Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القرى الأوكرانية تدفع ثمن الحرب... قذائف وخيانات ودفن الأحبة

كاميانكا في شرق أوكرانيا: موقع أقوى المواجهات خلال 21 شهراً من الحرب. قصص إعادة الإعمار الشاق وسط اتهامات بالعمالة لصالح الروس والدمار الشامل

ستيبان ميخايلوفيتش في كاميانكا. توفي ربيبه أمام عينيه (كيم سنغوبتا/اندبندنت)

ملخص

شأنها شأن عديد من القرى الأوكرانية، كاميانكا تحمل ندبات الغزو الروسي.

تقع كاميانكا في واد ساحر تنبت فيه الأزهار والأشجار الكثيفة. وكانت تصور على أنها تجسيد للقرية النموذجية التي يمكن للإنسان أن يحيا فيها حياة قروية وديعة، كما شكلت نقطة جذب من الناحيتين الأثرية والجيولوجية بفضل وجود مواقع نادرة فيها تعود إلى العصر البرونزي والحضارة السكوثية ومنحدرات من الحجر الجيري تعود إلى العصر الجوراسي تستقطب الزوار من كل حدب وصوب.

أسست هذه المستوطنة في هذا الوادي الناعس في القرن الـ18 على يد كاونت من بلاط القيصر الروسي، عاد من بريطانيا حاملاً معه طرقاً جديدة للزراعة وعروساً إنجليزية. دفعته رغبته بتطبيق المعارف التي اكتسبها إلى تخصيص وتوزيع الأراضي للزراعة وبناء مطحنة وتشييد طرق وتمويل إقامة كنيسة ومدرسة. 

اقرأ المزيد

لكن تاريخ كاميانكا الواقعة شرق أوكرانيا يحفل أيضاً بحقبات سوداء من العنف. فموقع القرية الاستراتيجي على ضفاف نهر سيفرسكي دونيتس حولها إلى حلبة صراع تتناحر فيها الجيوش عبر العصور. دار أحد أعنف الاشتباكات وأكثرها دموية هنا خلال الحرب العالمية الثانية بين القوات السوفياتية والألمانية وخلفت آلاف القتلى، ثم أقام الجناح العسكري للحزب النازي، فافن أس أس، معسكر اعتقال في غابة مجاورة عذب وأعدم فيه من اعتقلهم من مقاتلي الأنصار وقادة الحركات المدنية المحلية.

لكن كاميانكا تعافت من أهوال تلك الحرب وشقت طريقها ببطء نحو الازدهار. وباتت تضم مصنعاً زراعياً يدر ربحاً وفيراً ومركزاً صحياً عصرياً ومدرسة ثانوية مزودة بمنشآت علمية وملعباً رياضياً ومركزاً مجتمعياً وتستقطب السكان من المدن والبلدات المحيطة بها. أما كنيستها الأصلية التي فككت أثناء الحقبة السوفياتية واستخدمت حجارتها لتشييد مهبط طائرات، فقد استبدلت بأخرى بنيت من الخشب حظيت قبتها بالاستحسان والإعجاب وأصبحت وجهة للحج.

لكن هذه الحياة الوديعة تدمرت مع غزو فلاديمير بوتين البلاد في فبراير (شباط) 2022. في مطلع شهر مارس (آذار)، دار قتال ضار وطويل بين القوات الأوكرانية والقوات الروسية التي سعت إلى تطبيق تكتيك فكي الكماشة للتقدم نحو خاركيف، ثاني أكبر مدن البلاد. على مدى أشهر طويلة، عاشت القرية والمناطق المحيطة بها تحت القصف وتبادل نيران المدفعية والاشتباكات النارية في شوارعها الضيقة وعبر منازلها.

سيطرت القوات الروسية على كاميانكا بعد أسابيع من القتال الدموي. ومكثت فيها فترة ستة أشهر، إلى أن أخرجتها منها القوات الأوكرانية التي انقضت عليها من خاركيف، في هجوم استعادت فيه مساحة كبيرة من الأراضي، محققة تغييراً كبيراً في مجرى الحرب وضع الغزاة بموقع الدفاع.

لكن لم يتبق في كاميانكا سوى الخراب، فقد دمرت الكنيسة كما الثانوية والمصنع الزراعي إضافة إلى معظم المنازل: لم ينج أي مبنى من الضرر. وقتل بعض سكان البلدة، فيما اعتقل بعضهم الآخر وأخفي قسراً. وفر من تبقى نحو مناطق أكثر أمناً.

يشكل مصير كاميانكا من عدة نواح صورة مصغرة عن مصير أوكرانيا، ويعكس المرارة والأسى والويل الذي خلفته هذه الحرب. وقعت عمليات قتل وحفرت مقابر جماعية، كما ارتكبت الخيانات والتعذيب. جمع المدعون العامون أدلة تثبت وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، وتكدست الجثث التي نبشت من القبور داخل المشارح في خاركيف. وتواصل العائلات بحثها اليائس عن المفقودين، وتفتش عن قبورهم مع تضاؤل الآمال بالعثور عليهم أحياء.

وما وجده العدد الضئيل من السكان الذين عادوا إلى القرية بعد خروج الروس منها هو تركة قاتلة خلفها القتال والاحتلال- من عبوات وذخائر غير منفجرة وأفخاخ وألغام. سرعان ما بدأت هذه المخلفات بتشويه الناس وقتلهم، وهو ما أراده العدو. 

اتخذت القوات الروسية من منزل سيرهي وإيرينا أولينك، مثل منازل كثيرة أخرى في القرية، مكان إيواء لها. وجد الثنائي رسالة وداع من هذه القوات كتبت بأحمر شفاه إيرينا على مرآة غرفة النوم: "شكراً على كل شيء، سننتصر في النهاية، مهما يحدث الآن".

كما وجدا ما سمياه "هدايا" تركها لهم الروس، وهي عبوات غير متفجرة خبئت داخل الغرف وفي الحديقة. خلال الأسبوع الأول، عثر سيرهي وابنه ماكسيم على 28 متفجرة وتخلصا منها، لكن العبوة الـ29 التي زرعت عند جذع شجرة انفجرت وأصابت إحدى شظاياها وجه سيرهي فأفقدته البصر في إحدى عينيه.

ويقول سيرهي "في البداية، طلبنا المساعدة من الجيش والشرطة من أجل التخلص من القنابل لكنهم كانوا منهمكين. لذلك بدأت أجمعها بنفسي وأضعها داخل حفرة، ثم يأتي عناصر الأمن عند وجودهم في هذه المنطقة ويفجرونها".

"كان (في الحديقة) شجرة كرز يجب قطعها. أثناء عملي على قطعها بعد ظهر أحد الأيام، انفجرت قنبلة فجأة. كل ما أذكره هو شعور الحديد الحارق والحاد على وجهي. كان الألم شديداً والدم يتدفق من عيني، ثم ابتلع الظلام كل شيء".

اصطحب ماكسيم سيرهي بالسيارة إلى مستشفى في خاركيف. أنقذت إحدى عينيه فيما فقد البصر في الأخرى. أجريت العملية الطارئة الأولى مجاناً، لكنه في حاجة إلى عملية جراحية إضافية تتراوح كلفتها ما بين 800 و1000 دولار (640 و800 جنيه استرليني). لا تعلم العائلة من أين ستؤمن هذا المبلغ لإجراء هذه الجراحة.

تقدم لي عائلة إلينيك، التي تتعامل بود وحسن ضيافة على رغم كل معاناتها، البطيخ من حديقتها والعسل من خلايا النحل الذي يربيه سيرهي. ملأوا ثلاجة بالفاكهة والخضراوات من أرضهم التي نزعت منها الألغام وهم يوزعونها على الجيران والجمعيات الخيرية. 

وضعت في زاوية المخزن ثلاجتان كبيرتان عليهما قفل. تفتح إيرينا إحداهما قليلاً لتكشف سبب قفلهما. تنبعث من الثلاجة رائحة نفاذة وكريهة ومثيرة للغثيان- رائحة الجثث المتعفنة.

وتقول إيرينا "اتصل إلينا بالشرطة لكي تأتي وتحل هذه المسألة وقالوا لنا ’سيأتي دوركم بعد 20 ألفاً قدموا الطلب نفسه قبلكم‘. فكرنا في أخذ الثلاجتين ودفنهما في الغابة ببساطة، لكن قد تكون داخلهما جثث بشرية. قالوا لنا بعد ذلك إن المحققين سيأتوننا لكننا لا نعرف متى". 

حتى الآن، وجدت عديد من الجثث مدفونة في قبور ضحلة. عثر فولوديمير كوميشن على أكثر من 10 منها داخل حفرة قريبة من مزرعته، بعد انجراف التربة عنها بسبب هطول الأمطار الغزيرة لأيام عدة.

ويتذكر فولوديمير أنها "كانت تضم نحو 20 جثة، معظمها لجنود أوكرانيين يرتدون بزاتهم العسكرية، لكن كان هناك أيضاً بعض الأشخاص العاديين بثياب عادية. جميعهم من الرجال. وظهر كأنهم تلقوا رصاصة في الرأس. أتى الجيش برفقة الشرطة وخبراء جنائيين وأخذوا الجثث. أخبروني عن وجود جثامين أخرى في هذه التلال".

بعد أسابيع عدة، وأثناء تطهير حقل من عبوات غير منفجرة - كان قد وجد أكثر من 50 منها - عثر فولوديمير على قبر آخر، فيه جثث قطعت أوصالها.

ويقول "كان ذلك غريباً جداً. تساءلنا ’كيف وصل هؤلاء الأشخاص إلى هنا وما الذي حل بهم؟‘ أتت الشرطة وأخذتهم كذلك. لا أعلم إذا نجحت في تحديد هوياتهم. هناك أشخاص نعرف أنهم قتلوا لكننا لم نعثر على جثثهم، وقد تعود هذه الأشلاء إليهم".

أحد الأشخاص الذين يخشى أنهم توفوا هو صديق فولوديمير وجاره، واسمه فولوديمير لوكوتاش، وقد ناشدوه أن يهرب حفاظاً على سلامته بعد استيلاء الروس على المنطقة، لكنه لم يبارح مكانه ودفع الثمن.

ويقول فولوديمير "كنت أهم بالمغادرة برفقة عائلتي وقلت لفولوديا إنه عليه أن يحذو حذوي، لكن المشكلة أن فولوديا كان يعاني إدمان الكحول قبل ذلك وتوقف عن الشرب منذ 10 سنوات لكنه عاد إليه بعد بداية الحرب والهجوم الروسي وكل ما حصل من أحداث. وقال إنه يريد قضاء الليلة كي يتخلص من آثار الثمالة قبل أن يقود السيارة. عرض عليه البعض أن يقلوه بسياراتهم لكنه لم يرغب بترك سيارته لاعتقاده بأنها قد تسرق".

"لم يتسن له أن يغادر. أغلقت الطرقات وذهب لكي يختبئ في القرية. لاحقاً، قال بعض الجنود من جمهورية دونيتسك الشعبية المدعومة من روسيا إنهم وجدوا شابين يختبئان داخل قبو فألقوا بعض القنابل بداخله. نعتقد أن فولوديا أحد الضحيتين اللتين قتلتا. أخرجت الجثتان لكننا لا نعرف ما حصل لهما كما نجهل أموراً كثيرة فظيعة وقعت في ذلك الوقت".

يعتقد ألكسندر لوتاي أنه يعلم ما الذي حصل للـ20 جندياً الذين وجدوا داخل الحفرة، لكنه يتردد بالحديث عن الموضوع خشية عودة الروس مرة جديدة، ولذلك لم يرغب بنشر بعض التفاصيل التي رواها.

اعتقل ألكسندر بعد احتلال قوات جمهورية دونيتسك الشعبية للقرية. اتهموه بمساعدة القوات الأوكرانية. تعرض للضرب المتكرر أثناء استجوابه، لكنه أخبر بأنه سيطلق سراحه بعد يومين من الأسر.

"قبل أن يطلقوا سراحي قالوا لي ’نريدك أن ترى شيئاً‘. اقتادوني إلى مكان مرتفع يطل على حقل فيه بعض الأسرى من الجنود الأوكرانيين. قيدت أيديهم خلف ظهورهم وتبين لي أن معظمهم يافعون". 

"كان بعضهم ميتاً بالفعل: بدأوا بإطلاق النار على الآخرين. رأيت كل شيء، وسمعت صراخهم. أنا متأكد أن الجثث التي عثر عليها تعود لهؤلاء الجنود. شعرت بالأسى الشديد تجاه هؤلاء الشباب المساكين، كما انتابني شعور عارم بالخوف: حتى الآن، أخاف عندما أفكر بالموضوع، هذا كل ما أريد قوله في هذا الشأن، هذا كل شيء".

اختبر آخرون آلام مشاهدة مقتل أفراد عائلتهم. كان فولوديمير بريجكروفنيز في المنزل عندما اندلع القتال في شوارع القرية. وقع انفجار. تطايرت الشظايا ودخلت من النافذة وأصابت رأسه من الخلف.

ويقول زوج أمه، ستيبان ميخايلوفيتش "مال جسمه إلى الأمام ووقع على الطاولة فيما اضطرت بقيتنا في الغرفة إلى الانبطاح على الأرض. عندما نهضنا رأينا أن الجزء الخلفي من جمجمة فولوديمير قد طار، لكنه كان لا يزال على قيد الحياة".

"أحاط بنا إطلاق النيران من كل النواحي. حاولت أن أخرج لطلب المساعدة لكنني تعرضت لإطلاق النار فوراً. لذلك، كل ما كنا قادرين على فعله هو وضع فولوديا في السرير والدعاء لأن يبقى على قيد الحياة إلى أن نتمكن من نقله إلى مستشفى".

توفي فولوديمير بعد يومين عن عمر الـ36. ويقول ستيبان "ظللنا نردد على مسامعه أنه سيكون على ما يرام، ظل فاقداً الوعي معظم الوقت، لكنه كان يفتح عينيه أحياناً. خشينا أنه لن ينجو. وعندما هدأ القتال قليلاً، لففنا فولوديا بشرشف وانطلقنا نحو المقبرة".

"لكن القتال عاد ليستعر عندها. وأخبرنا أشخاص أنه يجب وضع القتلى والجرحى خارج المدرسة، حيث ستأتي سيارات الإسعاف إلى المكان لاحقاً. وهذا ما فعلناه بالتالي، تركناه هناك مع الآخرين. لم يكن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء غير ذلك. وجدنا جثة فولوديمير بعد أسبوع، حيث رماه الروس في الحقول خلف المدرسة".

تسنى دفن بعض الموتى خلال القتال، في الحدائق. إنما ليس بالضرورة في حدائقهم. قتل سيرهي سبورتاك عندما علق في مرمى تبادل للنيران أثناء محاولته الخروج من منزله، لكنه دفن خلف منزل جارته غالينا بوندارينكو.

وتشرح غالينا، وهي سيدة ضئيلة الحجم تبلغ من العمر 55 سنة "اجتمعنا كلنا وقررنا أنه يجب حفر القبر تحت الأشجار خلف منزلي. فذلك أكثر أماناً، وكنت أمتلك عنزة التهمت كل العشب فأصبح من الأسهل أن نعرف إن كانت أي ألغام مزروعة هناك. وحفر القبر جار آخر هو فاليري هروسكو".

جرى الدفن من دون وقوع أي حوادث لحسن الحظ، لكن الحظ لم يحالف العنزة نفسها. وتقول غالينا بصوت حزين "بعد أيام عدة، داست على لغم انفجر فيها. أكلها الروس. عرضوا عليَّ بعضاً من لحمها لكنني لم أكن قادرة على أكلها، فقد ربيتها منذ صغرها".

أما غالينا نفسها، فنجت بأعجوبة إحدى المرات. وتقول وهي ترسم إشارة الصليب على صدرها "أجبر الروس مجموعة منا على الركض في الطريق أمامهم أثناء قتالهم مع الأوكرانيين. أحاط بنا الرصاص من كل حدب وصوب ولم أعتقد بأننا سننجو، لكن الله حمانا ولهذا أنا موجودة هنا اليوم".

أصيب فاليري هروسكو، الذي حفر قبر سيرهي سبوتاك، بعبوة مخفية بعد 10 أيام. أصبحت صناديق الذخائر المتروكة مصدراً مفيداً للحطب في ظل عدم وجود الوقود، وكان قد قصد حقلاً قريباً لإحضار مجموعة منها. ويقول "لا بد أن العبوة كانت مخبأة تحت الصناديق وقد انفجرت بسبب الحركة وخسرت قدمي، لم أعرف مدى سوء المسألة إلى أن أخذت إلى المستشفى".

أجرى الأطباء في خاركيف عملية جراحية في مكان الإصابة لكنهم أخبروه أن قدمه بترت "في المكان الخطأ" من الرجل. ولذلك، أصبح من الصعب جداً وضع الطرف الصناعي المناسب. ويقول فاليري "ما عاد بإمكاني أن أقود جراري الزراعي وأجد صعوبة في التحرك لكن لا يمكنني أن أتذمر، فأنا على قيد الحياة، ولا بد أن يواجه الناس مشكلات خلال الحروب".

لكنه وعائلته واجهوا مشكلة لم يتوقعوها. بدأت الإشاعات تنتشر بأنهم يتعاملون مع المحتل. وقالت المزاعم بأن ابني هروسكو، نيكولاي وفولوديمير، قد غادرا القرية وانشقا والتجآ إلى روسيا حيث منحا شققاً مقابل خدماتهما.

وتقول زوجة لودميلا سيرغييفا، زوجة فاليري، التي خلعت عنها الهدوء ليبدو عليها الاضطراب وهي تصف ما حدث "كل هذا هراء، وتسبب لنا بمشكلات كبيرة ولا نعلم سبب انتشاره. كان نيكولاي في إيزيوم بصحبة عائلته عندما اندلع قتال عنيف. وكان الطريق الوحيد الآمن أمامهم باتجاه بيلغورود التي تقع على الجهة المقابلة تماماً للحدود (الروسية) كما تعلمون، ولهذا قصدوها. ظلوا في المدينة لفترة قصيرة ثم عادوا، وهذا كل ما في الأمر، ولم يغير أحد ولاءه".

وتريد لودميلا أن تشير إلى أنها وعائلتها اعتنوا بالجنود الأوكرانيين الذين علقوا في القرية عند دخول القوات الروسية إليها.

وقالت "سمع ولدانا بأن الجنود يختبئون في القبو فبدأنا نزودهم بالماء والطعام، ثم طلبوا منا أن نكف عن ذلك، وقالوا إننا قد نتعرض للملاحقة فنعرض أنفسنا ونعرضهم للخطر".

"هذه آخر مرة رأيناهم فيها. حاولوا الهرب بعدها بفترة وجيزة. واضطروا إلى ذلك، فقد أخذ الروس يرمون القنابل داخل المنازل والأقبية. قتل شابان أوكرانيان عندما حاولا الهرب فيما نجح اثنان بالفرار واعتقل اثنان آخران. لا نعرف شيئاً عن مصيرهم، ربما قتلوا رمياً بالرصاص".

***

تدور اتهامات بأن العملاء المتعاونين مع الروس مسؤولون عن اختفاء آخرين. ومن بين هؤلاء أندريه أوسادشي، 53 سنة، الذي كان يعتني بوالدته المريضة عندما فقد أثره.

سمعت عن أندريه للمرة الأولى عندما التقيت شقيقه ألكسندر أوسادشي في مارس العام الماضي في خاركيف، حين كانت المدينة تصد القوات الروسية. أخبرني بين جولات إطلاق الصواريخ عن مقتل والدته في قصف طال منزلها في كاميانكا. ودفنها أخوه في القرية قبل أن يلتحق بوحدته العسكرية القديمة في مدينة سلوفيانسك في دونباس.

لكن مع حلول فصل الخريف، اكتشف الرجل الستيني ألكسندر حقيقة ما حصل مع شقيقه. وقال لي "كانت الاتصالات وقتها صعبة جداً والسلطة على المناطق تتغير بسرعة. أخبرني بعض الأشخاص عن وفاة والدتي، فقبلت الكلام الذي سمعته، وكنت على اتصال دائم بشقيقي قبل أن يتوقف التواصل فجأة، وما عاد رقم الهاتف بالخدمة. والآن أعلم بأن ذلك حدث في فترة القبض عليه وربما قتله".

"عاودت المحاولة بعد فترة قصيرة وعاد الرقم للخدمة. أجابني صوت يتحدث الروسية بلكنة شيشانية. وبدأ يهددني ويقول إنه سيجدني ويقتلني. أدركت أن هاتف أندريه بحوزة الروس من دون أن أعرف أكثر من ذلك. اعتقدت بأنه قد أوقعه على الجبهة، لكنني أظن الآن بأنني كنت أخاطب قاتل أخي".

قصد ألكسندر كاميانكا من أجل دفن والدته التي توفيت في غياب أي رعاية لها بعد اقتياد أندريه بعيداً منها. أخبره بعض السكان أن إحدى عائلات القرية، عائلة جدوزوفيتس، وشت بأندريه للروس.

للصدفة، كنت قد تعرفت إلى عائلة جدوزوفيتس عند زيارتي السابقة إلى كاميانكا في أكتوبر (تشرين الأول). أخبرني بعض السكان أنهم عملاء للعدو.

تذمرت العائلة من أن هذه المزاعم ظالمة تماماً. وقالت لي عندها ربة العائلة، نتاليا جدوزوفيتس "رأى الناس الروس يدخلون هنا، لكن ماذا كان بإمكاننا أن نفعله؟ كان الجنود مسلحين وأرادوا حليباً وبطاطا. أحياناً كانوا يقدمون لنا بعض الطعام في المقابل".

"اعتقدوا بأننا مع الجانب الروسي لمجرد أننا لم نقتل أو نتعرض للإصابة، لكننا لم نأخذ طرفهم، والله حمانا. الآن يقول الناس بأننا مخبرون وقد استجوبتنا الشرطة وجهاز الاستخبارات الأوكراني أس بي يو وأصبحت سمعتنا سيئة".

قرر ألكسندر أوسادشي أن يتحدث إلى عائلة جدوزوفيتس في كاميانكا وطلب مني مرافقته عندما علم بأنني تعرفت إليهم سابقاً. على رغم مناشدات زوجته بعدم أخذ سلاحه، حمل معه مسدس غلوك. أصررنا عليه أنا وزميلي الأوكراني داميان بأن يبقى هادئاً: وأكد لنا أنه لن يتسرع.

ساد التوتر اللقاء مع نتاليا وابنها يوري جدوزوفيتس، كما كان حاداً ومذهلاً. قال ألكسندر لعائلة جدوزوفيتس متسائلاً "اختطف أخي أندريه وتعرض للتعذيب والقتل هنا، هل كان لكما دور في ذلك؟ هل تعرفان ماذا فعلوا بجثته وأين دفنوه؟".

ثم تحدث بهدوء من طريقة موت والدته ماريا ذات الـ85 سنة من الجوع: وهي مريضة وخائفة ووحيدة بعدما اقتادت القوات الروسية أخاه أندريه. ووصف الشكل الذي عثر به على جسمها النحيل الملتف على نفسه في محاولة للحفاظ على الدفء، بعد ستة أشهر.

أخبرتني عائلة جدوزوفيتس عند لقائنا الأول عن ارتكاب الروس عمليات قتل ميداني، ذهب ضحيتها أيضاً جندي سابق أطلق عليه الرصاص قرب مدرسة القرية، يتطابق وصفه مع أندريه على ما يبدو، لكنهما لم يذكرا هذا الموضوع لألكسندر.

وقفت عائلة جدوزوفيتس خارج منزلها، فيما أخذت كلاب العائلة تنبح، وواصلت نفي أي علاقة لها بوفاة أندريه. انتظر ألكسندر. بدا كأن طريقاً مسدوداً يحول بين المتهمين والمتهم الواقفين في البرد القارس والرياح القوية، على طريق تحول إلى مزيج من الجليد والوحول. غرق الطرفان في الصمت. 

فرك يوري يديه ورمى نظرات جانبية ولعق شفتيه المتشققتين. تنتقل نظرات والدته بينه وبين الرائد والمسدس الذي يضعه في جرابه.

فجأة، يندفع يوري بالقول "لا أعرف سوى ما أخبرني به جنود جمهورية دونيتسك الشعبية. ذهبوا إلى منزل والدتك، وكانت في القبو. وجدوا أخاك واستجوبوه لأنه كان في الجيش الأوكراني وبعدها، وبعدها أعدموه، وأقسم أن هذا كل ما أعرفه… قد يعرف بعض الأشخاص ماذا حل بأندريه، وسأخبرك بهوياتهم". هز ألكسندر رأسه وقال "فلنبدأ، أنا أصغي إليك". أعطاه يوري ثلاثة أسماء.

ثم قال ألكسندر "كانوا يخبرون الناس بأنهم لا يعرفون شيئاً عن أخي، لكنهم يعرفون كثيراً. لو يخبرونني أين يمكنني أن أجد جثة أندريه، سيكون ذلك خطوة ضخمة. سأدفنه قرب والدتي. اعتنى بها على مدى الساعة والأيام. لا بد أنها شعرت بخوف شديد في النهاية لغيابنا نحن الاثنين عنها. كنا عائلة مقربة".

يستمر البحث عن مفقودي كاميانكا. ولا يزال التحقيق جارياً مع عائلة جدوزوفيتس وغيرهم من العملاء المزعومين، كما تتواصل الاتهامات والاتهامات المضادة بين السكان ومن قرروا المغادرة والبقاء في مكان آخر.

عادت عائلات قليلة أخرى إلى القرية، لكن إصلاح الضرر لا يزال مسألة صعبة ومكلفة، فيما من غير المتوقع الحصول على دعم مالي كبير من الدولة في المستقبل القريب. يخطط بعض العائدين للمغادرة مجدداً فيما يلوح الشتاء القارس في الأفق. 

أشار مالك المصنع الزراعي، فاليري فيرتسون، إلى أن المصنع كان في السابق الجهة الرئيسة للتوظيف في المنطقة المجاورة. وسوف يستقطب المكان بعد إعادة تفعيله الناس من جديد ويعزز كاميانكا والمناطق النائية. 

"استثمرت 7 ملايين دولار في المصنع وقد دمر الآن. أحاول أن أجمع مليوناً للعمل من جديد، وأتكلم مع بعض الهيئات في الخارج. إن استئناف العمل كفيل بتوفير الوظائف ودر المدخول".

"أعتقد أننا قادرون على سداد القرض. فهذه منطقة القمح والذرة والطلب كبير بفضل عودة الصادرات من جديد. دمر الروس ماكينات كثيرة وسرقوا قطعاً كذلك لكنهم لم يتمكنوا من أخذ الأجهزة الثقيلة وأنا أعمل على جلب قطع غيار لها من كندا. أعتقد فعلاً أننا قادرون على استئناف العمل".

لكن شبح الحرب ليس بعيداً، فيما تجاهد القوات الأوكرانية لتحقيق اختراق عبر هجماتها في الجنوب والشرق، يشن الروس هجماتهم المضادة ويركزون على مدينة كوبيانسك التي تبعد ثلاث ساعات بالدبابة عن خاركيف.

ويقول فاليري "أعلم، ونحن نسمع باستمرار عن محاولة الروس العودة إلى هذه الجهة وهذا مقلق، لكننا نعتقد أن قواتنا ستبعدهم بفضل كل المساعدات التي تصل إلينا من أصدقائنا في الغرب".

ويضيف "لا شك أننا كشعب في حاجة إلى السير قدماً وإعادة بناء بلادنا، منطقة بعد منطقة، ولم شمل مجتمعاتنا. كانت كاميانكا في السابق مكاناً جميلاً يحلو العيش فيه، ولا يمكننا أن نتخلى عما كان لدينا. الطريق صعب لكننا سنحقق مرادنا، وأنا واثق أن كاميانكا ستحقق الهدف".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات