ملخص
يقول فنسنت أوسين، وهو رجل طاعن في السن، "لقد تلقى أحد قساوستنا الروحيين رؤية في المنام مفادها أن الوقت قد حان للعودة إلى الوطن"
في حادث استثنائي أشبه ما يكون بـ "أوديسة جديدة"، مستوحاة من قصيدة الشاعر الإغريقي هوميروس، الذي جسد إحدى أساطير الإغريق، من خلال سرد حكاية عودة البطل الملك أوديسيوس إلى بلاده (إيثاكا) بعد انتهاء الحرب وسقوط طروادة، في رحلة استغرقت حوالى عشر سنوات، عاد أكثر من 300 شخص من أوغندا، إلى موطنهم الأصلي في إثيوبيا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وذلك بعد قرن كامل من مغادرة أسلافهم للحبشة بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد في عام 1924، فضلاً عن التوترات العرقية والسياسية، مما اضطرهم إلى الفرار بجلدهم، بحثاً عن الكلأ والماء وأسباب الحياة الأخرى التي توفر لهم الأمان.
وتعرضت قرية نيانجاتوم الصغيرة في وادي نهر أومو بجنوب إثيوبيا، على تخوم دولة جنوب السودان، للدمار نتيجة أطول فترة جفاف شهدها مجتمعها الرعوي، فعمت المجاعة وتمدد الموت، ولم يكن في وسع "كبار القرية" وميسوريها سوى اتخاذ قرار الفرار شرقاً، للعبور نحو أوغندا.
وعلى رغم مرور الزمن لم تمثل الأخيرة وطناً بديلاً لهم، بل ظلت تبدو كمساحة أمان موقت، أو محطة ترانزيت تحصد أعمار ثلاثة أجيال قبل العودة إلى الأرض الأولى، فحرص "كبارهم" في كل موسم حصاد، على إقامة مهرجان تراثي يقرأون فيه قصة شعبهم، وأرضهم الأصلية، من كتاب "السماء المباركة"، والتربة التي تركوها وراءهم، مما ولّد لدى الأجيال الجديدة، حنيناً دائماً إلى وطن لم يروه، ولم يختبروا بذوره، سوى في الحواديت التي يسردها الأسلاف بشاعرية لا توازي واقع الجفاف والصراعات الإثنية، التي لفظتهم نحو الجوار، إذ ظل النيل رابطاً أثيراً يحيلهم نحو قرية نيانجاتوم، وإلى حياة ما قبل الهجرة، ما جعل كثيرين منهم يتوقون لرؤية تلك القرية الرابضة بجوار النهر، ويواظبون في الوقت ذاته، على توريث أبنائهم أحلام العودة إلى أرض الأجداد.
الهجرة عكس اتجاه النيل
قرن من الزمن بالتمام، لم يكن كافياً لطمس معالم الذاكرة، إذ قرر زعماء القبيلة مجدداً الهجرة، لكن نحو الوطن الأصل هذه المرة، وبشكل جماعي، كما أتى أسلافهم في ذات شتاء قاحط. ويقول فنسنت أوسين، وهو رجل طاعن في السن، "لقد تلقى أحد قساوستنا الروحيين رؤية في المنام مفادها أن الوقت قد حان للعودة إلى الوطن"، وهي الرؤية التي تجسد توقنا الدائم للعودة، على رغم أننا ولدنا في أوغندا واعتبرناها موطننا، إلا أن الحضور الكثيف لسرديات الوطن الأم ظلت حاضرة في ذاكرتنا، سواء في مواسم الزراعة أو الحصاد، أو حتى في أهازيج الرعاة، وأغاني الأمهات وهن يهدهدن أطفالهن للخلود إلى النوم، اذ يغنين موال العودة "نم يا بني سنصبح على وطننا المبارك، بجوار النهر وشجر البن، وغابات الأبنوس". هكذا ظلت الحكاية حية ونابضة، والحلم قائم على مرمى ضوء من العين، إذ ظلوا ينتظرون رؤية ما، توحي لهم بالعودة إلى الوطن الموعود.
وهكذا، أتت الرؤيا في ذات غفوة لزعيم روحي نهض مبشراً بموسم الهجرة نحو الغرب، إذ تنتظر نيانجاتوم نهاية تلك التغريبة، التي ستضع خاتمة لداء الحنين المزمن، وللأساطير التي انتشرت قديماً، عن أنهم فروا من بلادهم خفافاً، خوفاً من نبوءة نهاية الحياة في نيانجاتوم، في حين ظل كبارهم ينفون تلك الإشاعة.
ولأن الوعد أتى محمولاً على خيط الفجر، تداعى العشرات منهم لتحقيق الرؤية، فباعوا أملاكهم، وحملوا ما خفّ من المتاع، وركبوا عكس اتجاه النيل، قاطعين مسافات طويلة وشاقة، من أجل الوصول لتخوم حلم جاوز عامه المئة.
وأعلنت وزارة الخارجية الإثيوبية عودة أكثر من 300 أوغندي من أصل إثيوبي إلى موطنهم، بمحاذاة نهر أومو، ولقوا استقبالاً مستحقاً من السكان المحليين، الذين لم يلاحظوا اختلافاً بينهم، بخاصة أن العائدين ظلوا محافظين على لسانهم وثقافتهم الأصل. في حين بدأت الشرطة الأوغندية تحقيقاً موسعاً، لمعرفة أسباب مغادرة أكثر من مئة شخص ظلت تعتبرهم مواطنين أوغنديين إلى حين مغادرتهم. لكن بالنسبة لهؤلاء العائدين، لم يكن الوطن مكاناً للفرار من الهلاك، بل مكاناً للعثور على السلام بعد رحلة دامت قرناً من الزمان بسبب ظروف خارجة عن سيطرتهم.
هل سكن الحنين؟
وينفي فينسنت تكهنات روجتها الصحافة الأوغندية عن أسباب مغادرتهم قائلاً "نحن إثيوبيون. كان أسلافنا من نيانجاتوم. لقد ربانا آباؤنا وأخبرونا أن أصلنا هنا، وأننا يجب أن نتذكره دائماً، وأن نعود إليه ذات يوم".
ويضيف "لقد رحل الكثيرون متشوقين لرؤية وطنهم مرة أخرى، متوسلين وهم على فراش الموت ليدفنوا في تراب أجدادهم. ولذلك لم نأتِ، بل عدنا ببساطة إلى وطننا".
وقالت صحف محلية أن 372 شخصاً من مجتمع توركانا بشرق أوغندا عادوا إلى وطنهم الأصل إثيوبيا، وقد تم استقبالهم، في كنيسة نور الحياة في نيانجاتوم. وصرح قسيس الكنيسة جون أتيش للصحافة، "لقد ناقشنا إسكانهم على المدى الطويل مع الحكومة المحلية والمجتمع". ووافق السكان على توفير الأرض حتى يتمكن العائدون من الاندماج بشكل مستدام. وأضاف "بعد فترة قصيرة من مكوثهم في دار تابعة للكنيسة سيتم نقلهم، إلى مناطق زراعية بالقرب من المنطقة التي هاجر منها أجدادهم منذ قرن من الزمن"، موضحاً أن الانتقال إلى إيوائهم على المدى الطويل تم تنفيذه بعد إجراء مناقشات مع سكان ناروي (حيث يقع المخيم والكنيسة) والإدارة المحلية لنيانجاتوم، وتم الاتفاق على توفير أرض لهم، حتى يتمكنوا من المساهمة في المجتمع بشكل دائم. وأكد القسيس أن ذلك يعد "شرطاً أساسياً لإعادة دمجهم ضمن النسيج الاجتماعي في المنطقة، وضمان عدم تعرضهم لصعوبات جديدة، إذ إن الحنين وحده لا يبني وطناً، ولا يؤنس عائداً، أتى متلهفاً لموطن أسلافه، فعلى السلطات المعنية توفير كافة شروط الحياة الكريمة، لأولئك الذين لم يسقطوا الوطن من حساباتهم، على رغم مرور قرن من الزمن على رحيل أجدادهم بحثاً عن الأمان".
بدوره يؤكد فنسنت أوسين الذي تزعم العائدين في رحلتهم نحو الوطن، أن "اللغة والثقافة ظلتا تعززان العلاقات الوثيقة بين المجتمعات وتسهلان عملية الانتقال. لدينا الثقافة نفسها ولدينا اللغة نفسها تقريباً، إذ حافظنا على لساننا الإثيوبي الذي يتقاطع مع سكان شرق أوغندا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال أحد السكان المحليين، "إنهم يفهمون ويتحدثون بلغة النيانجاتوم بنسبة 75 في المئة تقريباً"، مشيراً إلى أنهم يتحدرون من نفس العشيرة المنتشرة في جميع أنحاء إثيوبيا وجنوب السودان وكينيا وأوغندا.
وسجلت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، أن منطقة نيانجاتوم تتبع مجموعة كاراموجا، وهي أرض تمتد على مساحة تبلغ حوالى 8382 كيلومتراً مربعاً من الحدود وتلامس ثمانية بلدان وشعوب. وفي حين أن هذه المنطقة العابرة للحدود تضم 13 مجتمعاً رعوياً وزراعياً- رعوياً، فإن سبع إلى ثماني مجموعات تقيم في أوغندا.
وتشير تقارير رسمية إثيوبية إلى أن العائدين من أوغندا، لقوا قبولاً في مجتمعهم الجديد، إذ قُدمت لهم بطاقات الهوية الإثيوبية، كما كشف التقرير أن السلطات الإثيوبية أجرت مناقشات مبكرة مع أبناء نيانجاتوم العائدين، من أجل تسهيل إقامتهم.
كما تم تسطير برنامج لتمكينهم من الأراضي الزراعية، على رغم أن معظم سكان المنطقة ينشطون في مجال الرعي. إلا أن العائدين فضلوا الزراعة، لأنها ظلت مصدر رزقهم الأساسي في أوغندا.
مشاق الرحلة ومكابدتها
في حديثه عن قرار العودة من توركانا في أوغندا إلى نيانجاتوم، ومشاق الرحلة يقول فنسنت إنه "لم يكن سهلاً، لقد خططنا لكيفية الوصول إلى نيانجاتوم بأمان، حيث يمكننا العيش، والسفر بمشقة أقل". وأضاف "باع العائدون ممتلكاتهم مقابل تذاكر العودة إلى الوطن. وشكل حفظ الأمن على طول الرحلة صعوبات أيضاً، حيث تندلع الصراعات أحياناً على الطريق. لم نفعل ذلك بلمحة من أصابعنا، لمجرد رغبتنا في العودة، كان علينا أن نفكر في كيفية الوصول إلى نيانجاتوم، حيث يمكننا الإقامة وحتى استكشاف طرق آمنة وبأسعار معقولة لنا جميعاً". وأوضح أن "مسألة أمن الطريق، في غاية التعقيد، إذ يتعين علينا أخذها بجدية" بخاصة أنها منطقة صراعات مفتوحة.
وأكد أن "ثمة تقاطعات كبيرة بين السكان على طرفي الحدود، باعتبارها بيئية واحدة، مما يسهل الانتقال والتواصل بين البشر، وذلك ما قلل حجم المكابدة، التي واجهها العائدون براً نحو وطنهم الأصل". وأشار المتحدث إلى أن "المناطق الحدودية بحاجة ماسة إلى خطة تنمية موحدة تقدم تعاوناً عبر الحدود وإطاراً مؤسسياً، على أن يشمل ذلك إجراء حوارات عبر الحدود لتطوير مشاريع مشتركة، ومنع الصراعات".
تحقيق النبوءة ثم ماذا؟
وباتخاذ قرار الهجرة العكسية، نحو وطن الأجداد، تكون نبوءة الدخول، قد تحققت لجزء من أحفاد نيانجاتوم الفارين المسكونين بنذر العودة، فيما يبقى عدد أكبر في الخارج يكابدون مشقة الحنين، وفواتيره النفسية والمادية الباهظة، بخاصة أن تصاريف الرحلة الأولى تمت تحت ستار من السرية، ومن دون أن تثير الكثير من الهواجس لدى سلطتي البلدين، إلا أن استمرارها بذات الشكل قد لا يبدو يسيراً، بخاصة أن السلطات الأوغندية لا تزال تجري تحقيقات موسعة لما تعتبره تحويلاً لمواطنيها نحو دولة أخرى.
في المقابل، بدأ منتسبو الرحلة الأولى، مكابداتهم البكر من أجل ترسيخ جذورهم في أرض نيانجاتوم، من خلال انتهاج الزراعة، ليس باعتبارها مصدر رزق فحسب، بل لتأكيد تجذرهم، في عمق الأرض، التي مضى عليها أسلافهم كرعاة رُحل، يترجلون خلف الكلأ والماء والخضرة. وهي مكابدة مفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة، بخاصة مع ملاحظة فوارق الطبيعة، والمسافات القائمة بين الواقع المعاش، وتراكمات الحنين الذي أثقلته ذاكرة المئة عام.