على رغم مرور سنوات طويلة على مغادرتي سوريا فإنني ما زلت أحاول الإبقاء على صباحي دمشقياً قدر الإمكان وتساعدني في ذلك أغنيات السيدة فيروز. قبل بضعة أيام وفي صباح إنجليزي رمادي قياسي كان صوتها يردد أغنية "ولا كيف" التي تقول فيها "بتذكرك كل ما تجي لتغيم، وجك بيذكر بالخريف". متأثرة بالسماء الملبدة بالغيوم والشمس المختبئة وراءها وأشعتها التي تتسرب بخجل على رغم أن الوقت ما زال باكراً، شعرت بأنني أنا أيضاً جزء من الخريف، ويبدو أنني لم أكن الوحيدة، فالحديث المشترك بين كل من صادفتهم في ذلك الصباح تقريباً كان عن الطقس الذي لا يشجع على أي نشاط يتجاوز احتساء مشروب ساخن والاختباء في مكان دافئ. رحت أراقب وجوه الناس المكفهرة أكثر من الطقس من خلف زجاج سيارتي ولفتني مقدار التجهم الذي يعتليها، ورحت أتساءل: إن كان الطقس عاملاً يؤثر بشكل أساس في مزاجنا اليومي، هل من الممكن أن يكون له أثر في تركيب شخصياتنا وسلوكياتنا؟ هل من المحتمل أنني تطبعت ببعض صفات الجو البريطاني الكئيب والممل؟ لماذا لا أرى هنا، بشكل عام، وجوه الناس المبتسمة والمقبلة على الحياة كتلك التي رأيتها في دول مختلفة في حوض المتوسط؟
تذكرت مقطعاً في رواية "مذكرات أميرة عربية" تقارن فيه الكاتبة الأميرة سالمة بن سعيد، بين التفاؤل والروح المرحة والخالية من الهموم التي يتمتع بها سكان بلدها الأصلي زنجبار، والتجهم والقسوة والجدية التي لاحظتها على وجوه الناس في غربتها أثناء تنقلها بين لندن وبرلين بعد زواجها من شاب ألماني هجرت من أجله بلاد الشمس.
مزاج يومي أم صفات ثابتة؟
ليس الطقس مجرد مظهر جوي، بل يمتد تأثيره إلى تشكيل طباعنا وعاداتنا وأنماط حياتنا وسلوكياتنا وحتى قدراتنا العقلية، ويتجسد ذلك في نواح عملية واجتماعية عدة.
أظهرت دراسات علمية تأثير الطقس البارد في المزاج والحالة النفسية للأفراد، والتفاوت في معدلات الاكتئاب والتوتر والعصبية وبرودة الأعصاب بين الأماكن الباردة والدافئة.
يشير باحثون إلى أن خفض درجات الحرارة يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع في معدلات الاكتئاب والتوتر. وجدت دراسة نشرت في دورية "مجلة الاضطرابات العاطفية" Journal of Affective Disorders أن هناك ترابطاً إيجاباً بين درجات الحرارة المنخفضة وزيادة الاكتئاب لدى الأفراد، مشيرة إلى أن ضوء الشمس ونقص التعرض له يمكن أن يكون لهما تأثير في الحالة المزاجية، إذ يعتبر الضوء الطبيعي مصدراً مهماً لتنظيم الساعة البيولوجية لدينا وإنتاج هرمونات مهمة، مثل السيروتونين، تلعب دوراً في تحسين المزاج والشعور بالسعادة. ووجد الباحثون أن المشاعر الإيجابية ازدادت وتضاعف انخراط المشاركين في الدراسة في الأنشطة الاجتماعية بشكل أكبر عندما كان الطقس مشمساً. على الجانب الآخر، لوحظ ارتباط سلبي بين الجو الممطر أو الغائم وارتفاع مستويات الاكتئاب والتوتر والإقبال على التفاعل الاجتماعي.
كذلك ينجم عن قلة التعرض لضوء الشمس نقص في فيتامين "د" يتسبب بدوره في زيادة معدلات الكآبة والقلق وخفض مستويات النشاط والطاقة. يتجلى هذا الجانب بوضوح في فصول الشتاء، بخاصة في المناطق القريبة من القطبين، إذ يكون النهار قصيراً ولفترات طويلة تمتد لأشهر، حيث يحرم الناس من التعرض للضوء الطبيعي.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم الطقس البارد والمظاهر الجوية غير المشجعة مثل الأمطار المستمرة أو الثلوج في إحداث تأثيرات نفسية سلبية ناجمة عن الشعور بالعزلة أو القيود في التنقل وممارسة النشاطات الخارجية.
في المقابل، بينت بعض الدراسات أن الطقس الحار يمكن أن يزيد من مستويات العصبية لدى الأفراد. وأشارت دراسة نشرت في دورية "العلوم النفسية" Psychological Science إلى زيادة في ردود الفعل العصبية ومشاعر الاستياء والتذمر في الأجواء الحارة والجافة، مما يعكس تأثير الطقس في السلوك الانفعالي، فالإحساس بالحرارة قد يزيد من التهيج ويؤثر في الراحة العامة. يشير محرك البحث الطبي "باب ميد" PubMed إلى أن أحد أهم العوامل هو تأثير الطقس الحار في جودة النوم والتي تنعكس من ثم على المزاج والعصبية، إذ يزيد النوم السيئ من التوتر والانفعالات السلبية. كذلك يرفع الحر الشديد مستويات الإجهاد الجسدي ويحفز إفراز هرمونات مثل الكورتيزول والأدرينالين المرتبطين بالاستجابة للتوتر.
صحيح أنه لا يمكن إلقاء اللوم على الحرارة بشكل كامل لتحديد طبائع الأفراد، وبخاصة صفات مثل العنف والقسوة وقلة التعاطف وبرودة الأعصاب والتهور وردود الفعل المتسرعة، ويجب أخذ عوامل أخرى عديدة في الاعتبار عند النظر في تشكل الهوية الشخصية والثقافية، لكنها تلعب دوراً مهماً ومعقداً في هذا السياق. في بعض البيئات، قد يكون الناس عادة أقل انفعالاً في التعبير عن العصبية أو الغضب بشكل علني، في حين يمكن أن تسمح بيئات أخرى بأريحية أكبر عن العواطف.
لكن القاسم المشترك في جميع الأماكن بغض النظر عن مناخها السائد هو أن اختلافات الطقس اليومية تؤثر بشكل كبير في مزاج الأفراد. يشير باحثون في دورية "الطقس والمناخ والمجتمع" Weather, Climate, and Society إلى أن الأيام التي تكون فيها الشمس مشرقة ترتبط عادة بمشاعر التفاؤل والنشاط، بينما يمكن أن يكون الطقس الغائم مرتبطاً بالمزاج المنخفض والتشاؤم.
سلوكيات محكومة بالمناخ
إضافة إلى علاقة الطقس بالحالة المزاجية والصحة النفسية، هناك ارتباط بين الأحوال الجوية السائدة والمظاهر السلوكية. ترى بعض الأبحاث أن المناخ البارد يشجع على الجدية والتفكير العملي، في حين تحفز المناطق الدافئة الاستمتاع بالحياة والاسترخاء. كذلك يحرض المناخ الصعب الإبداع والابتكار، إذ يضطر الأفراد الذين يعيشون في مناطق يسودها طقس قاس إلى البحث عن حلول للتحديات التي تواجههم بسبب الظروف البيئية الصعبة.
قد يتمثل هذا التحدي في التكيف مع البرد الشديد في بعض المناطق، مما يدفع الأفراد إلى إيجاد حلول جديدة وتقنيات لتحسين حياتهم، مثل التطور العمراني في المناطق الباردة لتوفير حماية فعالة من البرد وكذلك وسائل النقل والملابس. وعلى رغم أن هناك دوراً للسياق الثقافي والاقتصادي فإن تحديات المناخ تلعب كذلك دوراً مهماً في الحث على التقدم التكنولوجي والابتكار الهندسي.
في المقابل يشير باحثون إلى أن توفر الغذاء والموارد الطبيعية في بعض المناطق والوصول السهل إليها والأجواء المعتدلة يقللون من حاجة الناس إلى بذل جهد كبير في الابتكار والتطوير في العمران والصناعات الغذائية، كما هي الحال في جزر المالديف مثلاً التي لا يحتاج سكانها حتى يومنا هذا إلى تطوير الصناعات النسيجية والغذائية ولا حتى وسائل البناء أو مواده، لأن ما يتوفر لهم من الطبيعة يكفي حاجاتهم الأساسية.
من ناحية أخرى يلعب الطقس دوراً في تشكيل الثقافة والعادات الاجتماعية والغذائية للبشر، في المناطق الباردة مثلاً، تكون المساحات الداخلية والمحلات التجارية ذات الطابع الدافئ والمريح هي المفضلة للتجمعات الاجتماعية وتكون الأنشطة التي تجري في هذه المرافق مثل زيارة الحانات والمطاعم وممارسة رياضات كالتزلج على الجليد والبولينغ والاسكواش الخيار الشائع للترفيه. وفي المناطق الدافئة تكون المساحات المفتوحة مثل الشواطئ والمقاهي الخارجية مكان التجمع المرغوب، حيث تمارس فيها أنشطة مثل الشواء والنزهات والصيد ورياضات ككرة اليد الشاطئية وركوب الأمواج، وقد يتمكن الناس من ممارستها على مدى العام.
كذلك دفعت الأجواء المناخية الناس إلى صناعة أزياء مناسبة، إذ فرضت درجات الحرارة المنخفضة على البشر ابتكار ملابس دافئة وسميكة، بينما تكون الأزياء خفيفة وفضفاضة للتخفيف من وطأة الحر على مرتديها. وبالمثل تتغير خيارات الناس الغذائية تبعاً للبيئة التي يعيشون فيها، إذ إن هناك تفضيلاً للوجبات الساخنة مثل الحساء والمشروبات الدافئة في الأماكن الباردة في حين تكون الوجبات الخفيفة والمشروبات الباردة أكثر شيوعاً في البيئات الساخنة.
تغير مناخي شخصيات متغيرة
يشير باحثون إلى أن التغيرات المناخية يمكن أن تلعب دوراً في تشكيل شخصيات الأفراد. اقترحت دراسة نشرت في دورية "تغير مناخ الطبيعة" Nature Climate Change أن التغيرات في المناخ يمكن أن تؤدي إلى تبدلات في سلوكيات الأفراد وطبائعهم الشخصية، بخاصة في المجتمعات التي تتأثر بشكل كبير بظروف الطقس. في المناطق ذات الجو الحار، قد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة معدلات الغضب والانفعال أو الشعور بالضغط الناجم عن حاجتهم إلى إنفاق مزيد من الأموال على وسائل التخفيف من الحرارة مثل المكيفات والثلاجات لتأمين الماء البارد واستهلاك المياه للاستحمام المتكرر.
بالمثل، تؤدي الأمطار ودرجات الحرارة المنخفضة في الأماكن الحارة والجافة عادة، إلى ارتباك واضطراب السكان ناجم عن تعطل حركة المرور وتشكل سيول وتراكم المياه في الشوارع في بعض الأحيان، بسبب عدم جاهزية البنية التحتية لمثل هذه المناطق للتعامل مع الظروف الجوية المتقلبة.
كذلك قد تدفع الحرارة المرتفعة الناس إلى تغيير في أنماط الحياة الاجتماعية، مع زيادة في الأنشطة الليلية لتجنب الحرارة النهارية. من المحتمل أن يؤدي هذا التغيير في الروتين اليومي إلى تعديل في تفضيلات الأفراد وطريقة تفاعلهم مع بيئتهم وخفض قدرتهم الإنتاجية في الصباح.
في المقابل، هناك دراسات تتحدث عن إمكانية تأثير انتقال الأفراد إلى أماكن ذات طقس مختلف عن المكان الذي ولدوا فيه على شخصياتهم وسلوكهم، إذ قد يظهرون جدية وعملية أكثر أو قدرة مختلفة على التعاطف مع الآخرين مقارنة بما كانوا عليه سابقاً. ويكون هذا التأثر نتيجة لعوامل عدة منها حاجة الفرد إلى التكيف مع ظروف البيئة الجديدة الذي قد يتمثل في أنماط اللباس والأنشطة الترفيهية. كذلك قد تؤدي العادات والتقاليد المختلفة في مكان جديد إلى تغيير في الطريقة التي يفهم بها الأفراد الحياة ويتفاعلون معها. ومن المحتمل أن يترك الطقس بصمته في مزاج الفرد وحالته النفسية، إذ أشارت دراسة "مجلة الاضطرابات العاطفية" إلى أن الأشخاص الذين ينتقلون من أماكن مشمسة ودافئة إلى أخرى باردة وأقل عرضة للضوء الطبيعي يسجلون معدلات اكتئاب وقلق وأرق مرتفعة مقارنة بأولئك الذين يقومون بانتقال عكسي، إذ يصبحون أكثر سعادة ونشاطاً تحت الشمس. علاوة على ذلك قد يؤثر الطقس في صحتهم الجسدية، إذ تكثر حالات الزكام والإنفلونزا وأمراض المفاصل والحمى في البلدان الباردة مقارنة بالتهاب السحايا والحصبة والملاريا وسرطانات الجلد في تلك الحارة.
وفي بعض المناطق، حيث يتم استخدام التكنولوجيا لتعديل الطقس بصورة صناعية، مثل استخدام المكيفات في المناطق الحارة والتدفئة في المناطق الباردة، يمكن أن يؤدي هذا التعديل على المدى الطويل إلى تأثير في تركيب شخصيات الأجيال التي تنشأ في هذه الأجواء نتيجة لتغير البيئة المباشرة المحيطة بهم، وفقاً لدراسة في دورية "وجهات نظر الصحة البيئة" Environmental Health Perspectives.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك تجدر الإشارة إلى وجود اختلافات في كيفية تأثير الطقس في الرجال والنساء والأطفال والكبار، بسبب اختلافات في التكوين البيولوجي والاجتماعي. مثلاً تكون النساء أكثر حساسية للبرد من الرجال، نظراً إلى اختلافات في توزيع الدهون والعضلات في أجسادهن وتقلب درجات حرارة الجسم مع اختلاف مراحل الدورة الهرمونية الشهرية لديهن، وكذلك تتأثر الإناث أكثر بتغيرات الرطوبة التي قد تؤدي إلى شعور بالانزعاج والإرهاق.
في المقابل يعتبر الرجال أكثر عرضة للاكتئاب الناجم عن درجات الحرارة المنخفضة وغياب التعرض لأشعة الشمس، وتتحسن حالتهم المزاجية بنسبة أكبر عند انتقالهم إلى أجواء مشمسة ودافئة.
كما أن الطقس يتحكم بشدة بأنشطة الأطفال الخارجية ولعبهم، إذ يشجعهم الطقس الجميل على النشاط والحركة، بينما يؤدي الجو السيئ إلى قضاء أوقات أطول داخل المنزل وأمام الأجهزة الإلكترونية من ثم إلى ضعف العلاقات الاجتماعية وازدياد العزلة واحتمال الإصابة بالخمول والبدانة. وهكذا يكونون الفئة الأكثر تأثراً بالأحوال الجوية، تليها فئة كبار السن المعرضين بنسبة عالية إلى تأثر صحتهم بدرجات الحرارة المتطرفة، سواء الحارة أو الباردة.
من خلال رحلة استكشاف تأثيرات الطقس على السلوك الإنساني هذه، ندرك أن درجات الحرارة تترك أثراً عميقاً في تشكيل هويتنا وعاداتنا. وفي ظل التغيرات المناخية المتسارعة، تبرز أهمية وعينا للآثار النفسية والثقافية لدرجات الحرارة المتنوعة علينا، وإدراكنا أنها تشكل جزءاً حيوياً من تشكيلنا كأفراد. لذا، عذراً فيروز، أنا لا أريد أن أكون جزءاً من الخريف الإنجليزي الرمادي وأفضل الصورة الأكثر تفاؤلاً التي يرسمها معين شريف حين يغني "وجهك صيف وقمح البيدر"!