ملخص
يظل السؤال المطروح: هل أفادت عملية طوفان الأقصى المشهد الفلسطيني بأكمله ونجحت في نقل رسالتها الجوهرية؟
مع اندلاع الأوضاع في قطاع غزة، وبدء هجوم حركة "حماس" على منطقة غلاف غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) الماضي، والرد الإسرائيلي الشامل على ما جرى، وانتقال الأعمال من مجرد مواجهات بإطلاق الصواريخ، وتوجيه الضربات على القطاع، وتحولها إلى عملية عسكرية شاملة من قِبل إسرائيل على القطاع بأكمله طُرحت تساؤلات حول إقدام إسرائيل على تبني سلسلة من الإجراءات بهدف إنهاء حكم حركة "حماس" في القطاع، وفقاً لتصريحات رسمية، والعمل على صياغة معادلة أمنية واستراتيجية جديدة في القطاع.
ومع توقيع الهدنة الإنسانية واستمرارها فإن الأوضاع غير مستقرة، في ظل استمرار المخاطر قائمة وواردة من احتمالات تجدد أعمال المواجهات دورياً في حال عدم استكمال الهدنة الراهنة والبناء عليها، ولو مرحلياً.
تساؤلات مطروحة
يظل السؤال المطروح: هل أفادت عملية طوفان الأقصى المشهد الفلسطيني بأكمله ونجحت في نقل رسالتها الجوهرية؟ وهل يمكن التوقع بوجود مشاهد أخرى في إطار ما يجري؟ بخاصة أن تخطيط حركة "حماس" كان واضحاً فيه الذهاب إلى عملية عسكرية استباقية، ومحاولة تغيير الواقع الأمني والاستراتيجي الموجود في القطاع، بعد أن اتهمت الحركة أنها باتت مستكينة، وتسعى للتحول إلى حزب سياسي، وإنهاء فكرة المقاومة التي تركتها إلى حركة "الجهاد الإسلامي"، مثلما جرى في مواجهات سابقة، حيث لم تشارك "حماس" فيها، بل واتهمت بأنها تركت الجهاد بمفردها، مما يؤكد أن الحركة باتت تعمل في مساحات محددة.
واقعياً، أفادت عملية طوفان الأقصى الداخل الفلسطيني من زوايا عدة، أهمها أنها أعادت تقديم القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية مجدداً بعد سنوات من تناسيها من قبل المجتمع الدولي، واعتبارها ملفاً مؤجلاً، أو إن صح التعبير التعايش مع أخطارها، على اعتبار أن إسرائيل وحدها قادرة على الردع والمواجهة، ولأنه لا توجد أولويات للتعامل سواء بإدارة الصراع، أو مواجهته في ظل أزمات أخرى أكثر حضوراً وخطورة تهم العالم.
وكانت الحرب في أوكرانيا نموذجاً كبيراً ولافتاً في انقسام العالم إلى مؤيد ومعارض، وانتفضت الدول الغربية للحفاظ على قيم الغرب، ودعم أوكرانيا التي ليست عضواً في الناتو، أو التحالف العسكري الدولي الذي تديره الولايات المتحدة، وجرى تحويل الملايين من المخصصات المالية والسلاح لمواجهة السلوك الروسي، مما يؤكد أن المصالح الدولية هي التي فرضت نفسها بصورة كبيرة.
وفي المقابل، لم يهتم الغرب والقوى الدولية بالبحث عن حل في ظل ممارسات المستوطنين في القدس، واستئناف سياسة الاستيطان، والعمل في اتجاه فرض الأمر الواقع في الضفة الغربية، بخاصة مع وصول حكومة من المتطرفين إلى سُدة الحكم، إذ زايدت مكونات الائتلاف على التعامل وتطبيق برنامج شيطاني يسعى ليس إلى إدارة الصراع مثلما كان يجري طوال أكثر من 50 عاماً، بل إلى مرحلة حسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية من أصولها بالكامل في مواجهة ما يجري من تطورات مهمة وشاملة خاصة.
اهتمام دولي
لم تتحرك الولايات المتحدة، بل ودول مجلس الأمن في اتجاه البحث عن حل في ظل اهتمام العالم بأزماته، ولم يأتِ المسؤولون الأميركيون إلى المنطقة، وأجروا اتصالات مع الشركاء والوسطاء إلا بعد أن بدأت مواجهات حركة "الجهاد الإسلامي" وإسرائيل، التي لم تدخلها حركة "حماس"، وظل الواقع على ما هو عليه، في ظل تكريس النهج الإسرائيلي، وتأجيل متعمد، لاستمرار الوضع الراهن، وعدم الاقتراب من أصول أي تسوية مما يشير إلى عدم وجود إرادة سياسية، أو استراتيجية للسعي إلى إيجاد حل.
وعلى رغم ما يتردد من تعرض أمن إسرائيل للخطر، فإن الأمر كان يتطلب الدخول والنفاذ مباشرة إلى خيار الحل، أو البحث عن حل، بخاصة في ظل عدم وجود ضغوط دولية حقيقية على إسرائيل، لتقبل فكرة الذهاب إلى استئناف الاتصالات السياسية، على رغم وجود اتصالات أمنية واستراتيجية في إطار التنسيق الأمني والاستراتيجي، الذي تسعى إسرائيل إلى تطبيقه وفقاً لاتفاق أوسلو، الذي لا تزال إسرائيل تخالف بنوده، سواء في صيغته السياسية، أو الاقتصادية ممثلة في اتفاقية باريس الاقتصادية، التي تقر بجمع المتحصلات الجمركية والمالية وإيصالها وفق قواعد ضابطة للسلطة، ومن ثم التحكم في مصادر الضخ المالي الموجهة إلى السلطة الفلسطينية.
حسابات منضبطة
جاءت عملية طوفان الأقصى، ووفق حسابات سياسية وأمنية لحركة "حماس"، وكجس نبض التعامل والرد الإسرائيلي في بروفة أولى، وربما لما هو آتٍ من خيارات ومخططات، يعمل عليها الجناح العسكري للحركة، الذي يسعى إلى تغيير الوضع الراهن، والذهاب إلى خيارات أخرى، بعد اتهامات طالت الحركة بالتخلي عن فكرة المقاومة.
المؤكد أن هذا المستوى العسكري في حالة تباين في الرؤى، وسيكون له مواقفه الأخرى التي ستؤثر في النهج المستقبلي للتعامل مع إسرائيل، في مقابل بعض الرؤى والتوجهات المعتدلة، أو الداعية للتعامل بحذر تجاه حكومة متطرفة ليس لديها ما تخسره، وتسعى إلى نقل رسائل للجمهور الإسرائيلي، وتعمل على كسب الوقت، لتحقيق برنامجها في الائتلاف الراهن، ولا تريد تقديم تنازلات.
ومن ثم، يمكن تأكيد أن مقاربة حركة "حماس" كانت ساعية للقفز على الوضع الراهن، والعمل وفق منهج جديد عسكري، وإن كانت ويقيناً لم تتوقع حجم ما جرى في ظل عدم وجود مقارنة بين القوى الشاملة لإسرائيل، وما لدى المقاومة الفلسطينية بأكملها، وليس لدى حركة "حماس".
مقاربة جديدة
أعادت عملية طوفان الأقصى بالفعل تقديم القضية الفلسطينية للمشهد الدولي مجدداً، بخاصة أن الرأي العام انتفض لما جرى، وفي البداية كان مؤيداً للموقف الإسرائيلي، نظراً إلى السردية اليهودية التي لعبت الميديا الغربية، بخاصة في الولايات المتحدة، دوراً في تأكيد دعم الحق اليهودي ومساندة إسرائيل.
ولهذا كان الزحف الغربي للمسؤولين الغربيين وللولايات المتحدة إلى دول المنطقة بحثاً عن حل، والإعلان عن دعم إسرائيل، مما أوجد بالفعل مساحة من الدعم السياسي اللافت في أنحاء العالم، ثم سرعان ونتيجة للممارسات الإجرامية التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية تغير الموقف، وخرجت التظاهرات الأوروبية والأميركية تدعو إلى وقف الحرب، في ظل التركيز على البعد الإنساني لا السياسي، مما سيكون له أبعاده في تأكيد أخطار ما يجري في ظل دعم موجود ومهم، ومستمر من الولايات المتحدة والدول الغربية.
ومن ثم ربح المشهد الفلسطيني مما جرى في نقل رسالة مهمة بضرورة البحث عن حل، وعدم ترك الأمور على ما هي عليه، وإن كان ذلك سيواجه بإشكاليات إجراء الانتخابات الأميركية، وافتقاد الجانب الأوروبي قدرات داعمة، في ظل تعطل الرباعية الدولية، وعدم وجود دعم مباشر يمكن أن يحيي عملية السلام في ظل تجمد المجهودات الدولية الدافعة إلى التوصل إلى عقد مؤتمر دولي، وإن كان الجانب الفلسطيني ربح من الدعوة المتكررة لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، وتحويل الدعوات الراهنة للاهتمام بالتطورات الفلسطينية من بعدها الإنساني إلى بعدها السياسي، وهو ما تركز عليه الدول العربية والإسلامية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل هذا البعد السياسي اتضح أخيراً في البيان الختامي للقمة العربية - الإسلامية، وفي جولة الوفد الوزاري العربي إلى دول مجلس الأمن باستثناء الولايات المتحدة، وفي خطوة مهمة تدفع بضرورة الاتجاه إلى بناء مقاربة عاجلة، للبحث عن حل حقيقي، والانتقال إلى تنفيذ مخطط إقامة الدولة الفلسطينية على أساس القرار الدولي الشهير 183 الداعي إلى إنشاء الدولة العربية مقابل الدولة العبرية التي أنشئت بالفعل، ولا تستطيع إسرائيل التنصل أو التذرع ببنوده.
وفي مقابل ذلك، فإن هناك بعض الإشكالات التي تحول واستثمار المشهد فلسطينياً لاعتبارات عدة، أولها: ضعف السلطة الفلسطينية، وحاجتها إلى دعم حقيقي اقتصادياً وسياسياً، وفي ظل تقدم العمر بالقيادة الفلسطينية الراهنة، وانقسام الصف الفلسطيني، وتضارب الأولويات الفلسطينية. ومع عدم وجود ما يشير إلى رغبة في توحد المواقف فإن المجتمع الدولي قد لا يتحمس في ظل الوضع الراهن الفلسطيني المنقسم، وفي ظل صعوبة الأوضاع في قطاع غزة، وحاجته بالفعل إلى مشروع دولي للإعمار، وليس مجرد مسكنات أو حلول جزئية.
ثانيها: لا تزال حركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية مصنفة إرهابية، مما يحول والتعامل مع المعادلة الفلسطينية بأكملها، وإن كان الحل المطروح إدخال حركتي "حماس" و"الجهاد" في منظومة منظمة التحرير الفلسطينية لإعطائهما المظلة الوطنية الفلسطينية.
ثالثها: عدم وجود قناعة إسرائيلية بالتعامل مع القوى الفلسطينية، جوهر الصراع، لإدراكها أن كياناً في قطاع غزة هو مختلف في الرؤية والمنهج عن كيان الضفة، على اعتبار أن الخطر الأكبر، والمهم بالنسبة إلى إسرائيل إنهاء المقاومة، وتحويلها إلى مجموعات من الجيوب وإدارة القطاع بأطراف أخرى، مع الاعتماد على خيار القوة والمواجهة، وهو ما سيحول فعلياً دون التعامل من خلال أي مقاربة حقيقية، ومن ثم فإن إسرائيل لن تقبل على أية اتصالات إلا تحت ضغوط دولية حقيقية، ومن الولايات المتحدة وعبر دعم دولي كامل لتأكيد دعمها، مع التركيز إلى جوار ذلك على قوتها العسكرية.
في كل الأحوال، كسب المشهد الفلسطيني، وكسبت المقاومة إعلامياً وسياسياً، لكن عسكرياً واستراتيجياً خسرت كثيراً من آلاف الفلسطينيين، الذين سقطوا في المواجهة الأخيرة مقابل الإفراج المقيد عن بعض الأسرى، وفي إطار مشهد قد يتكرر في إعادة القبض عليهم مجدداً، مثلما جرى عقب إتمام صفقة الجندي جلعاد شاليط، إضافة إلى تهدم كامل لقطاع غزة، وحاجته إلى إعادة إعمار، في ظل تقاعس المجتمع الدولي عن هذه المهمة، مقابل ما جرى في التعامل مع أزمة أوكرانيا.
ومن ثم فإن بنود الربح والمكسب للجانب الفلسطيني تقل كثيراً في ظل الخسائر الفادحة التي جرت، حيث ما زال السؤال مطروحاً: هل ستكون حركة "حماس" ضمن المعادلة الفلسطينية الراهنة؟ وماذا عن مستقبل القطاع أمنياً واستراتيجياً؟ وهل يتقلص القطاع؟ وهل ستبقى القوات الإسرائيلية داخل غزة؟ الأمر الذي سيتطلب استمرار الحرب والمواجهة، مما يؤكد أن الخيارات قد تكون صفرية في الأساس على رغم ما ربحته القضية الفلسطينية من مكاسب إعلامية وسياسية، ولفت انتباه العالم، وتأكيد ضرورة التوصل إلى حل حقيقي، والانتقال من مرحلة إلى أخرى. وفي المقابل فإن إسرائيل قد تمضي في خيارات أخرى لا تعمل لصالح الداخل الفلسطيني، الذي سيمر بمرحلة انتقالية، لحين اتضاح الرؤية والتوصل إلى نقطة توازن.
الخلاصات الأخيرة
ليست القضية ربح أم خسارة المشهد الفلسطيني المعقد، الذي يبحث عن خيارات جديدة داخلياً وخارجياً بأطراف دولية، وليس الوسيط الأميركي فقط، في مقابل ما حققته إسرائيل من أهداف سياسية وعسكرية، وعلى رغم خسائر كل طرف فإن الأمر سيرتبط بالفعل بمنطق قد يبدو عقلانياً ومرتبطاً بثوابت حقيقية تتعلق بضرورة التوصل إلى حل حقيقي، وإلا فإن أمن الإقليم بأكمله سيتضرر، ولن يكون هناك استقرار حقيقي في المنطقة من دون حل القضية الفلسطينية.
صحيح أن إعادة تقديم المشهد الفلسطيني للعالم مكسب حقيقي إلا أن الأمر أيضاً مرتبط بالخسائر الكبرى التي جرت في الصف الفلسطيني، وهي بالفعل خسائر مكلفة للغاية، مهما جرى الحديث عن تغيير قواعد الاشتباك بين الجانبين، والانتقال إلى مرحلة أخرى من الصراع بوسائل جديدة، ويبقى السؤال قائماً: هل سقوط كل هؤلاء القتلى وبالآلاف يقابله الإفراج عن بعض الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟