ألف مواطن فإن الاكتظاظ اليومي يومياً في مقار البريد يعكس محدودية انتشار الفروع البنكية وتغطيتها لحاجات العملاء على مستوى الخدمات المالية الدنيا.
من الصعب إحداث البنك البريدي
في غضون ذلك يبدو أن محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي حسم بصورة كبيرة مشروع البنك البريدي جازماً أنه من الصعب جداً أن يرى النور في تونس لاعتبارات عدة وصفها بالموضوعية، أهمها أن القطاع البنكي الحالي في تونس محتاج إلى إعادة هيكلة جذرية وكبيرة في اتجاه السعي إلى التحفيز على الاندماج بين البنوك فيما بينها.
وقال رداً عن استفسار عدد من أعضاء البرلمان التونسي خلال يوم دراسي حول البنك المركزي التونسي في شأن مصير الملف، إن "وفداً من مؤسسة البريد التونسي بإشراف وزارة تكنولوجيا الاتصال اجتمع في مناسبتين بمسؤولين من البنك المركزي للتباحث حول إمكانية تحويل مؤسسة البريد إلى بنك شمولي، مضيفاً أن مسؤولي البنك المركزي طلبوا منهم إعداد ملف "الانموذج المالي" للتحول من بريد إلى بنك.
وأكد العباسي أن مسؤولي مؤسسة البريد لم يعاودوا الاتصال بالبنك المركزي إلى الآن، لافتاً إلى أن ملف "الانموذج المالي" يجب أن يستوفي الشروط والمعايير لعدم السقوط في أخطاء الماضي، مشيراً إلى الخطأ الخاص بدمج بنوك التنمية في مطلع الالفية إلى الشركة التونسية للبنك.
وأقر العباسي صراحة أن الساحة المصرفية التونسية لا يمكنها أن تستوعب العدد الكبير من البنوك التجارية (22 بنكاً)، مما تسبب في حصول عديد من الإشكاليات، بخاصة على مستوى حجم البنوك الموجودة والمطلوب منها أن تتوسع أكثر من أجل تدويلها وفتح فروع لها في الخارج، وبخاصة في أفريقيا استئناساً بالتجربة المغربية.
يشار إلى أن البنك المركزي أقر أنه تلقى في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2019 مطلب حصول على ترخيص من قبل البريد التونسي لإحداث بنك في صورة مؤسسة تابعة له، مضيفاً أن الملف الذي ورد عليه جاء منقوصاً من عدة عناصر جوهرية مطلوبة لخصها في عدم النص على هوية جميع المساهمين في رأس مال البنك المزمع إحداثه، فضلاً عن تحديد رأس مال لا يتلاءم مع برنامج النشاط الطموح المبين بمخطط الأعمال.
عدم جدوى
من جانبه رفض المتخصص في الشأن المالي بسام النيفر فكرة تأسيس البنك البريدي في تونس، مبرراً ذلك بأن البريد عرف صعوبات مالية عدة على رغم أنه يؤدي خدمات مهمة في مناطق عدة بالداخل، بخاصة في الجهات التي لا تتوفر على فروع للمصارف. وقال النيفر لـ"اندبندنت عربية" إن "تحويل البريد التونسي إلى مصرف يتطلب استثمارات مالية كبيرة، بخاصة من حيث تطوير الأنظمة المعلوماتية الخاصة بالمصارف"، منبهاً أن هذه الاستثمارات المالية الكبيرة ستضطر البريد إلى زيادة قيمة عمولاته على العملاء، مشيراً إلى أنه بالفعل زاد البريد من قيمة عمولاته خلال سنة 2023.
وتابع النيفر أنه في حال انتقال البنك البريدي إلى مؤسسة مصرفية فإنه سيخضع لنفس ضوابط البنك المركزي التونسي، بخاصة على مستوى الفائدة الرئيسة وعديد من المعايير والشروط البنكية، مضيفاً أنه في تلك الحالة لن يغير الأمر كثيراً في المشهد البنكي في البلاد، بل سيزيد من تركز البنوك في سوق محلية محدودة وضيقة جداً. وحذر من إمكانية سقوط البنك البريدي في متاعب مالية تضاف إلى الصعوبات المالية التي تعانيها المصارف الحكومية الثلاثة الأخرى، قائلاً "لا جدوى مالية واقتصادية من إحداث البنك البريدي في تونس".