Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقار محمد الأمين أحدث نقلة موسيقية واكتشف نغمة جديدة

السودانيون يودعون "الباشكاتب" الذي غنى مشاعرهم الوطنية والوجدانية

الموسيقار والمطرب السوداني محمد الأمين (صفحة الفنان - فيسبوك)

فوق ما تركته أوجاع الحرب عليهم، فُجع السودانيون صباح اليوم، بخبر وفاة مطربهم الكبير الموسيقار الرائد محمد الأمين، في الولايات المتحدة، خاتماً رحلة دامت أكثر من نصف قرن من التعبير الموسيقي والغناء عن عواطف شعبٍ كاملٍ ومشاعره الوطنية. جسد الأمين روح التجديد الموسيقي التي شهدتها الذائقة السودانية وتربت عليها ردحاً من الزمن، وقد أبدعت موسيقاه أفقاً سماعياً فريداً. ولم يشهد الفنان الأمين اندلاع الحرب في السودان، في 15 أبريل (نيسان) الماضي، بسبب وجوده خارج السودان منذ الثاني من يناير(كانون الثاني) الماضي، حين أقام حفلة في دبي، ثم انتقل إلى القاهرة، ثم إلى ولاية فريجينيا الأميركية، ليتوفى فيها بعد إصابته بعلة مرضية لم تمهله طويلاً، بعيداً عن أرض وطنه وأهله.   

"الباشكاتب"، كما يُطلِق عليه الجمهور السوداني، ليس مجرد فنان طربت بصوته الجماهير السودانية والعربية طوال أكثر من نصف قرن، وليس موسيقاراً أنشأ أجمل المؤلفات الموسيقية التي أضفت على الغناء السوداني طابعاً مختلفاً فحسب؛ بل هو جزء من تاريخ البلاد الاجتماعي والسياسي والفني، منذ مشاركته الشعب احتفالاته بثورته ضد الديكتاتورية في أكتوبر(تشرين الأول) 1964، ضد حكم الرئيس الأسبق إبراهيم عبود. فبعد شهر واحد فقط من اندلاع الثورة لحّن نشيد "أكتوبر" للشاعر والصحافي فضل الله محمد، الذي كتبَه داخل السجن الحربي أثناء اعتقاله قبل إنهاء الحكم العسكري. ويعده مهتمون بالتوثيق للغناء والموسيقى في السودان، أول من غنى لثورة 21 أكتوبر، ومن ثم شارك مع الفنانين خليل إسماعيل وعثمان مصطفى وبهاء الدين أبو شلة والفنانة أم بلينة السنوسي، في التلحين والأداء لملحمة "قصة ثورة" للشاعر هاشم صديق في ذكرى ثورة أكتوبر في العام 1966، وتغنى بنشيد "المتاريس" من كلمات مبارك حسن خليفة وألحان مكي سيد أحمد، ولحن وغنى قصيدة "مساجينك" لشاعر الشعب محجوب شريف. وبعد انتفاضة مارس/ أبريل (آذار/ نيسان) 1985، ضد الحكم العسكري لجعفر نميري، قدم محمد الأمين أغنية "السودان الوطن الواحد"، وكذلك في إبان ثورة 1985.

لم يقتصر فن الأمين على تلحين الأغاني الخاصة، وهو ما يمثل نقلة في الموسيقى السودانية من مرحلة ما يتعارف عليه الموسيقيون السودانيون بالألحان الدائرية التي سيطرت على النصف الأول من القرن العشرين من تاريخ الغناء السوداني، إلى فضاء التأليف الموسيقي الذي يخرج بالموسيقى عن كونها ترديداً للحن الكلمات؛ بل أعاد توزيع موسيقى أغانٍ تراثية، لاقت استحسان المستمعين، ليُسهم في إثراء الوجدان السوداني، ويلقي بروح تحديثية على قديم الأغاني.

يصف المحاضر في كلية الموسيقى والدراما، وقائد كورال كلية الموسيقى والدراما، الصافي مهدي، ملحمة "قصة ثورة"، التي لحنها محمد الأمين قائلاً: "إنه عمل مقسم إلى لوحات تصور ثورة أكتوبر من خلال الموسيقى، واستطاع تجسيد معان للمفردات الشعرية وقوة التركيب اللغوي، والتعبير عنها في قوة الإيقاع وتصاعد الأنغام. وهو أشبه بالمخرج الذي استطاع توظيف عناصر العمل. وهي واحدة من أيقونات العمل الوطني والإقليمي نصاً ولحناً وتوزيعاً وأداءً، واستمرت بعدها مساهماته في عدد من الأعمال الوطنية الأخرى".

حياة عصامية

شهد يوم 20 فبراير(شباط) من 1940، ولادة الفنان محمد الأمين حمد النيل الطاهر في قرية ود النعيم بالقرب من مدينة ود مدني، وسط السودان، حيث نشأ وتلقى تعليمه الأساسي، ودرس العزف على آلتي المزمار والعود، وهو دون الاثني عشر عاماً، على يد خاله بلة محمد يوسف، وأستاذه في المدرسة السر محمد فضل. لم يدرس محمد الأمين الموسيقى بطريقة نظامية، لكن كان لالتحاقه العام 1960 بفرقة موسيقى "شرطة النيل الأزرق" التي كان على رأسها الموسيقار محمد آدم المنصوري، الأثر الأكبر في تطوير موهبته، فقد التقى وعاصر أمهر الموسيقيين، وكان يؤدي حينها أغنيات لفنانين مثل عبد الكريم الكابلي ومحمد وردي، ولاقى شعبية كبيرة في مدينة ود مدني.

يوثق الصحافي والكاتب معاوية حسن يس، سيرة الموسيقار محمد الأمين، في كتابه "تاريخ الموسيقى والغناء السوداني"، ويقول إنه قَدِمَ في شبابه، أواخر الخمسينيات، من مدينته ود مدني إلى العاصمة الخرطوم مرتين لتقديم أغانيه للإذاعة، وعاد في الأولى بعد أن رفضت أغانيه، لجنة الإجازة في الإذاعة السودانية. وخلّف هذا الحدث إحباطاً لدى الفنان ليعود مرة أخرى بعد سنوات إلى الخرطوم، بعد أن ساهم الصحافي ميرغني البكري في إخراجه من حالة الإحباط بالإشارة إلى فرادة تجربته عبر الصحف.

عاصر محمد الأمين في الخرطوم، عدداً من الفنانين من أبناء جيله، مثل أبو عركي البخيت، وبهاء الدين أبو شلة، وصالح الضي، وخليل اسماعيل، ممن جاءوا إلى العاصمة لتقديم أعمالهم، عبر الإذاعة السودانية، ولحن لعدد من الفنانين، وغنى لعدد كبير من شعراء جيله، مثل فضل الله محمد، اسحق الحلنقي، مبارك حسن خليفة، صلاح حاج سعيد، معتصم الإزيرق وأبو آمنة حامد.

ليس ملحناً فقط بل موسيقي

يعتبر الشاعر الغنائي هاشم عباس الجبلابي، أن النقلة التي أحدثها الموسيقار محمد الأمين في الموسيقى السودانية، تتمثل في الانتقال من المُؤلَّف اللحني الذي كان طاغياً حينها لدى رواد المدرسة الوترية، مثل إبراهيم الكاشف وعثمان حسين وأحمد المصطفى، إلى ما يُعرَفُ بـ"المُؤلَّف الموسيقي". ويرى هاشم في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أن الفنانين ممن سبقوه كانوا يركزون على الأغنية كبنيان مكتمل من خلال عناصر اللحن والكلمات والأداء التعبيري، ويقول: "لكن محمد الأمين كان يحتاج للنصوص فقط لتساهم معه في بناء المؤلف الموسيقي، وكان يضع النص في الفراغات الموسيقية، مما يجعل المؤلف الموسيقي عملاقاً أمام الكلمات، وليس تعبيراً مباشراً عنها، وهو سبب اختياره لقصائد لا تنطوي على تعقيد رمزي". ويضيف: "كان مُؤلّفاً موسيقيّاً من الدرجة الأولى وليس مُلِّحناً للكلمات".   

 

الصافي مهدي، يرى أن النقلة التي أحدثها محمد الأمين تتمثل في إضافته نغمة سادسة على السلم الخماسي المُعتَمِد على خمس نغمات، وهو ما ميزه عن رواد المدرسة الوترية، مثل إبراهيم عوض وإبراهيم الكاشف وعثمان حسين، الذين لم يخرجوا من مظلة السلم الخماسي المُسيطِر على الألحان السودانية. لكنَّ ذلك شكل صعوبات بالنسبة للموسيقيين والعازفين الذين يعملون في فرقته، نظراً لأنهم لم يتعودوا على النغمة السادسة في الموسيقى السودانية، كما يشير مهدي.

"لكن مع ذلك، لم تكن النغمة السداسية في مؤلفاته مُقحمة إقحاماً أو فجة، بل وجدت بشكل سلس، ولذا وجد المستمعون السودانيون جديداً في أغانيه من دون  شذوذ على الأذن أو غرابة"، يقول مهدي في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، ثم يضيف: "اهتم محمد الأمين بالتوزيع الموسيقي وصناعة الحوارات بين الآلات. فمثلاً تجده يصنع حواراً بين الغيتار والأوركسترا أو العود والأوركسترا، إضافة إلى اهتمامه بالمقدمات الموسيقية نتيجة لتأثره بالموسيقى المصرية، لا سيما أغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وهي مقدمات ذات تأليف فني رفيع وفيها تصوير للنص الشعري بمعانيه المختلفة".

ويشهد الصافي مهدي وجميع من عاصروا الفنان محمد الأمين من قرب، على شدة اهتمامه بتجويد التنفيذ الموسيقي. يقول الصافي: "ما لم تكن عازفاً ماهراً فمن الصعب أن تعمل في فرقته. إن ألحانه تحتاج إلى عازفين مهرة، وهو مثله مثل أي فنان مهتم بإبداعه، يحتاج إلى عازفين ينقلون مؤلفاته بطريقة مثالية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة