Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان... مفترق طرق ما بعد الحرب

تدل مؤشرات سياسية عدة اليوم إلى قرب توصل الفريقين إلى اتفاق سياسي من خلال منبر جدة

أصبح الشعب السوداني اليوم مدركاً تماماً للعناصر التي تسببت في إشعال الحرب (مواقع التواصل)

ملخص

كان اندلاع الحرب السودانية بمثابة حلقة النهاية لسيرورة سياسات حكومية في إنتاج حروب أهلية ممتدة عبر التاريخ الحديث للدولة السودانية ما بعد الاستعمار

بعد أن بدا واضحاً للجميع اختلال ميزان القوة العسكرية بين الطرفين المتحاربين في السودان، الجيش وقوات "الدعم السريع"، لصالح الأخيرة في إقليم دارفور، ما عدا مدينة الفاشر، ووجود قواتها في مواقع عسكرية استراتيجية للجيش مع امتدادات واسعة لها في العاصمة الخرطوم، وخارجها، يشهد الاستقطاب الحاد الذي طفا على هامش الحرب بين مؤيدي الحرب ومناهضيها، انعكاسات خطرة عبر محاولات مستميتة من طرف المؤيدين للحيلولة دون أي فرصة للسلام وعودة الانتقال الديمقراطي المتعثر في السودان، ولذلك نرى في وقائع كثيرة ما يكشف عن تنسيق بين أجندة مؤيدي الحرب من عناصر النظام القديم، وبين بعض السياسات التي تعبر عن توجهات السلطة العسكرية في بورتسودان بقيادة قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، عبر جملة من الإجراءات المضطربة في تصرفات الحكومة، هي انعكاس للحال التي أصبح عليها الوضع الذي عبر عنه اختلال ميزان القوة بين الطرفين.
وفي وقت أصبح فيه الشعب السوداني اليوم، مدركاً تماماً للعناصر التي تسببت في إشعال هذه الحرب، بعد أن تكشفت حقائق كثيرة في هذا الصدد، تتجه استراتيجية مؤيدي الحرب نحو ألعاب مكشوفة تحاول من خلالها إعادة إنتاج وسائل الدعاية القديمة للنظام القديم وتوظيفها في استقطاب عنصري جهوي يسعى إلى تصوير الحرب على أنها صراع بين أهل الشمال والغرب، بغرض شحن عواطف البسطاء وتوظيف ولاءاتهم القرابية في مشروع حرب أهلية شاملة، ويستهدف تغييب العناصر الزمنية والسياسية للحرب من ناحية، والتعمية، من ناحية أخرى، على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تطور الأوضاع نحو الحرب، وهي تركة الفساد التي راكمها نظام "الإخوان المسلمين" في تخريب جهاز الدولة لأكثر من 30 سنة، وتدابير العقل الأمني للدولة العميقة، الذي لا يزال يستثمر في التناقضات التي فجرتها الحرب نتيجة لذلك الخراب. وبإزاء هذا التخطيط الخبيث لمؤيدي الحرب الذين يستثمرون في توظيف خطاب الكراهية بين المواطنين، ثمة إجراءات في ممارسات الحكومة تعكس لنا بوضوح تأييداً لاتجاه مؤيدي الحرب، ولقد رأينا ذلك في قرار حكومة الجيش في بورتسودان بتعيين وفد حكومي يقوده دفع الله الحاج علي، وكيل وزارة الخارجية الذي سافر إلى نيويورك للمطالبة بإنهاء عمل البعثة الأممية السياسية المتكاملة للسودان، بحجة أن الأوضاع السياسية التي كانت سبباً في تكوين البعثة قد انتهت بقيام الحرب.
وسيبدو جلياً من خلال هذه السردية المتهافتة أن سياسات حكومة الجيش في بورتسودان تلبي مطالب مؤيدي الحرب، إذ يدرك الجميع أن جهود البعثة الأممية السياسية بقيادة رئيسها السابق فولكر بيرتس لعبت دوراً كبيراً في احتواء الآثار الكارثية للانقلاب الذي قام به قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وأسفرت جهود البعثة الحثيثة مع أطراف دولية أخرى، منها الرباعية الدولية، خلال سنة ونصف السنة عن مشروع "الاتفاق الإطاري" الذي كانت الحرب في 15 أبريل (نيسان) 2023 من أهم النتائج التي عبرت عن رفضه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحرك حمدوك
لهذا كان تحرك الدكتور عبدالله حمدوك، رئيس تنسيقية تحالف القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، سريعاً في مطالبة كل من الأمم المتحدة ومجلس الأمن بعدم الاستجابة لطلب وفد الحكومة السودانية بإنهاء مهمة البعثة الأممية السياسية للسودان. ودعا حمدوك إلى تجديد تفويض البعثة الأممية، لا سيما أن هناك جلسة لمجلس الأمن حول السودان، الجمعة الأول من ديسمبر (كانون الأول)، وكان رئيس الوزراء السابق حمدوك قد أرسل في هذا الصدد رسالتين لكل من الأمين العام للأمم المتحدة، ولرئيس مجلس الأمن الدولي.
وتدل مؤشرات سياسية عدة اليوم إلى قرب توصل الفريقين إلى اتفاق سياسي من خلال منبر جدة. وإذا ما اتفق على وقف إطلاق النار في مفاوضات جدة، فإننا سنكون بإزاء وقائع دراماتيكية محتملة في مشهد الحرب، وهي وقائع سيكشف عنها انفجار التناقضات بين الجيش وبين كتائب الإسلاميين (مثل كتائب البراء والكتيبة الخضراء) التي يدعمها مؤيدو الحرب من عناصر النظام القديم.
ذلك أن ما كشفت عنه تعقيدات هذه الحرب وخلفياتها يدل بوضوح على أن مسألة الخروج من الواقع الذي صنعته الحرب بأثر من تركة فساد نظام "الإخوان المسلمين"، سيقتضي بالضرورة صراعاً أخيراً بين الجيش وتلك الكتائب، مما ستنقلب معه كثير من الموازين ويتكشف عبره كثير من الحقائق التي تدل على عبثية هذه الحرب.

وبين رهان مؤيدي الحرب على استمرارها ودفعها باتجاه حرب أهلية طاحنة، وجهود القوى السياسية الرافضة للحرب، سيكون من الأهمية بمكان دعم الجهود التي تبذلها تنسيقية "تقدم" (اختصار لتحالف القوى الديمقراطية المدنية) برئاسة حمدوك، الذي يسعى خلال الأسابيع المقبلة إلى تكوين "جبهة مدينة ديمقراطية" من أجل استعادة الانتقال الديمقراطي عبر جمع كافة مكونات الشعب السوداني من نقابات ومنظمات مجتمع مدني ولجان مقاومة وأحزاب، بهدف إنهاء الحرب.

الحل... سياسي
وفي ظل تهافت سردية الفلول ومؤيدي الحرب بعد تكشف الآثار الوخيمة للحرب، لا سيما أثرها المدمر على قدرات الجيش السوداني، لا ضمان لخروج السودان من مأزق الفوضى وشبح التقسيم الذي يخيم عليه إلا بالحل السياسي الذي يرعاه منبر جدة. لذلك، ربما تأتي زيارة قائد الجيش عبدالفتاح البرهان إلى جيبوتي في الأسبوع الماضي من أجل دعم الحل السياسي بعد أن تم تقسيم العمل في منبر جدة وتفويض قضايا الحل السياسي إلى منظمة "إيغاد" والاتحاد الأفريقي، بخاصة بعد اتفاق البرهان مع السيد ورقني قبيهو، السكرتير التنفيذي للهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد)، على عقد قمة طارئة لرؤساء بلدان الهيئة لبحث أزمة السودان.
وكان اندلاع الحرب السودانية بمثابة حلقة النهاية لسيرورة سياسات حكومية في إنتاج حروب أهلية ممتدة عبر التاريخ الحديث للدولة السودانية ما بعد الاستعمار، لكنها، من ناحية أخرى، كانت الحلقة الأخيرة لتلك الحرب تعبيراً سرعت به نتائج الخطايا السياسية لنظام عمر البشير عبر الانسدادات التي أدت إليها سياساته الكارثية، كانفصال الجنوب والحروب الأهلية الجديدة منذ عام 2003 في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان. ومع سقوط رأس النظام السابق في 11 أبريل 2019 خططت بنية الدولة العميقة للنظام القديم عبر عقلها الأمني لسياسات ثورة مضادة كان عنوانها الحروب الصغيرة التي عرفت خلال الفترة الانتقالية 2019 – 2021 بعمليات شد الأطراف، في كل من شرق السودان وغربه، مع جملة سياسات تخريبية استهدفت إفشال سلطة الانتقال السياسي بقيادة حكومة حمدوك، وانتهت أخيراً بالانقلاب العسكري على حكومة الثورة في 25 أكتوبر 2021.
ومع هذه الخاتمة التي جلبت الحرب السودانية - السودانية إلى قلب الخرطوم والتي لا نزال نشهد تداعياتها الكارثية، سيبدو جلياً أن السودان اليوم أمام مفترق طرق، فمن ناحية تم إسدال الستار على حقبة كاملة من سودان قديم قضت عليه هذه الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 ومن ناحية ثانية ثمة رهان بين خيارين لا ثالث لهما حيال مستقبل السودان الذي لم يرَ النور بعد. أحد هذين الخيارين هو خيار الفوضى والتقسيم الذي بات واضحاً أنه اليوم في صلب أجندة الفلول ومؤيدي الحرب من عناصر النظام القديم الذين يراهنون، إما على سودان واحد تحت استعادة حكمهم العسكري السابق أو الفوضى والحروب الأهلية. أما الخيار الثاني فهو خيار استعادة الديمقراطية والانتقال السياسي من خلال عملية سياسية تتمخض عن منبر جدة ويشرف عليها المجتمع الدولي، لتعيد استكمال أهداف ثورة 19 ديسمبر 2018 في الحرية والعدالة والسلام، لكن هذا الخيار يتوقف نجاحه على مدى استفادة النخبة الحزبية والسياسية السودانية في المرحلة المقبلة من درس الحرب القاسي وإدراك أهمية تلافي خطايا الماضي المميتة في ممارسات إدارة السلطة والثروة، التي كانت الحروب الأهلية أبرز نتائجها. والعمل بنزاهة من أجل تكريس حقوق المواطنة العادلة لمواطني الدولة السودانية دون فرز، مع التوزيع العادل لمناصب إدارة السلطة والثروة وضمان مناخ حر للتنافس الشريف في وصول كافة المواطنين إلى كافة المناصب السياسية والإدارية في وظائف الدولة العامة بمعيار الشفافية القائم على تقديم أهل الكفاءة والخبرة على أهل الولاء والثقة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل