كان معين بسيسو يلقب بشاعر غزة، ليس لأنه ولد فيها ونشأ في رحابها فحسب، بل لأنه حملها في قلبه ووجدانه طوال سنوات المنفى الكبير بعد نفيه من فلسطين في أعقاب الإحتلال الإسرائيلي. اليوم يتذكره القراء الفلسطينيون والعرب ومواطنو غزة، في اللحظات القاسية التي تعيشها مدينة التاريخ والتي يعاني فيها أهلها اعنف الوان القتل والإبادة.
في مقدمته الفريدة لأعماله الشعرية الصادرة عن دار العودة، يعلن الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو(1926 – 1984) أن "الشعر شيء عزيز جداً ومقدس، جميل وشجاع يستحق أن تموت من أجله". يتحدث عن الشعر كما لو أنه عقيدة، فهذا الإيمان بالكتابة والترافع عنها رافقا الشاعر منذ اليفاع، فقد انحاز باكراً إلى القيم الجميلة في عالم الكتابة، وكان ينشد الصفاء، والخروج عن كل الأشكال التي تستبد بالشاعر أو تضعه داخل إطار ضيق.
يتساءل الشاعر عن جدوى كتابة هذه المقدمة المطولة، متأملاً مفهوم "الأعمال الكاملة"، إذ رأى أن الشعر يقف ضد كل ما اكتمل.
يبدو أن معين بسيسو، وهو يقدم أعماله، كان يعلن ولاءاته الشعرية للقارئ. فقد آثر أن يتخلى قليلاً عن الحديث عن تجربته ونصوصه، ليلقي التحية على مجموعة من الشعراء لهم علاقة بمساره الأدبي، بدءاً من رفائيل ألبرتي الذي التقى به في يوغوسلافيا، الذي شبهه بـ"طائر أشيب يمشي كموجة"، على رغم انتقاده بسبب موقف أيديولوجي. وفريديريكو غارثيا لوركا الذي يسميه "الدم الذي علم إسبانيا قراءة الشعر"، ويفتوشنكو الذي التقى به في أوزباكستان أواخر الستينيات، وهو الذي قدمه إلى الجمهور السوفياتي، من خلال ترجمته لقصيدة "الطبل" إلى الروسية، وأهداه معطفه. يقول بسيسو عنه، "كان قصيدة طويلة القامة". وجهَ صاحب "الأشجار تموت واقفة" التحية أيضاً إلى الشاعر أناتولي سوفرونوف الذي قام بترجمة الشعر الفلسطيني ونقله إلى الروسية، وصديقه ميخائيل كورغانسيف الذي كان جسر تواصل بين بسيسو والقارئ السوفياتي، الذي يفتخر بأنه قدم له درع الثورة الفلسطينية على خشبة المسرح في أديس أبابا. عرج الشاعر الفلسطيني على أسماء أخرى في سياق حديثه عن الشعر والسياسة والثورة وقضايا أخرى، فاستدعى ماياكوفسكي ورسول حمزاتوف والشاعر الباكستاني فايز أحمد فايز وغيرهم.
الترافع عن الشعر والشعراء
كان معين بسيسو يحلم بحياة يتم فيها تقدير الشعراء، بدل حصارهم ومعاداتهم، وإذا تعلق الأمر بمعارك فكان يحلم بأن تنتصر "حرب الشعراء" على حد تعبيره. تأسف لسوء التقدير الذي يواجه الشعراء في العالم العربي، فما فتئ يعقد مقارنات بين هذه الفئة من المبدعين في عالمنا وفي البلدان الأخرى. يقول في هذا الصدد، "في موسكو يطبعون صور الشعراء وصور رواد الفضاء". في المقابل عاش بسيسو متطلباً في ما يتعلق بمواصفات الشاعر لديه. إنه يريد شاعراً ينتمي إلى زمن البطولات لا الانكسارات. لذلك انتقد في حياته كثيراً من الشعراء الذين رأى أن الشجاعة كانت تنقصهم، بالتالي كانت مواقفهم ملتبسة.
استعاد بسيسو، في مقدمة أعماله، شعار مهرجان فرنسي حضره في ما مضى، "الشعر فمه مليء بالمستقبل"، ليعقب عليه، "المستقبل أيضاً فمه مليء بفلسطين". لكن فم الشاعر، مثلما قلبه، كان مليئاً بغزة. هو الذي خلدها في عدد من النصوص على مدار تجربته الشعرية التي لم تتجاوز ثلاثة عقود، حين انطلقت مع ديوانه الأول "المعركة" الصادر في القاهرة سنة 1952، وانتهت بعمله الأخير "القصيدة"، الذي صدر في تونس سنة 1983، قبل رحيله بعام واحد. لم يعش شاعر غزة سوى 56 سنة، لكنه ألف 33 كتاباً في الشعر والنثر والمسرح.
يعترف معين بسيسو أن أول منشور سري كتبه وطبعه ووزعه كان عن غزة التي يقول عنها، ""هذه المدينة التي احتفظت بالتاريخ، داخل قرص عسل مغلف بالشمع، هي مدينتي". إنها أيضاً تحتفظ بالجغرافيا، لكن داخل قرص من الدم، على حد تعبيره. يتساءل بسيسو عن جدوى المطر في هذه المدينة لمن لا يملك بيتاً يشعل النار ليتدفأ فيه.
ولد معين سنة 1926، في حي الشجاعية بغزة، ويبدو واضحاً أنه حمل كثيراً من اسم هذا الحي، عبر مساره النضالي الطويل، هو الذي واجه أكثر من جبهة. إذ لم يكن المحتل وحده هو من حاصر الشاعر. بل إنه عاش تجربة السجن في مصر زمن عبد الناصر، الذي أهداه، وياللمفارقة، ديوان "قصائد مصرية"، وهو عمل مشترك مع شعراء مصريين كتبت نصوصه في المعتقل. وعاش تجربة الاعتقال في فلسطين على يد ياسر عرفات، الذي تراجع بعد أيام من سجنه وأطلق سراحه وأهداه مسدسه.
المدينة المعذبة
في قصيدته "المدينة المحاصرة" المنشورة في ديوانه الأول "المعركة" 1952، تحضر صورة غزة بحقل دلالي واحد يمكن أن نسميه "الفجيعة"، إذ يهيمن الخطاب الفجائعي على مختلف أبيات القصيدة، المكتوبة وفق نظام الشطرين. إنها مدينة معذبة وحائرة سكانها حزانى، تعيش تحت سياط الإذلال: "هذي هي الحسناءُ غزة في مآتمها تدور/ ما بين جوعى في الخيام وعطشى في القبور".
في عمله اللاحق "حينما تمطر الأحجار"، الذي تحرر من نظام الشطرين وانضوى ضمن خانة الشعر الحر، تحضر غزة في الصفحة الأولى، لكن في سياق خطاب شعري مختلف، فثمة مسحة من الحنين تغطي الأسطر الشعرية: "أنا في المنفى أغني للقطار/ وأغني للمحطة/ أي هزة/ حينما تومض في عيني غزة". يحاول الشاعر عبر هذا النص توجيه رسائل تحريضية من أجل الانعتاق والخروج من المحنة، مؤمناً بأن الكلمات لها برق، وهي قادرة على التأثير، وعلى الدفع بعربة التغيير نحو الأمام.
في نصه "الصوت ما يزال" تظهر غزة على شكل امرأة أقراطها من الزنابق البيضاء، وعقدها من حبات الندى، لكنها مدينة يجوع فيها المرء على رغم وفرة البرتقال في بساتينها. غير أن هذا لا يمنع من أن تقوم المدينة بمهمتها النضالية المستمرة، فهواؤها أيضاً يقاتل الغزاة، على حد تعبير الشاعر، والصوت الذي ما يزال هو "صوت المدينة العنيدة النضال/ يرن في الأنقاض والدخان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المجموعة الشعرية "الأردن على الصليب" 1958، وتحديداً في قصيدته "إلى عيني غزة في منتصف ليل الاحتلال الإسرائيلي" يصور الشاعر مشاهد غير بعيدة عما تعيشه غزة اليوم، حيث "ليل الجحيم" والنجوم التي لم تعد تظهر في سماء المدينة، و"المناشير عليها كالقناديل"، والجدران التي "تغلي كالصدور"، والرصاص والنيران والحصار والدماء. لكنه يختم القصيدة بخطاب ضد اليأس: "غزتي أنا لم يصدأ دمي في الظلمات...ستذرو الريح أشلاء الشبح".
يخاطب الشاعر مدينته في ديوان "فلسطين في القلب" 1960، ويخبرها أنه يسمع صيحة نوافذها المطعونة، ثم يتساءل: "من يجبر عظم مدينتنا المكسور؟" بينما في قصيدة "لن يمروا" من المجموعة الشعرية "الأشجار تموت واقفة" 1964، يرصد معاناة سكان غزة مع المحتل، ويتوعد هذا الأخير بالهزيمة. وفي نصه "اجتماع فوق العادة" يقف عند الفجوة بين المؤتمرات التضامنية "مئة مكبر صوت/ والسماعات على الآذان" وبين واقع الحرب "صفارة عربات الإسعاف/ صفارة عربات الإطفاء/ ودخان يتصاعد من كل الآذان المحترقة". ليرسم في نص لاحق ما آل إليه الوضع في المدينة تحت مرأى الجميع "العالم يسمعنا الآن/ كل عناقيد الدالية رصاص".
بين المحنة والأمل
يخاطب بسيسو غزة في المجموعة الشعرية اللاحقة "مارد من السنابل" 1967، بما يشبه المناجاة: "مدينتي يا أدمع البركان...ويا ابتسامة الزلازل". غير أن هذا النداء الحزين يعقبه خطاب الأمل، فهو يعول على هذه المدينة في النهوض من جديد، وتجاوز محنتها. إنها في نص "المتاريس" مدينة متمردة لا تهب ضفائرها للآخر، وقد حاول الشاعر إعلاء قدرها حين صورها "نجمة تقاتل".
يتوجه بالخطاب إلى محمود درويش في مجموعته الشعرية "آخر القراصنة من العصافير "كان رحيلي من غزة/ ورحيلك عن حيفا غدراً"، ويسأله إن كانت الأرض المحتلة قد صارت ذكرى، يتساءل معه أيضاً بكثير من الحسرة "والآن يقولون لنا: غزة/ ماذا بعد؟/ كسر زجاج نوافذنا الرعد".
تطغى النبرة العالية على قصائد معين بسيسو، كما لو أن الشاعر صوت مدو في تظاهرة، لكنها النبرة التي تلائم حنجرة من يحتج، ومن يستصرخ الآخرين كي يقاوموا كل أشكال الاستلاب. قال عنه محمود درويش: "كان أشدنا شراسة في استخدام الشعر في معارك الدفاع عن اليومي الفلسطيني وعن الحلم الفلسطيني". وبالموازاة مع هذه النبرة العالية تحضر أخرى خافتة، هي أقرب إلى الهجس، مشحونة بالانكسار أحياناً، وأحياناً بالحنين إلى المدينة والحنو عليها.
عل رغم تمجيد معين بسيسو لغزة في قصائده، وعلى رغم هذا الحب الجارف والإحساس العميق بالتجذر والانتماء، لم يسمح الاحتلال لجسد الشاعر بأن يدفن في مدينته. لقد عانى صاحب "العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع" من هذا الإبعاد المؤلم والعزل القسري حياً وميتاً.