Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أمين الزاوي ينبذ التطرف والإقصاء تاريخا وحاضرا

روايته الجديدة تتمرد على الموروث الدموي في سياق رصد تحولات الجزائر

لوحة للرسام بهرام حجو (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

روايته الجديدة تتمرد على الموروث الدموي في سياق رصد تحولات الجزائر

كان قابيل أول من أنجز فعل القتل على وجه الأرض، بحسب ما ورد في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم، على حد السواء. وورث عنه نسله هذه العادة. فراح بنو الإنسان يتقاتلون ويتصارعون في شتى البقاع وفي كل العصور. وتحت وطأة هذا الصراع، الذي لم تنطفئ جذوته أبداً، تسفك الدماء وتحصد الأرواح أرواحاً، من دون أن تكترث لما يجمع بينها من أخوة إنسانية. وفي روايته "الأصنام - قابيل الذي رق قلبه لأخيه هابيل" (دار العين) قرر الكاتب الجزائري أمين الزاوي التمرد على هذا الموروث الدموي، ومناهضة ثقافة العنف والإقصاء، عبر إحياء قيم التضحية والإيثار والانتصار للوفاء والعدالة والتعايش وقبول الآخر.

ينتمي النص إلى أدب ما بعد الاستعمار، الذي يرصد تبعات وتداعيات الإمبريالية على الشعوب المستعمرة بعد تحررها، وما خلفته من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية خطرة. ففضلاً عن تتبع الكاتب الصراع الدموي الأزلي، الذي ما انفك صداه يتردد في حيوات أبناء قابيل وورثته، رصد في الوقت عينه جملة من التحولات، التي مر بها المجتمع الجزائري، بعد جلاء المستعمر الفرنسي. فانطلق في رحلته السردية - معتمداً ضمير المتكلم - من ميلاد الراوي "حميميد"، الذي زامن انقلاب العقيد هواري بومدين على أحمد بن بلة عام 1965، ثم تتبع مراحل عمره الأخرى، التي زامن كل منها حدثاً جللاً في تاريخ الجزائر. فشهدت مراهقته الزلزال الأعنف، الذي دمر مدينة "الأصنام" عام 1980. وزامن شبابه تصاعد دور الجماعات الأصولية المتطرفة وتدفق حمامات الدم وشيوع القتل والعنف في الشارع الجزائري.

ضد العنف والإقصاء

هيمن الصراع على كل مفاصل السرد، فاحتدم أحياناً في العوالم الداخلية للشخوص، وبرز أحياناً أخرى على المستوى الخارجي، إذ اشتعل بين المجاهدين والاحتلال، والثوار وبعضهم بعضاً، "الذين قاموا بالثورة يصححون الثورة، وذلك بقتل أو سجن أو عزل الثوار، الذين قاموا بالثورة مع مصححي الثورة" ص 7. واشتعل كذلك بين المتطرفين، ومن ينتمون لأحزاب أخرى أو يتبنون أفكاراً مغايرة. وفي مقابل هذه الصراعات، التي سعت أقطابها إلى الاستحواذ على الأرض أو على السلطة أو على العقول، أبرز الكاتب ما يناقضها من صور التضحية والتعايش والانفتاح الفكري. فكانت نجاة "حميميد" من لعنة قابيل، وسعيه إلى حماية أخيه الأكبر في حياته وللثأر له بعد موته سبيلاً سلكه الزاوي للكشف عن قبح العنف وعبثية الصراع.

ولم يكن "حميميد" نموذجاً وحيداً مناقضاً لقابيل، الذي سولت له نفسه قتل أخيه، أو لأبنائه الذين ساروا على نهجه، وإنما كان الحاخام اليهودي مسعود شواركي، أيضاً، أحد الذين رق قلبهم لإخوانهم، إذ ناضل في صف الثوار من أجل استعادة الوطن وإنهاء الاحتلال. وفتح للمسلمين معبد اليهود كي يصلوا فيه، بعدما غرق مسجدهم بماء المطر. ولم ينس ما قام به المسلمون لحماية أطفال اليهود وشبابهم من ملاحقة النازية. كذلك جسدت صداقة "مصطفى أوبختي، وجاك بولانجي ومارك ليفي" صورة أخرى للتعايش وتقبل الآخر، على رغم اختلاف انتماءاتهم الدينية. وعبر هذه الثنائية من الصراع والتعايش مرر الكاتب موقفاً فلسفياً مناهضاً لكل أشكال الإقصاء والعنف والإرهاب.

فلسطين حاضرة

 حرص الزاوي على دحض بعض المفاهيم، التي طرأت على المجتمع الجزائري، نتيجة عقود من الامتهان الممنهج على يد الاستعمار. ونتيجة أيضاً للمعاناة الطويلة تحت نيرانه، التي تسببت بدورها في تراجع الاستعداد الفطري، للتعايش المطلق مع الآخر، وتحول هذا الاستعداد إلى رغبة في إقصائه، واعتبار أن الاستقلال مرادف للتخلص منه. وقد وظف الزاوي تقنية الحوار المسرحي في خدمة رؤاه، مانحاً سرده - عبره - سمة آنية الحدوث، ومستفيداً مما تحيل إليه هذه الآنية من دلالات تشي باستمرار تلك الأفكار والمفاهيم الخاطئة، ورسوخها لدى فئات عريضة من المجتمع. وعلى رغم تعاطي النص مع قضايا جزائرية محلية، وتوثيقه التحولات التي مرت بها الجزائر ما بعد الاستقلال، فإن القضية الفلسطينية تجلت كظل قوي داخل السرد، على نحو لم يحل فقط إلى أهمية تحرير فلسطين في العقيدة الجزائرية، ومدى اهتمام الشعب الجزائري بالمقدسات الدينية الفلسطينية، وإنما خدم أيضاً قضية النص الرئيسة، التي تتصل بحتمية التعايش ونبذ الإقصاء، وهو ما برز عبر بعض المفارقات التي ساقها الكاتب. فجمال عبدالناصر والحاخام شواركي وقف كلاهما إلى جانب الثورة الجزائرية، لكنهما على رغم ذلك كانا يتحاربان في فلسطين.  

كسر النمطية والتكرار

نأى الكاتب عن الصورة المألوفة للأم، وعمد إلى كسر نمطيتها عبر ما رصده من ارتياح أم الراوي لمقتل ابنها الأكبر "مهدي"، على رغم بره بها ومحبته لها. وكان رد فعلها السعيد بموته نقطة تحول لدى الابن الأصغر (الراوي)، تبدلت حياته بعدها... "ظلت قسمات وجه أمي السعيدة ساعة عودتنا من المقبرة - وقد تركنا خلفنا مهدي تحت التراب - مرسومة في ذهني تعذبني، ومن يومها بدأت أشعر بأن شخصاً آخر يشاركني جسدي" ص 126. وكان لتكرار العبارات، التي تحيل إلى سعادة الأم بموت "مهدي"، دلالة على عمق صدمة "حميميد"، ومبرراً لمضاعفة رغبته بالانتقام، التي باتت محركاً للاحق من الأحداث. كذلك حقق تكرار عبارة "زلزلت الأرض زلزالها" الغاية نفسها من تبيان مدى تحطم الراوي بموت أخيه.

وكما أحدث زلزال موت مهدي تدميراً في أسرة "عبدالله فاليتا" أحدث زلزال 1980 تدميراً في مدينة الأصنام. وأبرز الكاتب عبر التناظر بين الأسرة المنكوبة والبلد المنكوب عمق أزمة يعيشها مجتمع بأكمله. وجسد عبر اعتماده تقنيات الوصف حالة الألم والهلع والضياع، التي خيمت على الشخوص. وعزز هذه الصورة بلغة اتسمت بالمشهدية والشعرية في آن... "في لحظة كالبارقة نزل ستار حديدي ثقيل ومخيف كالمقصلة على المدينة الهادئة، فحول ساكنتها إلى يوم الحشر المبكر أو المتأخر، لا أحد يدري" ص 27. وكما اكتست لغة السرد بشعرية اتسقت مع كثافة مشاعر الشخوص، وعززت في الوقت نفسه غلالة الحزن الشفيف التي غلفت النسيج، عمد الزاوي إلى استدعاء الشعر صراحة، ليزاوج بين أكثر من جنس أدبي في بنائه الروائي، ويزيد من جمالية السرد وعمق الأثر: "لا حياة في الشارع/ لا طير على غصن شجر/ لا حياة، لا زمن" ص 217.

إدهاش التنوع

تخلى الراوي عن صوت السرد لصالح بعض الشخوص الثانوية في النص، وذلك عبر مساحات حوارية ممتدة ومغايرة، تحولت خلالها قيادة السرد للأب مرة، ومرة أخرى لـ"مصطفى أوبختي"، وثالثة لـ"هاجر شريفي". ليحقق الكاتب عبر هذا التنوع من الأصوات مزيداً من الصدقية والموضوعية في آن. وبالمثل أتاح تنويعة زمنية عبر الارتدادات العكسية، التي تخللت النسق الأفقي للسرد. وفي زخم واقعية النسيج زج ببعض الفانتازيا عبر حضور "مهدي" واستمرار دوره في صناعة وتحريك الأحداث، على رغم موته: "أضفت معلقاً وأنا أحدق في ساقيه الصغيرتين: المقبرة بعيدة يا أخي، وأنت حين دفناك كنت مهشم الساقين لا يمكنك أن تقطع كل هذه المسافة بساقين مكسورتين وعينين مفقوءتين" ص 230.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وزاد هذا التنوع في التكنيك السردي من قدرة الكاتب على نقل صورة أكثر وضوحاً، لواقع فوضوي ومتوحش في زمن الاستقلال، تكشف عبرها تفشي النفاق الديني والسياسي، الذي بدا لدى "جانين غروطو"، مشرفة المكتبة التي لم تتورع من استغلال الطفل "حميميد" جنسياً. وبدا أيضاً في جزع إمام يعظ الناس بالصبر والتسليم! وفي إقدام مجموعة من الأصوليين المتطرفين على قتل "مهدي" بعد اتهامه بالمثلية، في حين أفتوا لأنفسهم أثناء وجودهم في أفغانستان باستغلال أجساد النساء تحت مسمى "جهاد النكاح"، وجواز إقامة علاقة مع أحد المجاهدين الرجال، للتخفيف من الضغط النفسي ومواصلة الجهاد! وكذا جواز تعاطي الحشيش!

وعمد الزاوي إلى رصد شيوع القبح والتصالح معه، والسماح له بالزحف على الشجر، ومعالم المدينة الجميلة، التي تركها المستعمر. وتطرق إلى القمع والمناخ الاستبدادي، الذي بلغ حد سجن أبي الراوي "عبدالله فاليتا" والتنكيل به، عقاباً له على تسميته ابنه باسم "حميميد"، تيمناً بلقب أحمد بن بله المخلوع من الحكم. واستمر في نكء جراح الواقع، فوطأ ديمقراطية زائفة لا تفرز ما يريده الناس، وتلوناً يغلب المصلحة على الحقيقة، وتطرفاً يلتهم اليائسين والمهزومين، ومجداً لا يدرك الشجعان إلا بعد أن يدركهم الموت، في حين يحترف الجبناء والمهرجون ألاعيب السياسة فيحصدون وحدهم غنائمها.

احتفاء بالموروث

احتفى الكاتب بالموروث الشعبي الجزائري، فاستدعى بعض الأكلات الشعبية، مثل البركوكس الحار، الذي يقدم للمرأة عقب الولادة، وطبق الكسكسي والخبز التقليدي والحلويات المحلية وزيت الزيتون المعصور يدوياً وطبخة الحريرة بالبهارات. واستدعى بعض العادات المتوارثة، مثل مناداة الجزائريين بعضهم بكلمة "سي"، واعتيادهم التداوي بزيت الزيتون مهما كانت العلة، وتطيرهم من "التوحيمة"، التي تظهر على الجلد، وارتيادهم الأسواق والحمامات الشعبية. واستدعى كذلك بعض المهن الشعبية، مثل صناعة القدور والجرار الفخارية. وتطرق إلى بعض الموروث الأسطوري، حول شيطان القيلولة وشيطان المرآة، كما استدعى الفلكلور الفني الجزائري والراي البدوي. وقد عكس الاحتفاء بالموروث وبروز بعض المفردات المحلية، سواء التي تتصل باللهجة أو تسميات وسمات المكان "الزنقة"، أو بعض الظواهر المحلية، مثل حملة التشريق، رغبة الزاوي في إبراز بعض الملامح الثقافية للمجتمع الجزائري، التي لم تنل منها عقود طويلة ومريرة من الاحتلال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة