ملخص
يرى مراقبون أن استمرار الصراعات يجعل استمرار صوماليلاند ككيان مستقر ومستقل، محل كثير من الريبة والتشاؤم
بقيت جمهورية صوماليلاند - المعلنة من طرف واحد - لعقود واحة استقرار في القرن الأفريقي المبتلى بالصراعات السياسية طوال فترة ما بعد الاستقلال، مما أدى في كثير من الأحيان إلى أعمال عنف ونزوح ومعاناة إنسانية، ولكن في السنوات الأخيرة تشهد الجمهورية غير المعترف بها دولياً تحولاً مثيراً للقلق في ديناميكيات التنافس السياسي، إذ تتحول بشكل متزايد باتجاه الصراع القبلي، مما يكشف عن ملامح قصور خطرة في تكوينها، ويهدد استمرار ما نعمت به من استقرار وازدهار نسبي مقارنة ببقية مناطق القرن الأفريقي.
صراعات السلطة
ويرى المحلل السياسي المقيم في العاصمة الصومالية مقديشو صديق فارح أن "هناك تراكماً لصراعات سياسية على صعد ومستويات عدة، لكن يجمعها التصعيد في الحرب الكلامية والتراشق بالاتهامات". وأضاف أن "ارتفاع وتيرة الخطاب العشائري في التعامل مع الخلاف السياسي القائم حول الانتخابات في صوماليلاند، والتعامل العنيف من قبل قوات الأمن مع المتظاهرين، فجر الأوضاع في مدينة لاسعانود عاصمة محافظة سول، إثر تجاوز ضحايا عمليات الاغتيال المستمرة منذ عقد ونصف العقد لوجهاء ومثقفي المدينة الـ120، لتكون تصفية الشاعر والسياسي الشاب عبدالفتاح عبدالله عبدي المنتمي إلى حزب (وطني) المعارض، القشة التي قصمت ظهر البعير، في خضم المطالب التي تتراوح بين رفض النهج الانفصالي لهرجيسا (عاصمة صوماليلاند)، والتظلم من ضعف التمثيل في توزيع السلطة والثروة، بعد إفشال حكومة حزب كولميه الحاكم (في الجمهورية المعلنة من طرف واحد) فترته الثانية للمحادثات المطولة التي جرت بين حكومة الحزب الأولى، وزعيم إدارة ولاية خاتمة، أحمد خليف غلير، الذي قبل وفاته صرح بخيبة أمله من تنصل حكومة صوماليلاند الحالية من تنفيذ البنود التي تم الاتفاق عليها، معتبراً أن لمجتمع دولبالهنتي الذي يمثله الحق في القيام بما يراه مناسباً، ويتوفى بعدها قبيل تفجر الأوضاع في ولايته".
وينتقد فارح القيادات السياسية في صوماليلاند (أرض الصومال)، قائلاً "لا شك أن عدم ترفع القيادات السياسية للأحزاب الثلاثة الرئيسة في البلاد، التي يرأسها ثلاثة قادة ينتمون إلى كتلة بني إسحاق القبلية، من نقل الخلاف السياسي إلى الساحة العشائرية الضيقة، أدى إلى تآكل صدقية العملية السياسية في البلاد، وانتشار الشعور لدى أبناء القبائل الأخرى بصورية وعدم جدوى الممارسات الاحتفالية للعملية الديمقراطية، ومع ارتفاع وتيرة الخطاب العشائري المتشنج إسحاقياً - إسحاقياً (في إشارة إلى بني إسحاق)، فقد بدا لكثير من غير المنتمين لذلك الصراع أن التفكير جدياً بالانفصال عن نظام سياسي أصبح عالقاً في خلافات تبدو (أسرية)، ولا تخص المكونات الاجتماعية التي تقطن أكثر من نصف مساحة الجمهورية الباحثة عن الاعتراف الدولي".
تقاسم صوري للسلطة ومن ثم الثروة
وفي ظل وجود شعور عام بإهدار الفرص والعبث بالشعور العام بالوحدة الوطنية نتيجة احتكار السلطة وتضاؤل التساوي في الفرص يرى الباحث في شؤون السياسة بالقرن الأفريقي والمقيم في أستراليا، عيديد إبراهيم، أنه "على رغم عدم عجز حكومة صوماليلاند عن تنفيذ إحصاء مباشر للسكان منذ قيامها، بل ووجود شعور بعدم رغبة القيادات السياسية بالقيام بعمل ضروري كهذا، فإن هنالك قناعة عامة بوجود غالبية سكانية للإسحاقيين في الجمهورية تقترب من 70 في المئة من السكان، في حين أن المكونات العشائرية الخمسة الرئيسة والأقليات تتقاسم نسبة 30 في المئة، مما يخلق هيمنة سياسية واقتصادية إسحاقية ذات سند ديموغرافي، مما خلق حالة استرخاء نتيجة للاطمئنان إلى تلك الهيمنة، والاقتناع لدى الساسة بهذه المسلمة، من ثم أدى إلى تركز التنافس السياسي والاقتصادي العام بين جزيئات المكون الإسحاقي بشكل يعقد إمكانية منح مزيد من المساحة لبقية المكونات غير الإسحاقية لدى تقاسم السلطة والثروة، فليس جميع الإسحاقيين راضين بنصيبهم ضمن الكتلة الإسحاقية، وهم ليسوا راغبين في التنازل عن جانب من حصتهم لصالح المكونات الأخرى في صوماليلاند". وأضاف إبراهيم "لذا فإن تفاعلات التنافس السياسي والهيمنة الاقتصادية أدت إلى وجود قناعة بالتعامل مع الواقع بكثير من الصبر، على أمل حدوث استثناء سياسي ما، كالذي مثله وصول الرئيس الثالث للجمهورية محمد طاهر ريالي كاهن والمنتمي إلى قبيلة غادابيرسي إلى قمة الهرم السياسي، لكونه نائب الرئيس السابق محمد حاج إبراهيم عقال، وحرص ضامني العملية السياسية على التزام الدستور، أثناء تولي ريالي كاهن الحكم على رغم عدم انتمائه إلى كتلة بني إسحاق، لكن تمسك الحكومتين اللتين شكلهما حزب كولميه الحاكم في صوماليلاند بممارسة التمديد الرئاسي، والتسبب في خلل في آلية إجراء الانتخابات البلدية والنيابية، في حالة من اللامبالاة بإهدار فرص إنتاج حالة من الوحدة الوطنية، أسفر عن حالة من الإحباط تجاه عملية سياسية ديمقراطية، بات جلياً للجميع أنها على رغم صوريتها أصبحت غير مجدية ولا تستحق منحها مزيداً من الوقت، خصوصاً مع ازدياد ترسيخ التفوق الإسحاقي مع تركز السلطة والثروة في أيدي أبناء تلك القبيلة".
أثر الإعلام الشعبوي القبلي
ويقول الناشط الإعلامي سعد حسن المقيم في هرجيسا، عاصمة صوماليلاند، إنه "لا يمكن الاستهانة بدور الإعلام والدعاية في تحويل الصراعات السياسية إلى صراعات قبلية، خصوصاً مع انتقال المواجهة الإعلامية بين الأطراف السياسية المتنافسة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فقد اعتمدت حكومة حزب (كولميه) الحاكم خطاباً تخوينياً لقيادات حزب (وطني) المعارض، في حين أن الأذرع الإعلامية للأخير اتخذت مقاربة مبنية على المظلومية السياسية، بدل محاصرة وتفنيد الادعاءات غير الصحيحة، مما زاد من حالة التخندق العشائري (الإسحاقي – الإسحاقي)، وأسهم في الحط من أهداف وقيم ومبادئ قيام الجمهورية الباحثة عن الاعتراف الدولي، والمنفصلة عن جمهورية الصومال، مما تسبب في إعطاء انطباع للخارج بانتهاء المشروع الصوماليلاندي، وإمكانية حدوث صراع عشائري داخلي مسلح، بعد مقتل ثمانية متظاهرين صبيحة انتهاء الفترة الدستورية للرئيس الحالي موسى بيحي عبدي (انتهت ولايته في 13 نوفمبر "تشرين الثاني" 2022 وتم التمديد له لسنتين)، والتمرد الذي شهدته جبال غعن لباح، الذي أدى إلى مقتل 20 عنصر أمن تقريباً، بعد عام واحد وفي ذات تاريخ مقتل المتظاهرين، مما اعتبر ثأراً عشائرياً من الدولة لمقتل المدنيين، راح ضحيته رجال الأمن الذين كانوا مكلفين بضبط الأمن في محيط منطقة التمرد". ويضيف حسن "لذا فإن التعامل الإعلامي غير المسؤول، وانعدام الشفافية والمحاسبة من الممكن أن تعمل ليس فقط على إثارة القضايا القبلية، وتعميق الانقسامات القائمة وتعزيز عقلية المواجهة بين فريقين، بل وإعطاء الانطباع عن حالة من الضعف السياسي وتراجع الفاعلية في أجهزة الدولة، نظراً إلى التصعيد المبالغ فيه في خطابات الكراهية، وحدوث جرائم وتجاوزات نتيجة لذلك، ثم التراجع المذل عن التصعيد وقبول التسويات تجاه جرائم جسيمة تشكل خطراً حقيقياً على السلم الأهلي كما في حالة مقتل رجال الأمن، مما أثار شعوراً بعدم الجدوى، وانعدام الثقة بالقادة السياسيين عموماً، والخوف من المستقبل، والميل إلى مزيد من إضفاء الطابع القبلي على الصراعات السياسية، القابلة للحل عبر النظم والأعراف المتبعة، والتسويات الجالبة للتهدئة وإمكانية تحقيق اتفاق دونما هدر للدماء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هزيمة غوجاعدي نقطة تحول جديدة
إلى ذلك، وبعد ثمانية أشهر من التمترس والقصف المدفعي على مدينة لاسعانود، تعرض جيش صوماليلاند لهزيمتين قاسيتين في معركتي "مراغا" و"غوجاعدي" في الـ25 من أغسطس (آب) الماضي. وعلق السياسي المعارض عبدالله جامع، المنشق عن حزب "وطني" المعارض على ذلك بالقول إن "نتائج معركتي مراغا وغوجاعدي رفعت معنويات التحالف العشائري الساعي إلى انتزاع لاسعانود وشرق محافظتي سول وسناغ إضافة إلى ناحية عين، وازدياد طموحها في تحقيق أكبر قدر ممكن من التوسع غرباً، مع انسحاب قوات صوماليلاند إلى بلدة أوغ، على بعد 100 كيلومتر من مدينة لاسعانود، في حين ازدادت مشاعر الشك مع انتشار إشاعات بوجود خيانة داخلية في الجيش الصوماليلاندي، عززها صمت الرئاسة وما بدا من عدم جديتها في التحقيق في أسباب الهزيمة العسكرية التي لم يسبق لها مثيل، وازدياد الشعور باللامبالاة بدماء الجنود والمصابين، مما أثر بشدة في المعنويات بشكل عام، وحفز سكان المناطق المحاذية لجبهة القتال، على بدء استعدادهم للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم في ظل حالة ضعف القيادة وانعدام الشفافية التي تعانيها القوات النظامية".
كما أشار جامع إلى إمكانية تدهور الأوضاع نحو حرب قبلية مفتوحة في محافظة سول، قائلاً إن "إعلان موسى بيحي عبدي رئيس صوماليلاند، عن تهنئته للقوات العشائرية، التي أطلق عليها لفظ (قوى الدفاع المدني)، في خطاب أمام مؤتمر اقتصادي عقد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، جاء ليعطي انطباعاً عن تأييده فتح جبهة جديدة مع الكتلة العشائرية المتحالفة في لاسعانود، ممثلة بقوات غير نظامية عشائرية إسحاقية، بدأت بالاشتباك مع مقاتلي المدينة، في مسعى إلى صد الهجمات القادمة من جهة لاسعانود، خصوصاً بعد قيام تلك القوات بقتل أسرة بدوية مكونة من أب وأم وأربعة أطفال، مما أدى إلى هجوم ثأري فجر اشتباكات دامية بين العشائر الإسحاقية القاطنة على مقربة من لاسعانود، والقوات القادمة من المدينة، مما يعني انتقال الصراع العسكري ذي الأهداف السياسية إلى صراع عشائري يمكن أن يؤدي إلى موجات من القتل والتهجير والتنكيل، ستغذي رغبة لا تنطفئ بالثأر والثأر المضاد، مما سيجعل شرق محافظة سول مسرحاً لعنف جسيم ومستدام، قد يطول لعقود قادمة".
عواقب هيمنة الطابع القبلي على الساحة السياسية
من جهة أخرى، حذر الباحث في شؤون صوماليلاند والناشط الاجتماعي المقيم في العاصمة هرجيسا، إبراهيم نور من "خطورة طغيان الخطاب القبلي على الساحة السياسية، الذي تدفع به القيادات السياسية لتجنب الوفاء بالاستحقاقات المطروحة على الطاولة". وقال إن "عجز القيادة السياسية في صوماليلاند ممثلة بوجوه من معظم المكونات القبلية، عن طي صفحة حالة - المنتصر يحصل على كل شيء - التي عززها الواقع الديموغرافي، إثر هزيمة نظام الرئيس الصومالي الأسبق محمد سياد بري في مطلع التسعينيات، إضافة إلى تجاهلها أهمية التوفيق بين المحاصصة القبلية والعشائرية الضرورية تنفيذاً لمخرجات التسويات التي أفرزتها مؤتمرات السلام التي عقدها وجهاء وممثلو جميع المكونات (مؤتمر برعو 1991 ومؤتمر بوراما 1993)، أدى إلى إنتاج معادلة لتقاسم السلطة والفرص، تضمن الحد الأعلى من التمثيل الشامل أولاً، ومراعاة الواقع الديموغرافي ثانياً. لقد أدى كل ذلك إلى حالة مستمرة ومتزايدة من التبرم، وأفرزت المواجهات الدامية التي تشهدها البلاد منذ شتاء عام 2022".
وعبر نور عن تشاؤمه تجاه الأوضاع قائلاً إنه "مع غياب حل حاسم للمشكلات المتراكمة التي أدت إلى الأحداث الدامية المستمرة حتى الآن، والمرشح للتفاقم، فإن الموقف السياسي الصوماليلاندي الذي كان متقدماً لفترة طويلة على مستوى القرن الأفريقي، يتعرض للتآكل مع تزايد الانتقادات للحكومة الحالية، داخلياً كما خارجياً، بسبب طريقة تعامل أجهزتها الأمنية مع الاحتجاجات الشعبية من جهة، وعجز المعارضة عن لعب دور ملموس في الضغط على الحكومة، لتقويم سلوكها، بل وتحول الخلافات السياسية بين الحكومة والمعارضة إلى منشأ للمواجهات المسلحة، وفتح المجال أمام حالات تمرد أوسع وأعقد في المستقبل المنظور، مما يجعل استمرار صوماليلاند ككيان مستقر ومستقل محل كثير من الريبة والتشاؤم، خصوصاً مع خروج مساحة واسعة من الأرض عن سيادتها".