ما الذي يغذي الموجة الجديدة من معاداة السامية؟

لم تكن جدتي الناجية من الهولوكوست تحب التحدث عن معاداة السامية. إلا أنني كنت حفيداً فضولياً، وربما لدي إصرار أكثر من اللازم. لذا، كلما ألححت عليها لتخبرني قليلاً عن ذكرياتها حول الحياة في ألمانيا النازية أو فرنسا المحتلة، كانت أجوبتها تبتعد دوماً من الكلام عن التجارب الشخصية لليهود باتجاه ما كشفته هذه الأحداث عن المجتمع ككل. على ما يبدو، كان أكثر ما أثار صدمتها مشهد التجمعات الحاشدة، أو إعطاء أرقام للبشر (بدلاً من مناداتهم بأسمائهم)، أو تحوير مفهوم الحداثة بحد ذاته، وليس حقيقة أن الناس، كما حدث بالفعل في كثير من الأحيان، انقلبوا ضد اليهود.

فكرت ملياً في جدتي وبأجوبتها منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. أولاً، لأن قلبي يحزن كلما تذكرت أنني كنت أعتقد، أثناء محادثاتنا هذه التي أجريناها ونحن نستلذ بطعم البسكويت في شقتها الدافئة جداً، بأن المذابح أو أي أخطار فعلية أخرى تتهدد يهود الشتات، كانت مجرد أمر من الماضي. وبرأيي، بدت الأسئلة التي طرحتها ذات طبيعة تاريخية، والتجارب المريرة مرتبطة بحياتها هي، ولا علاقة لها بحياتي أنا. وثانياً لأنه منذ ارتكاب مجازر [الهولوكوست]، اتضح أننا نختبر موجة من معاداة السامية قلما تعبر عما يمثله اليهود، لكن تكشف كثيراً عن طريقة عيشنا الآن.

إن فحص معاداة السامية يشبه إجراء مسح تشخيصي لمرض ما، والكشف عن الأجزاء المريضة في بنية المجتمع. في ثلاثينيات القرن الـ 20، تغلغلت الكراهية التي واجهتها جدتي داخل المجتمع الأوروبي فكشفت عن نقاط ضعفه. وفي عصر الإنتاج الصناعي الضخم، كان الكره الذي نشرته الأحزاب الجماهيرية، وعقليتها في تلك الحقبة التي اتسمت بتصنيف الناس، عبارة عن عنصرية أنساب. لذا، لم تقدم معاداة السامية صورة عن اليهود، بقدر ما قدمت صورة عن الألمان.  

واليوم، تذكّر الأحداث التي أشاهدها بما سبق إلى حد كبير، فموجة معاداة السامية المتفشية في المجتمعات الغربية منذ الـسابع من أكتوبر تفضح كيان هذه المجتمعات وحقيقتها، وتكشف النقاب عن دول ضعيفة و منقسمة إلى أقطاب، تتعرض لتأثير الإنترنت وتصارع تحديات داخلية مثل الهجرة الجماعية والتوترات داخل الأوساط الجامعية.

لكن أولاً، ما الذي يحصل فعلياً؟ في البدء، لا بد من إعطاء توضيح، والإشارة إلى ضرورة معاملة إسرائيل كأي بلد آخر. بالطبع، يعني ذلك أن انتقاد أفعالها مشروع. وللتذكير، نظمت على مر السنين تظاهرات حاشدة – وكانت محقة تماماً - احتجاجاً على الحملات العسكرية الأميركية أو البريطانية. بيد أنني لا أقصد التحدث عن ذلك.

متظاهرون مؤيدون لفلسطين يرفعون شعارات ولافتات عليها العلم الإسرائيلي يتوسطه الصليب المعقوف النازي داخل نجمة داوود، أثناء مشاركتهم في تجمع في إسطنبول للاحتجاج على زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تركيا (أ ف ب/ غيتي)

ما أريد الحديث عنه هو الهجوم على أكثر من كنيس، من برلين إلى تونس، وتعرض يهود للطعن بالسكاكين وهجمات في أكثر من مكان، من مدينة ليون الفرنسية إلى لوس أنجليس الأميركية، وإرغام يهود على إقفال مراكزهم بسبب الخوف من لندن إلى أمستردام. وليت الأمور تنتهي عند هذا الحد، فنحن لم نكتفِ بمشاهدة مسيرات مؤيدة للفلسطينيين، وهي بحد ذاتها مشروعة تماماً، وقد طغت عليها هتافات ولافتات وشعارات معادية للسامية، وانتشرت من نيويورك إلى باريس. بل رأينا أيضاً محاولات شن هجمات إرهابية في أكثر من مكان، بدءاً بالغرب الأوسط [للولايات المتحدة] ومروراً بالبرازيل، ناهيك عن هجوم كاد ينجح في أحد المطارات في داغستان. والحقيقة المؤسفة هي أن تعداداً كاملاً لهذه الأحداث التي شهدها العالم منذ الـسابع من أكتوبر، سيكون أشبه بقائمة أحداث على موقع "ويكيبيديا"، أكثر من كونها مقالة.  

في العالم الرقمي، كانت هناك طفرة في انتشار خطاب الكراهية، وميل إلى ترويج نظريات المؤامرة وإنكار لحصول الهولوكوست من أساسها في خاصية "القصص" عبر تطبيق "إنستغرام"، مع ارتفاع أرقام مشاركة هذه القصص ووصولها إلى ملايين المشاهدين وحصدها لملايين نقرات "أعجبني"، ومعاودة نشرها ومشاركتها مراراً وتكراراً، في ظاهرة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حرب ثقافية أوسع نطاقاً، لا تقتصر على بريطانيا فحسب، بل تمتد إلى بلدان كثيرة أخرى، بدءاً بألمانيا ووصولاً إلى أستراليا. يبدو أن عدداً من الأطراف لها مصلحة في تأجيج جميع [أنواع] المخاوف التي تقض مضاجعنا.

وفي حرم الجامعات التي تعتبر منطقة عبور إلى الحياة الفعلية، نرى كل يوم تقريباً، لا سيما في القارة الأميركية، سلسلة من الشجارات، ونلاحظ إنكاراً للهولوكوست، ونسمع تصاريح صادرة عن أساتذة [جامعيين]، أحدثت كلها صدمة في أوساط المجتمع اليهودي. وتتفاقم هذه الظاهرة وتتكاثر في مجتمع يهيمن عليه الإنترنت، من خلال مشاركة متواصلة لهذه المنشورات والتعليقات واللقطات المعاد نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

هتافات معادية للسامية يطلقها أفراد يبحثون على ما يبدو عن طائرة وصلت من إسرائيل إلى مطار محج قلعة في داغستان (أ ب)

وكي نفهم كيفية تفاقم هذه الأحداث [وانزلاقها إلى أحداث مشابهة]، يكفي النظر إلى مونتريال. فخلال الأيام الماضية، تعرض كنيس ومركز مجتمعي يهودي لمحاولة هجوم بالقنابل الحارقة، وأطلق الرصاص ليلاً باتجاه مدرستين يهوديتين. وفي تلك الأثناء، تسببت اشتباكات بين طلاب في جامعة "كونكورديا" بالعديد من الاعتقالات والإصابات، وجرى تصوير أحد الأساتذة وهو ينهر شخصاً يهودياً ويصرخ [في وجهه] قائلاً: "عد إلى بولندا".

ومن السذاجة أن نعتبر أن أياً مما سبق هو احتجاج مشروع ضد الجيش الإسرائيلي. فهذه الهجمات تهدف إلى إثارة الرعب داخل مجتمع يهودي محلي يبعد من غزة مسافة 5500 ميل (8851 كيلومتراً). ومنذ ذلك الحين، تنتهي كل حادثة من هذا القبيل بسؤال تطرحه الجاليات اليهودية عبر مواقع التواصل الاجتماعي: هل جاء دورنا؟

لكن في مونتريال وفي أماكن أخرى، يُلحظ غياب شبه تام لرموز معاداة السامية القديمة التي كانت حاضرة في ثلاثينيات القرن الـ 20: مثل الدولة، أو الأحزاب السياسية، أو الزعماء المؤثرين. لا توجد أحزاب سياسية، أو سياسيون، أو نقابات عمالية، أو منظمات جماهيرية، تؤيد أو تشجع على هذه الأحداث. بدلاً من ذلك، فإن هذا الثوران العفوي الذي لا قيادة له إنما ينشأ في الغالب من منصات الإنترنت، ويستمد قوته من المشاعر المتزايدة التي تضخمها صفحات الإنترنت لدى أكثر من 10 في المئة من سكان المدينة ممن ينتمون إلى مجتمع المهاجرين المسلمين الوافدين حديثاً إلى البلاد.

على عكس الدول الأوروبية المهيمنة التي سعت إلى فرض نهج موحد يقوم على التخلص من معاداة السامية في القرن الـ 20، تبدو الدولة الكندية كياناً غربياً ضعيفاً في القرن الـ21 غير قادر على منع معاداة السامية. هذه هي طبيعة معاداة السامية التي تتكشف والتي تعكس الاتجاهات الأوسع في الديناميكيات الاجتماعية والسياسية في القرن الـ21 التي تظهر في حركات مثل "حياة السود مهمة" Black Lives Matter وانتشار نظريات المؤامرة حول جائحة كورونا.

نافذة محطمة في متجر خياطة في بيثنال غرين، لندن، عام 1936، في أعقاب هجوم معادٍ للسامية الليلة السابقة (غيتي)

لكن قواعد معاداة السامية التقليدية لا تبدو كافية لشرح ما يحصل في جامعة "كونكورديا". لذا، لا يمكن تفسير ثقافة من هذا القبيل، أدت إلى شجارات محتدمة من هذا النوع، ودفعت أستاذاً إلى المشاركة في هذه الفوضى، إلا جزئياً، ويمكن تعليلها بالانفعالات الحادة التي حفزتها المشاهد المريعة في غزة. فمنذ السابع من أكتوبر، وفي أرجاء أميركا الشمالية كافة، من الساحل إلى الساحل، ومن كولومبيا إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، تحولت الجامعات إلى بؤر ملتهبة.

بيد أن الرواية الأكثر شمولاً ليست تلك التي تفيد بأن يهوداً كثيرين يشعرون، وفي مناسبات عدة، بأن الانتقاد المشروع لإسرائيل انزلق نحو معاداة السامية، بل تلك التي تشير إلى أن عدداً متزايداً من الكليات التي تدرس الإنسانيات تحولت - نحو الأحسن أو الأسوأ - إلى مقاعد دراسة ترفض قطعاً، وعلى نحو متزايد، النظام الأميركي الداخلي والعالمي، وتعتبر أن إسرائيل تمثل، أكان عن حق أو عن غير حق، أحد رموز هذا النظام.

في سياق متصل، تعمل معاداة السامية أيضاً على فضح ثقافات جديدة على الإنترنت، تسود في الأوساط السياسية المتطرفة. وفي الأمر دلالة جديدة على أننا لم نعد في القرن الـ20، بل رسخنا موطئ قدمنا بعزم في القرن الـ21. لذا، فإن أيديولوجيات المجتمع الجماهيري القديمة التي سادت في فترة ما بعد الحرب لدى مختلف الجهات، بدءاً من اليساريين القدامى وسياسة القوة الناعمة التي اعتمدوها، ووصولاً إلى اليمينيين القدامى والقومية الناعمة التي ناشدوا بها والتي كانت مسؤولة عن ازدهار الجالية [اليهودية]، هي الآن إلى زوال. 

وحتى لو أعيد تدوير الأسماء والرموز وحتى الشعارات في الأيديولوجيات الراهنة، تعتمد هذه الأخيرة اليوم منحى تفكير مختلفاً. والحال أن الفئات اليسارية واليمينية المتطرفة تعكس كلها، على حد سواء، مجتمعاً متمحوراً حول الإنترنت، ومنقسماً إلى مجموعات ومواطن تفضيل معينة، وتعتمد كلها صورة من صور السياسة المعتمدة على الهوية [العرقية]، تتضمن تدرجاً هرمياً، أو ضحايا، أو أصولاً عرقية رئيسة، وتستند إلى الانتماء العرقي. والغريب أن اليهود الذين تم تجاهل تاريخهم الحديث يندرجون ضمن المجموعتين، فيُنظر إليهم من جهة على أنهم ناجحون ومن أصحاب الامتيازات، ويتعرضون من جهة أخرى للهجوم المستمر على خلفية الآثام والذنوب المنسوبة إليهم.

بيد أن الكلام عن الموضوع باعتباره أيديولوجيا ولّد مشكلة لأن المصطلح [أيديولوجيا] بحد ذاته منسوب إلى حد كبير إلى القرن الـ20، ويعيد إلى الذاكرة صوراً عن تعميمات، ومشاهد عن علماء أيديولوجيين مزودين بكتب توصية. وفي هذا الإطار، من الأنسب الاستعاضة [عما سبق] بوصف وجهات النظر العالمية على أنها [جزء من] ثقافات الإنترنت - وذلك لا يجعلها أقل واقعية مما هي عليه فعلياً - وتتوزع [وجهات النظر هذه] بين حسابات أشخاص يستعملون أسماء مستعارة عبر منصة "إكس" [تويتر سابقاً]، أو يديرون مدونات "بودكاست" أو مجموعات على موقع "فيسبوك"، زاعمين جميعاً أن [منشوراتهم] هي إما ساخرة، أو تجعلهم من الناشطين [المدافعين عن قضايا معينة].

وفي مطلق الأحوال، تحولت معاداة السامية إلى جزء ضمني من سلوك متتبعي [هذه المجموعات] والمعلقين على منشوراتها، وقد أحدثوا انقلاباً جذرياً في طريقة كره اليهود التي كانت ملحوظة في مطلع القرن الـ20. ففي تلك الحقبة، كان المعادون للسامية يشعرون بأن الانتماء إلى النظام العالمي الإمبريالي الأوروبي هو مدعاة للفخر، فكانوا يشيرون بالأصابع إلى اليهود باعتبارهم غرباء عن هذا النظام، ويؤمنون بأن موت هؤلاء ضروري لإنقاذ النظام المذكور. 

رجل يمر أمام جدار رسمت عليه نجمة داوود في باريس. وصف حينها قائد شرطة باريس لوران نونيز الرسوم بأنها معادية للسامية، وقال إن الشرطة تحقق في الموضوع (أ ب)

أما اليوم، وعندما بدأ هؤلاء المتطرفون يكرهون النظام العالمي الأميركي، فباتوا يعتبرون أن اليهود يمثلون رمزاً لهذا الأخير. وفي الأوساط اليسارية الأكثر تطرفاً، انتشرت طريقة تآمرية محددة للكلام عن الصهيونية- اليهودية- الأميركية، ترى أن اليهود الأميركيين والدعم الذي يقدمونه لإسرائيل بمثابة حجر زاوية أساسي للغرب الذي يكرهونه والذي كان ولا يزال كياناً استعمارياً. لذا، لا مفر [برأيهم] من القضاء عليهم. وبنظر قسم كبير من الشتات اليهودي، أثارت ثقافة الإنترنت هذه - المتجسدة بكم هائل من المنشورات وبارتفاع أرقام الإعجاب بها، من دون أن تكون محصورة بشخصية محددة - صدمة في أوساطهم، مما حثهم إما على الاحتفاء بمجازر حركة "حماس" في السابع من أكتوبر الماضي، أو على إنكارها.

وفي موازاة ذلك، يرى اليمينيون الأكثر تطرفاً أن انعكاس ذلك جاء على صورة انتشار واسع وهيمنة خطاب تآمري حول الليبرالية اليهودية الأميركية. ومن هذا المنطلق، ينظر إلى دعمهم لتعدد الثقافات على أنه أهم مصدر [لتطور] مجتمعات الهجرة الجماعية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الانصهار العرقي والتي يكرهونها ويخشون أن تأتي "لتحل مكانهم".

واليوم، ينال أسلوب الخطاب هذا إعجاب جماهير حاشدة، تتخفى خلف قناع شخصيات كوميدية "ساخرة". وأسهم هذا الأسلوب في تصعيد موجة معاداة السامية في أوساط اليمين المتطرف في الفترة التي سبقت السابع من أكتوبر والتي تجلت في تزايد عدد الهجمات التي طاولت اليهود منذ مجزرة بيتسبورغ التي قُتل خلالها 11 مصلياً في كنيس عام 2018، ولا تزال ترافقنا حتى اليوم.

لكن في مونتريال - وفي أرجاء الغرب كافة - لا عودة لثلاثينيات القرن الماضي، إذ يقترب أفراد الشتات اليهودي، بوتيرة متسارعة، من واقع جديد كلياً، يعكس [طبيعة] المجتمعات المفككة عرقياً والمتأثرة بالإنترنت التي نعيش فيها. فنسأل: ما مدى خطورة ذلك؟ وهنا أيضاً، ليست الإجابة على أي علاقة تقريباً باليهود، بل ترتبط بالسؤال التالي: برأيكم، إلى أي مدى تعتقدون بأن الغرب في ورطة؟

وفي هذا السياق، لا بد من إجراء تقييم شامل للوضع، من أهم معاييره التضامن الذي تظهره الحكومات والشخصيات السياسية في الغرب حيال المجتمعات اليهودية. وفي هذا الصدد، لا تزال استطلاعات الرأي تشير إلى أن المجتمعات الغربية تبقى مناصرة للسامية، وغير معادية لها. وفي حال كانت إجابتكم، تماماً مثل إجابتي أنا، هي تصويت بالثقة لمجتمعاتنا على رغم الاضطرابات، فستستنتجون أن الحقبة الذهبية التي نعم بها الشتات اليهودي منذ الهولوكوست ربما شارفت على الانتهاء. ومع ذلك، نحن لن نعود للعصور المظلمة السابقة، بل تنتظرنا سنوات سيتخللها جنون، وتكون [بمعظمها] رمادية [وغير واضحة المعالم].