يمكن العثور على صيغ عدة من نص "سترة من المخملين" للكاتب البلغاري ستانيسلاف ستراتييف (1941-2000) في العالم العربي، فقد حققتها فرق مصرية وخليجية، وتم تقديمها أكثر من مرة في الريبرتوار السوري، لعل أبرزها كان مع المخرج سلمان شريبا في مسارح مدينة اللاذقية. واليوم يعود المخرج زين طيار لتحقيقها للمرة الثانية مع فرقة المسرح القومي في دمشق، بعد أن كان أخرجها هو الآخر لفرقة حمص القومية العام الفائت.
المسرحية التي أعدها طيار عن النص البلغاري أخذت هذه المرة عنوان "الغنمة"، وهو عنوان يختزل قصة العرض الذي يروي حكاية عالم اللسانيات إيفان أنطونوف (خالد النجار) الذي يرفض الحلاق جزّ أوبار سترته الصوف بعد أن يتعرض للسخرية من طلابه في الجامعة، فيلجأ إلى جمعية زراعية تقوم بجز صوف الأغنام ليتخلص من الأوبار الزائدة في سترته العجيبة. لكن ذلك لن يمر عفو الخاطر، فالحلاق الزراعي سوف يؤيد في سجله الرسمي بأنه قام بجزِّ وبر غنمة، وهذا ما يرتب على الأستاذ الجامعي دفع رسوم للدولة البلغارية لقاء ملكيته لغنمة في منزله.
هنا تبدأ المفارقات مع قيام إيفان بمراجعة الدوائر الرسمية المعنية، وبعد يأسه من محاولة شرح قصته للموظفين المعنيين، يقوم برفع قضية على الدولة، لكن هذا لن يفضي إلى شيء. فبعد لأيٍ طويل، ولجوء إيفان للتظاهر السلمي احتجاجاً على الظلم الذي تعرض له، يقوم أحد المدراء بتسجيل حادثة جزّ وبر صوف سترة إيفان لمصلحة غنمة وهمية قام بذبحها للتغطية على القضية التي صارت مثار جدل لدى الرأي العام. ومن ثم يقيم هذا المدير وليمة على شرف موظف لم يبلغ سن التقاعد، وإيهام الجميع بأن المائدة الخلبية ما هي سوى حفلة وداع لزميله في العمل الذي لم يبلغ بعد الستين من عمره.
مع هذه المفارقات الفاقعة وازدياد سوء الفهم، تتداعى الأنماط التي قدمها العرض السوري، والذي وجّه هجاءً مريراً لما يدعى بحُكام المكاتب، وسيطرتهم العمياء على الحياة العامة ضمن قنوات من الفساد والمحسوبيات. فنتعرف أكثر فأكثر إلى نماذج من شخصيات كوميدية أقرب إلى الكاريكاتورية، لعل أبرزها كان شخصية الرجل المعلّق (حسام الشاه) وهو الشخص الذي نتعرف إلى قصته العجائبية كضحية من ضحايا الفساد الغرائبي، لكونه علق في مصعد لأشهر بعد انقطاع التيار الكهربائي.
واقع معطل
حدث ذلك في أثناء مراجعته إحدى الدوائر الحكومية، مما جعله يقيم داخل هذا المصعد المعطّل، محاولاً التكيف مع واقع لا يمكن حل طلاسمه. نشاهده كيف يأكل ويشرب وينام في مصعد الدائرة الرسمية، وكيف تقوم زوجته الحامل استانكا (سوزان سكاف) بزيارته، وتعده بأن ابنهما الذي هاجر إلى ألمانيا في غيابه، سوف يعود من هناك مهندساً ميكانيكاً، وسيقوم بإصلاح المصعد، وتخليصه من سجنه الانفرادي العالي.
مع هذه الصورة المرعبة لواقع سريالي يرفع الرجل المعلّق نبرته الساخرة، ويستخدم "شعار الحملة الانتخابية الرئاسية في بلغاريا": "الأمل بالعمل" كرد على مستخدمة الدائرة (تماضر غانم)، ويستعير الرجل مقاطع من أشعار نزار قباني للتهكم على حالته التي لم يعد لها علاج، من مثل قوله: "أنا البلغاري لو شرحتم جسدي" في تورية لمقطع من قصيدة الشاعر المعروفة "أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي لسال منه عناقيد وتفاحُ (...)".
وسرعان ما تنشأ علاقة حب بين بطل العرض وإحدى الموظفات (رولا طهماز)، التي ترفض الانصياع لأوامر مديرها، فتتعاطف مع قضية إيفان، وتتعرض هي الأُخرى لتقرير أمني للإطاحة بها، فيما نشاهد نمطاً من شخصية موظفة إدارية (نجاة علي) تقوم بجولة على أقسام الدائرة التي تشرف عليها، لمصادرة سخّانات الكهرباء من زملائها في الوظيفة، فيما تحولت هي إلى نموذج، من امرأة مسترجلة بعد أن فاتها قطار الزواج، وأحالتها صرامة اللوائح والقوانين إلى جسد بارد لا يمكن تدفئته بكل سخانات الكهرباء التي صادرتها.
في ظل كل هذه الظروف السوداء التي تزيد شخصيات "الغنمة" توحشاً وإمعاناً في القمع، تصعد مختارات من موسيقى مرحة للمؤلف البوسني غوران يريغوفيتش (1950)، والمقتبسة من أفلام "زمن الغجر" و"تحت الأرض" و"قطة بيضاء، قطة سوداء" للمخرج الصربي أمير كوستوريتسا (1954). وبدا توظيف مخرج "الغنمة" لهذه المختارات الموسيقية (إعداد ميخائيل تادروس) حاملاً جوهرياً للقالب الكوميدي الساخر الذي اعتمده زين طيار، بل وفّر أرضية مناسبة لمحاكاة موطن القصة الأصلي في بلاد البلقان، وقام بالتركيز عليه حتى في ديكور العرض (غدير الحسن)، وذلك عبر الإكثار من أعلام بلغاريا في عمق الخشبة ومقدمها ، والذي جاء تمويهاً عن محاكاة للواقع السوري.
اتبع مخرج مسرحية "الغنمة" أسلوب الغروتيسك وفق "ظاهر مرح وباطن مأساوي عنيف"، فعوّل على مبالغات لإبراز عيوب فيزيولوجية ونفسية في شخصيات العرض. وهذا ما كان واضحاً في أنماط شخصيات لعبها كل من الممثلين خالد مولوي وأنطون ميخائيل، فيما احتفظ دور جورو (أيهم عيشة) بشخصية الرجل الناصح لصديقه، أستاذ اللسانيات في جامعة صوفيا. ومن هنا تبدو أزياء (سارة صافتلي) وكأنها في مهمة صعبة لتقديم مجموعة من الكاراكتيرات المضحكة في ظاهرها، والعنيفة في سلوكها. وهذا ما بدا جلياً عبر أجواء صالون الحلاقة لرجال يلبسون ملابس وبيروكات نسائية، وأداء الممثلين لأدوار أغنام يملأ وجوهها الحبور، ويعلو ثغاؤها وهي تحت مقصات الحلاقة وسكاكين الذبح العمومي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدت الإضاءة (صممها ليوناردو الأحمد) مرتبكة في التغطية على قطع الديكور الثابتة، فلم يغب مشهد مكاتب الدائرة الرسمية عن انتقالات المناظر، في حين اعتمد المخرج على الموسيقى أكثر فأكثر للانتقال بين الأماكن المتخيلة في أحداث العرض (إنتاج مديرية المسارح والموسيقى) فبدا أنه استعار نصاً كُتب منذ سبعينيات القرن الفائت للإطلالة على واقع الوظيفة والموظفين في الدوائر الرسمية السورية، والذي يعكس اليوم انتصاراً للفرد وتضخيماً له قبالة مؤسسات تبدو أكثر ضعفاً وترهلاً.
اللافت في هذا كله هو اجترار موضوع لطالما تم إشباعه في عروض مسرحية عديدة، وقبلها في مسلسلات التلفزيون، فالفساد الوظيفي اليوم، لا يبدو كما كان قبل سنوات الحرب الطويلة، لاسيما بعد التسرب الكبير لآلاف الموظفين وهجرتهم إلى خارج البلاد، واقتصار النقد اللاذع على الموظفين الصغار في قاعدة الهرم الوظيفي، من دون المس بمن هم في قمته من مدراء ووزراء وسواهم، وبلا حتى التلميح لذلك إلا في مكالمات كانت ترد إلى مستخدمة الدائرة، والتي كانت تنذر طوال زمن العرض (90 دقيقة) بوصول تعاميم رسمية جديدة من مدير عام أو وزير، وختاماً بوصول رئيس الوزارة إلى المكان.