Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آخر أيام صاحب "العبودية الطوعية" كما وصفها صديقه مونتاني

"كان لا بويسي بالنسبة إليَّ نصفي في كل شيء إلى حد أنني بفقدانه فقدت نصف كياني"

ميشال دي مونتاني قصة صداقة وموت (غيتي)

ملخص

"كان لا بويسي بالنسبة إليَّ نصفي في كل شيء إلى حد أنني بفقدانه فقدت نصف كياني"

كانت واحدة من الصداقات النادرة في تاريخ الفكر تلك التي جمعت بين كبيرين من قادة الفكر في فرنسا خلال العصور الغابرة، ميشال دي مونتاني صاحب كتاب "المقالات" الذي يعتبر عادة واحداً من المساهمات الفرنسية الأساسية في الفكر النهضوي إلى جانب المساهمات الإيطالية الكبرى من ناحية، ولا بويسي صاحب الكتاب العمدة "في العبودية الطوعية" الذي لا تزال حداثته ماثلة في الأذهان على رغم مرور نحو نصف ألفية من السنين على صدوره. ولقد كانت الصداقة بين المفكرين الكبيرين من القوة بحيث يحسبها المؤرخون بين ما لا يزيد على نصف دزينة من حكايات صداقة لها قوته وديمومتها، وذلك على رغم أن الرجلين عاشا وتعايشا منذ لحظات لقائهما الأول من دون أن يجمعهما انتماء طائفي واحد، إذ في خضم الحروب الدينية التي اندلعت في أوروبا عموماً وفي فرنسا، وطنهما المشترك خصوصاً، كانا على ضفتين يفترض أنهما متناحرتان بل كان لهما منفردين ومعاً أحياناً تدخلات من حسن حظهما أنها كانت غالباً محولات توفيقية.

حكاية الصداقة أولاً

والحقيقة أن تلك الصداقة كان من الممكن أن تستمر طويلاً وأن تثمر إنجازات فكرية، بل سياسية حتى مشتركة، لولا أن الأقدار تدخلت ذات لحظة مبكرة لتفصمها برحيل لا بويسي باكراً وبين يدي مونتاني الذي سيخلد صديقه ويخلد لحظات هذا الصديق الأخيرة بتوصيف لا يقل روعة عن ذلك التوصيف الذي تحدث به أفلاطون عن رحيل صديقه الكبير سقراط متجرعاً السم في سجنه. ويذكر هنا أن المؤرخين كثيراً ما قاربوا علاقة الصداقة بين مونتاني ولا بويسي من العلاقة التي "جمعت" بين أفلاطون وسقراط، ومن دون أن يبالوا بأن هذين الأخيرين لم يلتقيا أبداً بالأحرى ولا سيما خلال أيام سقراط الأخيرة، وأن ما كتبه أفلاطون عن سقراط ومحاوراته إنما وصل إليه بطرق غير مباشرة، كما أن المقاربة بين وصف أفلاطون للحظات سقراط الأخيرة لا يعكس ما عاشه أفلاطون وشاهده حقاً بل يعكس ما روي له، بينما نعرف أن وصف مونتاني للحظات لابوسيه الأخيرة بحزن ولوعة، إنما كان وصفاً ميدانياً بدا وكأن صاحب "المقالات" يصف فيه أكبر كارثة حلت به في حياته، لكن عزاءه كان أن تلك اللحظات نفسها وكما وصفها إنما كانت الولادة الحقيقية لرجل الحكمة الكبير الذي سيكونه لا بويسي بعد رحيله.

مرض خلال مهمة توفيقية

وتبدأ الحكاية قبل رحيل صاحب "في العبودية الطوعية" الذي وجد نفسه منخرطاً في الحروب الدينية بين الكاثوليك والإصلاحيين ولكن من منطلق عمله على تهدئة النفوس والتقريب بين الجماعتين على رغم أنه، فكرياً في الأقل، لم يكن محايداً في الصراع هو الإصلاحي العقلاني إنما داخل الكاثوليكية. المهم أنه ذات مرة وتحديداً في التاسع من أغسطس (آب) 1563 كان لا بويسي في مهمة توفيقية حين أصيب بعدوى إسهال شديد، حار معه الأطباء وعجزوا عن شفائه منه فأعيد إلى بيته متهالكاً مكتئباً ليس لأنه مريض، بل لأن المرض حال بينه وبين قيامه بمهمة كان يعول عليها كثيراً. ومونتاني منذ وصل إليه النبأ أسرع قلقاً - ولكن بعض الشيء أول الأمر فقط - يعود صديقه، ثم راح يزوره بشكل يومي غير مدرك خطورة الأمر حتى كان السبت التالي حين بلغ لا بويسي من الضعف والهزال ورفض الطعام والشراب مستوى بدا معه أن ما أصابه أكثر جدية وخطورة مما بدا الأمر عليه في البداية.

ومنذ تلك اللحظة قرر مونتاني ألا يترك صديقه لحظة بعد ذلك. لقد أحس بأن الأمور لن تنتهي على خير. وفي اليوم التالي وكان مونتاني قد بات ليلته في إحدى غرف دار صديقه، غاب هذا الأخير عن الوعي تماماً وحين أفاق أخيراً وهو بالكاد قادر على الكلام، راح يروي كما سينقل عنه مونتاني لاحقاً أن كل ما يذكره هو ضباب سميك يغلف كل شيء بكل شيء أحاط به لكنه لم يشعر بأنه شيء سيئ على أية حال، لكن الذي حدث في ذلك اليوم ودائماً بحسب ما يخبرنا مونتاني هو أن الصديقين تبادلا للمرة الأولى حديث الموت. ويضيف صاحب "المقالات" هنا أن لا بويسي طلب عند ذاك مجيء زوجته من جناحها مرفقة بعمه "كي يوزع عليهما إرثه ويكلفهما بتلك الشؤون قبل أن يلقي على مسمعيهما خطاب تشجيع يساعدهما على تحمل فراقه الذي بدا بالنسبة إليه محتماً". ومن ثم التفت "إليَّ وأعلن ترك مكتبته لي، شرط أن أعتني بها ما حييت ولا أفرط بشيء منها. ومن ثم تلا صلاة كاثوليكية وطلب إحضار كاهن".

حكمة اللحظات الأخيرة

ويتابع مونتاني هنا وصف تصرفات لا بويسي في تلك اللحظات الأخيرة ليصفه بأنه بدا هادئاً كل الهدوء، وعلى عزم أكيد على المجابهة ولا سيما حين حدا بأهله إلى البقاء صامدين في مواجهة موته. ويقول مونتاني إن المحتضر التفت ذات لحظة "نحو أخي توما الذي كان قد انضم إلينا وهو المعروف بغلوه في الذهاب مذهب الإصلاح وتلا في وجهه صلاة لم يكن فيها أي دعوة له للتخلي عن غلوه، بل داعياً إياه إلى بذل كل ما لديه من جهد ممكن للتخفيف من حدة ضروب العنف الناتجة من الصراع... والذي ما أزال أذكره هو أن الغرفة كلها كانت مليئة بالصراخ والنحيب، لكن ذلك لم يمنع صديقي من مواصلة عرض أفكاره والتعبير عن مخاوفه إزاء مستقبلنا جميعاً. لقد كان ما عشناه حقا احتضار حكيم مؤمن يبدو خارجاً لتوه من التاريخ العتيق!".

أما بالنسبة إلى المحتضر نفسه فيبدو أن تلك اللحظة يوم الأحد لم تكن بعد لحظته، فهو أمضى الإثنين والثلاثاء في تأرجح بين إغماءات متفاوتة الطول ولحظات وعي يعمه فيها الانشراح وراحة البال. ويروي مونتاني الذي لم يفارق صديقه لحظة طوال كل تلك الأيام أنه حدث لهذا الأخير أن ناداه ذات لحظة بصوت بالغ الهدوء قائلاً له "أخي... يا أخي! هل تراك إذاً تنكر عليَّ مكاناً؟!" وسيقول مونتاني دائماً وحتى نهاية عمره إن تلك العبارة بقيت محفورة في فؤاده حتى وإن لم يفهم منها شيئاً وهو الذي رأى من غير المناسب أن يسأل صديقه عما يعني بها!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النهاية أخيراً

في النهاية إذاً وعند الثالثة صباح الأربعاء الـ18 من أغسطس (آب) انتهت حياة ذلك الرجل الاستثنائي الذي لم تكن سنه لتتجاوز الـ32، تاركاً مونتاني غارقاً في حزن لا برء منه ولا تنفع معه أية عبارات عزاء. وهو عبر عن ذلك بنفسه قائلاً في نص آخر "منذ اليوم الذي فقدت فيه صديقي هذا، لم أعد أفعل إلا التجوال طولاً وعرضاً والدموع لا تفارق مقلتي. أما الملذات التي قد تصادفني في حياتي بين الحين والآخر، فإنها بدلاً من أن تسري عني، تضاعف إحساسي بالخسارة الكبيرة التي يمثلها فقدانه بالنسبة إليَّ. لقد كنا نصفين في كل شيء، وبات يبدو لي أنني انتزعت منه حصته... أنا الذي دائماً ما كنت معتاداً أن أكون في المكان الثاني إلى درجة أنني لم أعد الآن سوى نصف ما كنت عليه!".

وهو مما لن يفوت مونتاني أن يفلسفه لاحقاً على طريقته بقوله إن تلك التجربة قد "كانت تجربة حاسمة تماماً في حياتي: تجربة الموت الذي كان يبدو لي دائماً بعيداً مجهولاً على رغم حضوره الدائم واليومي في كل مكان حولي، لكنه في تلك اللحظة تمكن من الوصول إليَّ بكل قوته وجبروته ليصيبني في النقطة الأكثر حساسية من وجودي". ومن المؤكد إلى هذا كله أن مونتاني استشعر في تلك الخسارة المبكرة التي أصابته عبثية تلك الحرب التي عدها مسؤولة عما حدث، وذلك حتى في النصوص التي كتبها بعد ما لا يقل عن 10 سنوات مضت على رحيل لا بويسي بين يديه. ومنها استقينا ذلك الوصف الذي نقل به معايشته أيام صديقه الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة