ملخص
توالت الشهادات والمقاطع المصورة لبعض الأهالي وهم يتشاركون في دفن جثث ذويهم في مقابر جماعية
انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً مقاطع فيديو تظهر مجموعة من الشباب في غزة وهم يحفرون مقابر جماعية لدفن جثث كانت تكدست في ثلاجات الموتى وساحات المستشفيات. ووفق منظمة الصحة العالمية، فإنها قادت بعثة تقييم إلى مستشفى "الشفاء" في مدينة غزة، أفادت بتحولها إلى "منطقة موت"، وقالت المنظمة، في بيانها، إن فريقها رأى مقبرة جماعية عند مدخل المستشفى وقيل له إن أكثر من 80 شخصاً دفنوا هناك.
وخلال الأيام الماضية توالت الشهادات والمقاطع المصورة لبعض الأهالي وهم يتشاركون في دفن جثث ذويهم في مقابر جماعية، ورصدت العدسات مشاهد لجثث متراصة في الشوارع وساحات المستشفيات، وأخرى بين الركام، مما أعاد إلى الأذهان أحداث مجزرة الطنطورة التي وقعت عام 1948، عندما أجبر أهل القرية على أن يحفروا بأيديهم مقابر جماعية استخدمت في دفن البعض منهم، وربط مؤرخون ومراقبون الواقعة بسلسلة من الأحداث المشابهة حتى الوصول بما يتخلل الحرب الحالية من عمليات قتل عشوائي، واضطرار أهل غزة إلى دفن جثث مجهولة الهوية في مقابر جماعية.
شهود على مجزرة الطنطورة
يقول عدنان يحيى (93 سنة) يقيم في ألمانيا منذ 60 عاماً مضت، وأحد الذين أجبروا على دفن القتلى بإحدى المقابر الجماعية خلال أحداث الطنطورة، لـ"اندبندنت عربية"، إنه من الصعب تحديد أعداد من قتلوا في هذه الحادثة، لأنهم كانوا موزعين في أماكن عدة، ولا توجد إمكانية إعطاء رقم دقيق لضحايا المقابر الجماعية في تلك المجزرة.
وقدر تحقيق صدر عن وكالة الأبحاث البريطانية "فروزنيك أركيتكشر"، في مايو (أيار) الماضي، عدد المدفونين في هذه المقابر من 40 إلى 200 شخص، بعد أن قدم تحليل بيانات وخرائط وصور جوية من حقبة الانتداب البريطانية، وأرفقها بشهادات شهود جمعت حديثاً من ناجين وجناة.
وأكد عدنان، الذي كان يبلغ من العمر 17 سنة عندما سقطت الطنطورة في أيدي إسرائيل، أن أعداداً كبيرة إما قتلت أو تمكنت من الهرب أو وقعت تحت الأسر، لكن من المؤكد أن عدد الضحايا يزيد على 100 وربما وصل إجمالي من دفنوا في هذه المقابر إلى 200 ضحية.
وحول كواليس نجاته وخروجه من دائرة الحصار الإسرائيلي قال "مختار (زعيم) مستعمرة زمارين وهو يهودي، توجه إلى الطنطورة، وطلب من الجنود أن يتوقفوا عن القتل، وكذلك في اليوم نفسه، احتلت الأردن القدس القديمة، وأخذوا أسرى يهوداً، لذلك توقفوا عن قتلنا".
روايات عائلة مشتتة
واجهت صعوبة في التقاط الكلمات من السيد عدنان، على رغم ذاكرته التي بدت بحالة جيدة، غير أنه اكتفى بما قاله، مع تشديده على أنه ما زال يتذكر تفاصيل ما حدث خلال الهجوم على القرية، مؤكداً متابعته الوضع الحالي الذي يواجه غزة. واستعنت بشهادة أخرى للفلسطينية الأميركية هالة جبريل، التي عانت عائلتها تلك المجزرة، مما دفعها إلى إعداد أول فيلم وثائقي تضمن مقابلات لناجين وبعض الجناة، وكان يربطها أيضاً علاقة قرابة بالسيد عدنان، فهو عمها.
روت جبريل التي تعمل في مجال الإنتاج التلفزيوني والسينمائي مديرة تنفيذية، وكانت إلى فترة قريبة تعمل بشركة "نتفليكس"، كيف تأثرت بتلك المجزرة، وقالت "نشأ والدي في الطنطورة، وكان شاهد عيان على الواقعة، لكنه لم يتحدث مطلقاً عنها عندما كنت صغيرة، لأن الموضوع كان مؤلماً جداً بالنسبة إليه، كان عمره 15 سنة عندما هاجمت الميليشيات الصهيونية الطنطورة".
ووفق الشهادات التي جمعتها هالة، فإن أهالي الطنطورة كان تعدادهم في ذلك الوقت نحو 1500 نسمة ممن كانوا يسكنون بمحاذاة الشاطئ، وأطلق الجنود النار بشكل عشوائي على السكان وهم عزل، وألقيت جثثهم في مقبرة جماعية يعتقد أنها تقع تحت منطقة أصبحت الآن موقف سيارات لشاطئ سياحي.
وبدأ الهجوم على قرية الطنطورة في منتصف ليل الـ22 واستمر حتى الصباح الباكر من الـ23 من مايو 1948. وتعود هالة، التي تقيم بالولايات المتحدة الأميركية، إلى التفاصيل قائلة "قتل نحو 300 شخص من سكان القرية. وكان عديد من القتلى من أقاربي البعيدين. بعد الهجوم، تم نقل والدي وإخوته وأبي إلى معسكر سجن العمل القسري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحكت هالة عن دوافعها للنبش في الماضي وتوثيق شهادات من بقوا على قيد الحياة بالقول "قضى والدي ما يقارب عامين سجيناً. لقد بدأت هذا المشروع لأنني كنت في حاجة إلى معرفة مزيد، أنا الجيل الأول الذي لم يولد في وطن عائلتي فلسطين، وكنت في حاجة إلى فهم السبب". وروت هالة أنها عكفت على تجميع خيوط المجزرة وتصوير العمل على مدى 17 عاماً "التقيت أقارب عايشوا تلك الحادثة، لم أكن أعرفهم، وكانوا شهوداً ونجوا من الهجوم. وانتهى الأمر بتوثيق شهادات أقاربي الذين كانوا مشتتين في مختلف أنحاء العالم. وكانت بدايتي في التحدث معهم واكتشاف حكاياتهم نظراً إلى أنهم يعيشون في بلدان مختلفة. وجاء كثير من المعلومات على شكل أجزاء سنة بعد سنة. كنت أتعرف إلى أحد سكان قرى الطنطورة الآخرين أو أحد أقاربي الذين لم أعرفهم قط، وهكذا جمعت المعلومات. وبمجرد أن رأى والدي عدد الأشخاص الذين تحدثت إليهم، شعر أخيراً بالراحة في الحديث عن تجربته الخاصة. وأصيب عديد من الفلسطينيين من عام 1948 بصدمات نفسية عميقة وكانوا يخشون التحدث".
وبحسب المركز الفلسطيني للإعلام في تقرير منشور، في مايو الماضي، فإن تحقيقات أجراها مركز "عدالة" ولجنة أهالي الطنطورة ومؤسسة "فروزنيك أركيتكشر" الدولية، كشفت عن أربع مقابر جماعية، وذلك بعد 75 عاماً من النكبة الفلسطينية.
ووفق المركز، فقد استخدمت خلال التحقيقات أساليب حديثة ومتطورة في البحث عن الأدلة المادية لعلم الآثار والبحث عن الأماكن، إضافة إلى تقاطع الشهادات والمعلومات خلال الروايات من قبل أهالي الطنطورة الناجين وذوي الشهداء، وشهادات الجنود الصهاينة الذين شاركوا في المجزرة. ومن ضمن الأدوات التي استخدمها فريق البحث التصوير بالظل وثلاثي الأبعاد، وبالاستناد إلى المباني التي بقيت على شاطئ الطنطورة، بحيث جرت إعادة رسم القرية والتعرف إلى أربع مقابر جماعية.
شهادات صادمة من الجنود
على الجانب الآخر من تلك الروايات التي اعتمدت على الفلسطينيين الناجين من سكان الطنطورة وعايشوا المجزرة، تطرق فيلم وثائقي آخر كشف النقاب عن شهادات جنود شاركوا في تلك المجزرة للمخرج الإسرائيلي ألون شفارتس، الذي كان مضمونه صادماً ومفاجئاً بعد أن أكد بعضهم إطلاق النار على السكان وحرق عدد منهم، وكذلك روى عدد منهم صعوبة ذكر تفاصيل ما جرى لما تحمله من "فظائع وفضائح".
وحكى أحد الجنود أن الطنطورة كانت قرية منازلها جميلة وكان أهلها يعيشون مثل الأوروبيين، لكن الأحداث التي وقعت كانت بشعة، مؤكداً، في شهادته، أن أحد الجنود عمل على تجميع السكان في ما يشبه الأقفاص وقتلهم ووضع حولهم أسلاكاً حديدية. وقال جندي آخر وهو يضحك بأنه لا يمكن له أن يحصر عدد من قتلهم في تلك الواقعة، لكن كانت لديه بندقية بداخلها 250 رصاصة أفرغها بأكملها.
وقال المؤرخ الإسرائيلي آدم راز، الذي أسهم في الفيلم الوثائقي، في تقرير منشور له بصحيفة "هآرتس" بعنوان "عندما بلغوا سن التسعين... جنود لواء ألكسندروني قرروا الاعتراف": "إنه في عام 1948 نفذ الجيش الإسرائيلي مذبحة في الطنطورة، والسؤال الأهم الآن هو كم عدد ضحايا هذه المجزرة؟"، مشيراً إلى أن روايات الجنود تبين أن عدد القتلى يفوق كثيراً العدد الذي جرى إعلانه بأنه 20 ضحية، والشهادات المتراكمة على امتداد السنوات ذكرت أعداداً متفاوتة للقتلى وصلت إلى 200.
انتهاك للقانون الدولي الإنساني
وقال المتخصص في القانون الدولي الإنساني أيمن سلامة إن الكتيب العسكري الإسرائيلي الخاص بقانون الحرب يحظر على أفراد الجيش الإسرائيلي ارتكاب أي جريمة حرب منصوص عليها في اتفاقات جنيف، مشيراً إلى أن القانون الدولي الإنساني يحظر دفن جثث المحاربين أو المدنيين جماعياً، ويشدد على دفنهم انفرادياً تكريماً وتشريفاً لهم، وإعمالاً لمبدأ الإنسانية. واستدرك قائلاً "لكن في الحالات الاستثنائية القاهرة، يمكن دفن جثث المحاربين والمدنيين ضحايا النزاع المسلح بشكل جماعي حين لا تتيسر الظروف العادية والطبيعية لدفنهم بشكل انفرادي".
وفي تصريحات تلفزيونية، قبل أيام، قال ياسر بسيوني، الذي يعمل بوزارة الأوقاف في غزة، بينما كان حوله مجموعة من الشباب يحفرون القبور، إنهم ينشئون مقبرة طوارئ حديثة لدفن مجهولي الهوية، على أن يتم إعطاء فرصة 48 ساعة للتعرف إلى الضحايا قبل البدء في إجراء الدفن.
وأظهر مقطع الفيديو مجموعة من الجثث المتراصة بجوار بعضها أثناء دفنها بشكل بدائي. وأظهر مقطع مصور آخر حفر أهالي غزة مقابر جماعية لدفن أطفال. وقال شاهد إنه يضع في القبر الواحد ثلاثة أطفال، كما أظهر مقطع آخر رجلاً يشارك في حفر مقبرة جماعية ودفن ابنه في ساحة مجمع "الشفاء" الطبي.
تلك الجرائم تدفع إلى سؤال بخصوص طول أمد الاتهامات والملاحقات الجنائية الدولية لمجرمي الحرب في ما يتعلق بالمقابر الجماعية. ورأى سلامة أن توثيقها أمام القضاء الجنائي الدولي يختلف تماماً عن القضاء الوطني، مما يتطلب تثبيت الاتهامات على مجرمي الحرب، ويأتي في صدارة الأدلة الثبوتية الدامغة البيانات والإفادات والشهادات والتصريحات للمنظمات الدولية الحكومية مثل إفادات الأمين العام للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية و"اليونيسكو" و"الأونروا" ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية لمنظمة الأمم المتحدة، مشيراً إلى أن كل تلك الجهات أدلت بشهادات حول الموقف الحالي في قطاع غزة.
وأوضح المتخصص في القانون الدولي الإنساني أن اتفاقية الأمم المتحدة لمنع التقادم أو العفو عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي صدرت، عام 1968، تحظر أي تقادم مهما طالت العقود، مستنداً في حديثه إلى محاكمة بعض مجرمي الحرب النازيين خلال العقد الأخير في فرنسا وألمانيا ودول أخرى، على رغم أن الجرائم ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية، وحوكم الجناة في قضاء وطني بدول أوروبية تأسيساً على مبدأ "الاختصاص القضائي العالمي". وأكد سلامة أن اتفاقات جنيف عام 1949 للقانون الدولي الإنساني تلزم الدول الأطراف فيها الملاحقة الجنائية لأي جريمة حرب مهما طال الزمن، وهو التزام دولي.
جنود مصريون تحت الأنقاض
ولم تقتصر الانتهاكات المرتكبة على الفلسطينيين، فقد شهدت الأرض وقائع مماثلة لكن باختلاف جنسيات الضحايا، إذ رفعت إسرائيل السرية في شأن معلومات نشرت على وسائل إعلامها بإقامة مقبرة جماعية لجنود مصريين يشير بعضها إلى حرقهم وهم أحياء أسفل مرآب متنزه "ميني إسرائيل" في "كيبوتز نحشون" قرب اللطرون غرب مدينة القدس.
وبحسب تحقيق الصحافي الإسرائيلي يوسي ميلمان، هناك مقبرة جماعية لنحو 80 جندياً مصرياً تعود إلى حرب عام 1967. أضاف أن أكثر من 20 جندياً منهم أحرقوا أحياء، ودفنهم الجيش الإسرائيلي في مقبرة واحدة، لم يتم وضع علامات عليها في مخالفة لقوانين الحرب.
ووفق تصريحات نقلتها "بي بي سي" فإن ميلمان قال إنه بدأ قبل سنوات في إعداد التحقيق لكن الرقابة العسكرية الإسرائيلية منعته من نشر نتائجه في السابق قبل أن توافق هي نفسها على النشر أخيراً.
وحول الأسلوب المتبع للدفن وفق القانون الدولي يقول المتخصص في القانون الدولي الإنساني أيمن سلامة إن الدفن الانفرادي يجب أن يتضمن شاهد القبر وعلامة محددة وأسماء الضحايا، وتاريخ الوفاة، وعلى الطرف المحارب أن يسمح للعدو المحارب عند الهدنة الإنسانية الموقتة، مثل الحاصلة الآن في قطاع غزة، بجمع الجثث ودفنها ليس بشكل جماعي لكن كل ضحية في مقبرة على حدة.