ملخص
باحثان يكشفان ترافق الإسهامات الحضارية الكبرى مع بعض السلبيات كالاستعمار والعنصرية
لا يزال السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني عمانويل كانط سنة 1784 "ما هي الأنوار؟" والذي نشره في صحيفة برلين الشهرية رداً على جدال حاد دار حول موضوع الزواج المدني والعلاقة بين الدين والعالم، وحول مكانة العقل في حياة الإنسان، يطرح بثقله اليوم ليس فقط على المجتمعات الأوروبية بل على كل المجتمعات في العالم، ولئن تلخصت إجابة الفيلسوف آنذاك بتعريفه الأنوار كمرادف للخروج من القصور العقلي ومن "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار من دون استشارة الوصي علينا"، لا بل كتجرؤ الإنسان على التفكر واستخدام عقله، مستعيداً بذلك شعار الشاعر اللاتيني هوراسيوس (65- 8 ق.م) "تجرّأ واستخدم عقلك" الوارد في متن إحدى رسائله، فإن هذه الإجابة تدعونا أكثر من أي وقت مضى إلى التأمل في ماهية الأنوار والحداثة في عالم يترنح بسبب من بربريته التقنية وحروبه اللاعقلية وأصولياته الدينية القاتلة.
هذا بالضبط ما قام به المؤرخان المتخصصان في تاريخ أوروبا وأفكار القرن الـ 18 وبالبروتستانتية والتاريخ الـ "أنغلو - ساكسوني" مونيك وبرنار كوتريه ( توفي أخيراً) في كتابهما "أوروبا الأنوار" الصادر في باريس عن دار بران والواقع في 880 صفحة، فما الذي يضيفه هذا الكتاب في فهم هذه الحركة الفكرية والفلسفية التي اقتلعت أوروبا من عصور ظلماتها، وفككت موروثاتها معلنة ولادة أوروبا حديثة خاضعة لسلطان العقل والحرية من دون سواهما بعد صدور كم هائل من الدراسات التي تناولت هذا العصر؟
كشف التناقضات
تقول المؤرخة مونيك كوتريه إن عصر الأنوار الأوروبي، لا سيما في فرنسا، على رغم إسهاماته الحضارية الكبرى ترافق مع بعض السلبيات مثل الاستعمار والعنصرية وغيرها حين شكل رمزاً من رموز سيطرة الغرب، ولذا قررت مع زوجها الراحل المؤرخ برنار كوتريه إعادة درس هذه الفترة المهمة من تاريخ أوروبا بغية تسليط الضوء على هذه التناقضات، من دون أن يغفلا الحديث عن المزايا الكبرى التي رافقت هذه الحقبة التاريخية مثل سيادة العقل والشعور بالذاتية والحرية الفردية والأخذ بالأدلة باعتبارها مصدراً أساساً للمعرفة، والقول بالتقدم والتسامح والإخاء والحكومة الدستورية وفصل الدين عن الدولة.
وكان من نتيجة مقاربتهما النقدية هذا الكتاب الذي بيّن على حد سواء حسنات وسيئات عصر الأنوار الذي انتشر في جميع أنحاء أوروبا بدءاً من ثمانينيات القرن الـ 17، وتحديداً سنة 1680.
واستعان المؤرخان في بعض الأحيان بالسير الذاتية بهدف إظهار الظروف التي سمحت بانبثاق حركة التنوير واستخراج سياقات وخلاصات جديدة، فتحدثا عن الحركة التي ظهرت في الأوساط اليهودية في أوروبا الشرقية والتي تعرف باسم "الهسكلة" والتي بدأت في القرنين الـ 18 والـ 19 مع موسى مندلسون (1729- 1786) وهارون هالي ولفسون وجوزيف بيرل، والتي دعت إلى تبني قيم عصر الأنوار بعد أن ضغطت على اليهود للاندماج في المجتمع الأوروبي، وزيادة إقبالهم على الدراسات العلمانية وتحديث أسلوب حياتهم ومراجعهم الفلسفية والنقدية في إطار العقيدة اليهودية.
كما درسا حركة الأنوار التي ظهرت جنوب إيطاليا وتحديداً في مملكة نابولي مع الفيلسوف جيامباتيستا فيكو(1688-1744) وخطابه في العلم الجديد، أو تلك الحركة التي ظهرت في إنجلترا عام 1688 بعد "الثورة المجيدة" التي عززت سلطة الشعب على حساب سلطة الحاكم الفردي المطلق وخطاب فلاسفتها من أمثال جون لوك وآدم سميث ودايفيد هيوم واعتمادهم على العقل والعلم والتجربة والاختبار بوصفهم داليّن على التوجه الصحيح في استنباط الحقائق والافتراضات، وعلى الأخلاق والفضيلة التي تقود الى الاهتمام بالإنسان والتي تعارضت في كثير من الأحيان مع حركة التنوير الفرنسية التي يصفها المؤرخان "بالباردة"، والتي سيطر عليها منذ عام 1750 الاقتصاديون والملحدون الذين يدورون في فلك حلقة الكاتب والفيلسوف والموسوعي الفرنسي الألماني بول هنري تيري الملقب بالبارون دو هولباخ (1723-1789)، والمعروف بإلحاده وبصالونه الأدبي، إذ كان يلتقي كتاب الإنسيكلوبيديا من ديدرو ودالمبير، وتدور الأحاديث النقدية حول الدين والسلطة الكنسيّة، هو الذي توفي في العام الذي اندلعت فيه الثورة الفرنسية، وقد كان كارل ماركس من المتأثرين بأفكاره.
المنعطف التاريخي
في هذا الكتاب الضخم والمملوء بالتفاصيل يأخذ المؤرخان القارئ في نزهة ثقافية ممتعة في عصر شكل منعطفاً تاريخياً حاسماً في تاريخ الحضارة الأوروبية، متوقفين عند العصور التي سبقته منذ منتصف القرن الـ 15 والحركة الأدبية والفكرية التي عرفت باسم النهضة وإنسانويتها، ومحاولة توفيقها بين التراث المسيحي من جهة والتراث الفلسفي اليوناني والروماني من جهة أخرى، كما يتوقفان عند الإصلاح الإنجيلي والفلسفة الديكارتية والسبينوزية وفلسفة المركيز كوندورسيه الداعمة لليبرالية الاقتصادية والتعليم العام المجاني والحكومة الدستورية والمساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة وبين كل الناس أياً كان عرقهم.
وعند العصور التي تلت هذا العصر، أي بعد عام 1789، من خلال اهتمام المؤرخين بتأثير أفكار الأنوار على مفكري القرن الـ 19 في فرنسا أيام الإمبراطورية ثم انهيارها عام 1814، مروراً بمرحلة محاولة رجوع آل بوربون والملكية إلى فرنسا حتى ثورة يوليو عام 1830 ووصول لويس فيليب الأول إلى سدة الحكم وإعلان الجمهورية الثانية، وصولاً إلى درس سيرة الديموغرافي توماس روبيرت مالتوس (1766-1834) ونظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني الذي يقدمه المؤلفان كمعارض للثورة، بسبب من إبرازه أهمية علم الديموغرافيا وإثباته أن السكان ينمون بصورة "جيومترية" أما الغذاء فينمو بصورة حسابية، إذ يؤدي التكاثر الزائد للسكان إلى ظهور المجاعات والفقر والحروب، منكراً بذلك إيمان الأنوار وتطلعها نحو تقدم مواز للمساواة والحرية والإخاء.
ينتقل القارئ مع كتاب مونيك وبرنار كوتريه إلى حجرة سبينوزا الصغيرة حيث وضع رسالته "في تهذيب العقل" وخط أفكار فلسفته حول طبيعة المعرفة وأنواعها، والسبل المناسبة للوصول إلى فهم صحيح لكل ما يمثل خير الإنسان من طريق شفائه من أوهامه وتعليمه منهجاً سليماً يمكّنه من التمييز بين الأفكار الغامضة وتلك الواضحة، والأهم من ذلك إثبات وحدة العقل والطبيعة وعدم التناقض بين الروح والجسد والفكر والمادة، تلك الثنائيات التي سيطرت على فلسفة ديكارت.
ويتوقف معه في غرفة كوندورسيه الذي طُورد عام 1794 من قبل الجاكوبيين، فيشعر بالدوار أمام كثرة التفاصيل والتناقضات التي رافقت هذه المرحلة من تاريخ فرنسا والتي لا تقدم إجابات متسقة حول حياة الإنسان في المجتمع، إذ يميل بعض مفكريها إلى أن تكون ليبرالية أو ديموقراطية، بينما يدافع بعضهم الآخر عن حكم المستبد المستنير.
ضد القيم التقليدية
غير أن كل هذه الأفكار التي ظهرت في مرحلة التنوير، على تناقضها، أجمعت على ما يقول المؤرخون، على خطاب واحد استنكر القيم التقليدية والغيبيات والدوغمائية واللجوء إلى الله لتبرير سياسة الدولة لمصلحة بعضهم في مقابل استقلال الفرد والتسامح والحرية، لكن هذه القيم سرعان ما تحولت في بعض الأحيان إلى خطاب راديكالي يشبه الخطاب الذي قدمه عهد الإرهاب عام 1793.
ويخلص الكتاب إلى القول إن عصر الأنوار الإيطالي أو الـ "أنغلو -اسكتلندي" كما تبدى في فلسفة دايفيد هيوم، كان أقل غطرسة من ادعاءات التنويرين الفرنسيين الذين أنكروا العاطفة ودافعوا عن قيام مجتمع عقلي ونظام مدني مبني على القانون وعلم قائم على التجربة والملاحظة، وقد مهدت الأنوار الـ "أنغلو - اسكتلندية" برأي الزوجين كوتريه لظهور مفكر مثل إدموند بيرك الذي تأمل في الثورة الفرنسية وحذر من تبعاتها، معبراً عن امتعاضه من ولع ثوارها بالفتنة والاضطراب ومعتبراً إياهم كأيديولوجيين متعصبين تدفعهم مثاليتهم النظرية إلى تحطيم كل ما سبق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما توقف الكتاب أمام فكر فيلسوف كبير هو جيامباتيستا فيكو الذي عظم فضائل القدماء، في حين مجد بعض المفكرين والاقتصاديين الآخرين الشر كمحور رئيس لإنتاج الثروات.
وباختصار يقول لنا هذا الكتاب المتنوع في مواضيعه والمرتبط بالأحداث والمستند في شروحاته إلى مجموعة من النصوص والكتابات، إن عصر الأنوار في أوروبا تشكل كوعي جماعي عبّر عنه في مشاريع مختلفة، وهو في تخصيصه حيزاً كبيراً للمصائر الفردية للفلاسفة والملوك والمخترعين والكتاب والفنانين، من نيوتن إلى كانط ومن فولتير إلى فريدريك الثاني، ومن المتدينين في عهد كاترين الثانية إلى أنصار روسو والعقد الاجتماعي، ومن التنوير إلى الثورات، ومن إميلي دو شاتليه إلى أنجليكا كوفمان، يعيدنا لعصر مذهل أصبح فيه كل شيء ممكناً، عصر "سيصبح يوماً بعد يوم أكثر استنارة"، على ما يقول الفيلسوف بيار بايل.
ويراجع هذا الكتاب إذاً بتأن انتشار عصر الأنوار في أوروبا واختراق أفكاره اللغات والعقول والسلوك في القرن الـ 18 معلناً نهاية حقبة وبداية أخرى، إذ يرسم العقل والعلم والقانون والتسامح والحرية والسعادة الفردية أفقاً جديداً.
واليوم تواجه حركة التنوير في جميع أنحاء العالم تحديات كبيرة، لذا كان من الضروري برأي المؤرخَين، الآن وأكثر من أي وقت مضى، إعادة قراءة منجزات هذا العصر على رغم الانتقادات والسهام التي يصوبها مفكرو ما بعد الحداثة إلى إنجازاته.
غير أن مشروع الأنوار يبقى، شئنا أم أبينا، الداعم الأول لكل مشاريع التحرر من قوالب اليأس ومن المنظومات التقليدية التي أعيت فيما مضى أوروبا وكادت تقضي عليها، فالعقل سيد الموقف ولا شيء ينبغي أن يتفلت من تفحصه النقدي حتى الأنوار نفسها.