"علينا أن نتحلى بالواقعية، هذا أمر يصعب التنافس معه"، هكذا قال الرئيس التنفيذي للاتحاد الأسترالي لكرة القدم جيمس جونسون ليبرر انسحاب بلاده أمام منافستها السعودية لتنظيم كأس العالم عام 2034، على طريق الحق الذي شهد به المنافسون أو الأعداء.
لم يتكرر السيناريو بحذافيره مع إيطاليا وكوريا على تنظيم "إكسبو 2030" موضع السباق الضاري، ولكنه كان منطق السعوديين الذين يثقون بثقل بلادهم خصوصاً في هذه المرحلة، وجرأتها في الذهاب أبعد مما يمكن للآخرين توقعه أو أحياناً استيعابه واحتماله، كما قال ذات مرة دبلوماسي أجنبي كان شاهداً على "لغة الرياض" لسنوات خلت، أو قصتها التي تعهد ولي البلاد الأمير محمد بن سلمان بأنها ستكون "قصة القرن الـ 21".
لكن هذا لا يقلل من طعم الفوز ولا كذلك مرارة الخسارة لولا أن جزءاً من شخصية الرياض الجديدة أن تشعر العالم بأنه، عملياً وليس فقط بالشعارات، شريكها وجزء من معركتها التنموية، ولذلك كان المنافس الكوري الشرس اليوم يون سوك يول والصديق بالأمس وغداً ذكياً حين اقتبس أخيراً أمام ولي العهد في "مستقبل الاستثمار" مثلاً عربياً قديماً أراد به اختزال علاقة بلاده الممتدة والاستراتيجية مع الرياض، قائلاً إنهما كذلك "الصديق قبل الطريق" الذي دعا الأسلاف العرب إلى اتخاذه في الرحلات الواعدة والصعبة في آن واحد، ولم تكن إيطاليا استثناء.
"ملف العالم"
ولهذا رأى الأمين العام للمكتب الدولي للمعارض ديمتري كيركنتزس أن شعار ملف السعوديين للاستضافة الماثل في "حقبة التغيير: معاً نستشرف المستقبل" يعد بمثابة "دعوة إلى التضافر والتعاون الدولي وبناء الخطط لتحقيق الغد الأفضل، والتعامل بفاعلية مع التحديات والآفاق الناشئة عن عصر التغيير الذي يعيشه الكوكب"، في إشارة إلى أنها جعلت قصتها قصة العالم، فكان من الطبيعي أن يجد ملفها الدعم الذي ظفر به، وهو الذي واكبه زخم سياسي واقتصادي وسياحي لا يتوقف من أعلى هرم السلطة إلى القطاعات كافة، والشعب الذي كان حتى طلابه في باريس جنود احتياط وسفراء في المعركة الضارية التي انتهت بنتيجة كاسحة.
وكان ذلك جلياً في فارق التصويت بين السعودية ومنافسيها، محققة بذلك رقماً غير مسبوق في تاريخ المعرض الدولي، إذ فازت في الجولة الأولى وبأغلبية ساحقة، بثقة 119 دولة، بينما حاز أقرب منافسيها كوريا الجنوبية 29 وإيطاليا في المركز الثالث 17 صوتاً وحسب، رغم هالة "روما" التاريخية في الوجدان الغربي.
يأتي ذلك في وقت تشهد العلاقة التعليمية الممتدة بين الرياض وباريس تحولاً لافتاً في تقدير السفير الفرنسي لودوفيك بوي الذي أكد أخيراً أن نحو 600 طالب سعودي يدرسون حالياً في فرنسا، وآلاف السعوديين ضمن شبكة خريجي التعليم العالي في فرنسا، إضافة إلى مشاركة 70 طالباً سعودياً سنوياً في برنامج تدريب أطباء الخليج.
وكان الزوجان السعوديان فيصل عبدالرحمن وبثينة شيبه القادمان من غرب السعودية وتحديداً مدينة جدة على موعد مع الحلم، إذ كانا يترقبان حدث ترشح المملكة لـ "إكسبو 2030" منذ إعلانه على بعد ساعات من باريس في مقر ابتعاثهما، وحين أتيحت لهما فرصة المشاركة في "واحة الإعلام" كانا على أهبة الاستعداد لتلبية دعوة الملحقية الثقافية في فرنسا.
ويجد فيصل أن قدومه للمشاركة في أعمال الترشح بمثابة الدعم للوطن الذي يرجو له العلو دائماً وأبداً، مستحضراً مسيرة ماراثونية لعائلته الصغيرة للانضمام إلى الحدث، فقد تركا ابنتهما الصغيرة لدى عائلة مجاورة واستأذنا مدرسيهما للغياب تلبية للنداء الوطني، فيما تروي زوجه بثينة أن هذا الموقف ستحدث به ابنتها "لانا" بفخر، وسيعلمها ذلك أن تكون على نهج والدتها فخورة ومبادرة.
بـ"إكسبو" ومن دونه
ومما يزيد قيمة الفوز السعودي ويهون من عدم الحصول على أي فرصة مشابهة هو أن الرياض ماضية في خطتها وكتابة فصول رؤيتها الطموحة على أي حال "بمن حضر"، طالما أن شعبها الشاب عانقها منذ لحظتها الأولى بإصرار وتفان جعلا ولي العهد يشبههم بـ "جبل طويق" الذي تغنى شعراء نجد في القديم والحديث بكبريائه وصبره على الشدائد.
وفي هذا السياق تقول السفيرة في واشنطن ريما بنت بندر لأصدقائها الأميركيين، "نحن لا نعمل لإرضاء الآخرين ولو فعلنا فإننا لن نرضي أنفسنا، لذلك نحن واثقون من أنفسنا وتوجهنا وسيقتنع الآخرون بعد أن يلمسوا نتائج عملنا وأثره، وقد أصبح هذا الأثر ملموساً بالفعل بفضل قيادة مهتمة تتميز ببعد النظر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا ما عدنا لباريس التي احتضنت المنافسة وصارت "تتكلم سعودي" كما يردد النشطاء، فإن حراك الرياض على هامش الاجتماع الـ 173 للجمعية العمومية للمكتب الدولي للمعارض جعل من الوجود السعودي في باريس بحد ذاته مناسبة عبر النشاطات الجانبية المقامة في مواقع متفرقة، ومن أبرزها التي تنظمها الهيئة الملكية لمدينة الرياض، المسؤولة عن تنظيم النسخة السعودية المحتملة للمعرض الدولي، إلى جانب وزارة الإعلام التي حملت أبرز مشاريع العاصمة والسعودية إلى باريس عبر "واحة الإعلام" التي اتخذت من قلب العاصمة الفرنسية مقراً لها، وجعلت تبث روح السعودية وثقافتها في كل الأرجاء.
وهكذا قدمت الجهات عبر فعالياتها الثقافة السعودية بكل وأوجهها عبر موائدها التي حضرت في طقوس الضيافة التقليدية في المشروبات الساخنة وموائد العشاء المقامة للوفود الرسمية، إضافة إلى الاستعراض الفلكلوري الموسيقي واستعراض الأزياء وتقديم قطع منها كهدايا للزوار، وإبراز التاريخ السعودي الممتد عبر القطع الأثرية المحمولة إلى معرض موقت.
وفي جهة أخرى من العاصمة، وفي قاعة "بافليون فندوم" بالتحديد، تقيم وزارة الإعلام نشاطها الذي بات مصاحباً للحضور السعودي الدولي، وتستضيف الجهات الإعلامية القادمة إلى باريس لتغطية التصويت وإعلان النتائج وتوظيف هذه الاستضافة في سبيل التسويق لمنتجات شركائها من مشاريع سعودية تهدف إلى تقديم نفسها إلى العالم كوجهات سياحية دولية، مثل "روح السعودية" و"نيوم" و"الدرعية" و"سدايا" و"الرياض الخضراء" و"المربع الجديد" وسواها.
حراك ممتد في باريس
ولا يتوقف الزخم السعودي عبر المواقع الرسمية الثابتة، فيمكن أن تجدها عبر لوحة إعلانية في أحد الشوارع الرئيسة في العاصمة الفرنسية أو على جانبي سيارة تسير بجوارك في الطريق الرئيس تروج للملف السعودي وتبشر بحظوظ الرياض في أن تكون وجهة النسخة التي ستقام بعد سبعة أعوام من المناسبة العالمية.
والحضور السعودي في فرنسا ليس حديثاً، فالعلاقة في ما يتعلق بالاتصال الثقافي عالية منذ فترة طويلة عبر عروض موسيقية أقيمت من قبل الأوركسترا السعودية أو تبادل القطع الأثرية بين السعودية ومتحف اللوفر الشهير، مما يجعل الحضور السعودي هناك أصيلاً.
وأحد أهم العوامل التي رجحت فوز ملف الرياض هي خبراتها الكبيرة في قطاعات تعد أولوية عالمية اليوم، مثل تقنيات الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية، وهو ما يتناسب مع معرض "إكسبو" الذي يعد منصة تجمع كبرى الشركات الدولية التي تستعرض آخر ما توصل إليه العالم تقنياً.
مباشر | إعلان المدينة الفائزة باستضافة معرض #إكسبو_الدولي_2030 #نكمن_في_التفاصيل
— Independent عربية (@IndyArabia) November 28, 2023
https://t.co/tsmfmFRLpW
وتلعب البنية التحتية دوراً كبيراً في فوز الرياض التي تمتلك بنى تحتية رفيعة المستوى مثل الطرق ووسائل النقل والمطارات والقطارات والمستشفيات والخدمات الحكومية الإلكترونية والفنادق والنزل والأسواق والمتاحف والمتنزهات، وكل هذا يظهر الكفاءة العالية والقدرة على استضافة معرض "إكسبو" وملايين الزوار.
وكان ملف الرياض ارتكز على تقديم صورة البلاد وفق مسارات من أبرزها الأمن والاستقرار، إذ تتمتع المملكة الواقعة في قلب العالم العربي والإسلامي بأنظمة سياسية واجتماعية وأمنية ومالية مستقرة للغاية، وتجمع ثروتها ما بين الأصول الطبيعية والاستشراف المستقبلي، وتولي تركيزاً على أمن الطاقة والموارد بما في ذلك الغذاء والماء.
قائمة أفضل 10 مدن
والمشاريع العملاقة التي باتت تعج بها السعودية بصورة عامة وعاصمتها بخاصة تلعب دوراً هي الأخرى في ترجيح ملف الرياض، إذ وصل صداها إلى أنحاء المعمورة عبر تنامي عدد السياح الذي حققت من خلاله السعودية، وفقاً لمنظمة السياحة العالمية، المركز الثاني عالمياً في نسبة نمو عدد السياح الدوليين خلال الربع الأول من 2023، والأعلى في الأداء الربعي بنسبة نمو 64 في المئة، إذ استقبلت خلاله نحو 7.8 ملايين سائح.
ومع خروج هذه المشاريع إلى النور ستكون الرياض في طريقها إلى أن تكون إحدى أفضل 10 مدن على مستوى العالم خلال عام 2030، بالتزامن مع استضافتها المرتقبة لـ "إكسبو".
ومن أهم العوامل الشعب السعودي الكريم المضياف الذي يُؤلَف ويَألَف ويحرص على تعزيز التواصل مع الثقافات العالمية الأخرى، وهو ما أكده كثير من المسؤولين الغربيين الذين عملوا في السعودية ومنهم السفير الألماني السابق يورغراناو، الذي قال إن الشعب السعودي مضياف ومرحب بجميع السياح، وهو ما أكده أيضاً صانع المحتوى الكوري مو بن لي قائلاً "منذ لحظة وصولي الأولى إلى السعودية أسرني دفء شعبها وأريد أن أشارك العالم لماذا أحب هذا البلد جداً"، مضيفاً "أعتقد حقاً أن الرياض هي المكان المثالي لاستضافة معرض ’إكسبو 2030‘".
بدوره يشير الدبلوماسي الفرنسي والمؤرخ المتخصص في شؤون الشرق الأوسط لوي بلان إلى "ثلاثة عوامل ستلعب لمصلحة اختيار الرياض لاستضافة ’إكسبو 2030‘ وسيكون لها وزن في عملية التصويت، أولها اقتصادي نظراً لوزن السعودية الاقتصادي إذ تعد ثاني أكبر منتج للنفط الخام في العالم، والعامل الثاني جيوسياسي كونها الدولة العربية الوحيدة في مجموعة الـ 20"، ويرى بلان أن "حجم السعودية الاقتصادي والجيوسياسي يؤهلها لهذا الترشح كما يعطيها الحظوظ بالفوز إلى جانب انضمامها إلى مجموعة ’بريكس‘ وهذا عامل لا يستهان به أيضاً".
ويضيف أن العامل الثالث هو "سياسة الانفتاح التي انطلقت في السعودية منذ عام 2016 وقطعت أشواطاً غير متوقعة إذ سيكون لها الأثر في هذا التصويت"، موضحاً أن "السعودية التي كان ينظر الرأي العام الغربي إليها كبلد منغلق استطاعت تغيير الصورة النمطية التي كانت سائدة، كما أن سياسة الانفتاح على الصعيدين الاجتماعي والسياحي التي أطلقتها ’رؤية 2030‘ تحت شعار الانفتاح وضعت السعودية على خريطة السياحة الدولية وليس فقط السياحة الدينية، وهذه حجة لها وزنها في التصويت".
كل هذه العوامل عززتها شهادة الأمين العام للمكتب الدولي للمعارض ديمتري كيركنتزس الذي أشاد بما يجري في السعودية من تطور يستحق أن يكتشفه العالم قائلاً، "رأينا أن المشروع يحظى بدعم كبير من ولي العهد وجميع قطاعات الدولة، وكل شخص رأيناه في السعودية وتحدثنا إليه، ولا شك في أن السعودية ومدينة الرياض لديهما جميع المقومات لاستضافة هذا المحفل العالمي".