ملخص
يكشف تقرير بريطاني المسكوت عنه في اجتماع القادة العرب عقب نكسة 1967
عقب الحرب الإسرائيلية - العربية ونكسة العرب عام 1967 بادر السودان باستضافة مؤتمر القمة العربية في الخرطوم التي عرفت بقمة اللاءات الثلاث (لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض)، إذ كانت العاصمة السودانية حينها تهدف إلى لم الشمل العربي والتنسيق والتخطيط من أجل "إزالة آثار العدوان الإسرائيلي"، كما ورد في بيان القمة العربية آنذاك.
وكان السودان في طليعة الدول العربية التي بادرت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا نتيجة اعتقاد العرب أن لندن كانت تقف إلى جانب إسرائيل في عدوانها على الأراضي العربية.
ويصف تقرير دبلوماسي بريطاني صدر في الثامن من سبتمبر (أيلول) 1967 عن قسم المصالح البريطانية بالسفارة الإيطالية لدى الخرطوم عقد مؤتمر القمة العربية في أعقاب الحرب مباشرة بـ"الفكرة التي استبشر فيها العرب خيراً، وأسهمت في رفع معنوياتهم، كما مهدت الطريق لعقد المؤتمر بعد كثير من التردد وعدم الثقة باجتماع لوزراء الخارجية العرب في الخرطوم خلال الأسبوع الأول من أغسطس (آب) 1967".
ويكشف التقرير عن بعض ما دار في أروقة القمة وما قبلها خلف الأبواب المغلقة، منها مبادرة إقامة دولة فلسطينية "منزوعة السلاح" التي تبناها الملك حسين بدعم سري من الرئيس المصري الراحل عبدالناصر وكيف تغيرت قناعات الأخير بعد الحرب، مبتعداً عن الشعارات الثورية، ومقترباً من خط الاعتدال العربي، الذي كان يقوده الملك فيصل بن عبدالعزيز، بحسب ما ذكرته الوثائق.
كما وصف التقرير البريطاني الرئيس اليمني عبدالله يحيى السلال، وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري ووزير خارجية سوريا إبراهيم ماخوس، بـ"الرجال الثلاثة غريبي الأطوار"، بعدما تداولت وسائل الإعلام حينها غرابة مواقفهم.
سوريا... الغائب الوحيد
حول المشاركة العربية في هذا المؤتمر يتحدث التقرير عن غياب اثنين من الملوك العرب، هما الملك حسن الثاني ملك المغرب، والملك إدريس ملك ليبيا، إذ أرسلا ممثلين عنهما، كما بعث الرئيس بورقيبة رئيس تونس ممثلاً أيضاً عنه.
وفي الجزائر هدد الرئيس بومدين بأن بلاده لن تشارك، لكنه أرسل في اللحظة الأخيرة وزير خارجيته بوتفليقة الذي أصبح رئيساً للجزائر فيما بعد، وعلى رغم أن وزير الخارجية السوري إبراهيم ماخوس، شارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية، ولم يغادر الخرطوم إلا بعد انعقاد المؤتمر، فإن دمشق غابت عن حضور القمة، فأصبحت هي الدولة الوحيدة الغائبة.
وفي إطار الجهود الإضافية للتوفيق بين المصالح السياسية والاقتصادية المتضاربة، عقد اجتماع لوزراء الاقتصاد والنفط في بغداد في الـ16 من أغسطس، وعقد اجتماع ثان لوزراء الخارجية في الخرطوم قبل انعقاد القمة نفسها مباشرة.
ولم يكن الاجتماع الاقتصادي حاسماً، ولا يمكن التهرب من عدم الاتساق بين الحظر المفروض على شحنات النفط إلى الغرب، والحاجة إلى مساعدة البلدان المتضررة. وكانت عملية إسدال الستار عن المؤتمر في الخرطوم إجراء شكلياً ومتسرعاً وضع فيه وزراء الخارجية جدول أعمال يهدف إلى عدم استبعاد أي شيء، وعدم إلزام أي شخص، وتمرير جميع القضايا الخلافية ببراعة.
دولة فلسطينية منزوعة السلاح... مبادرة أردنية
وفي الشأن الفلسطيني، تشير الوثيقة البريطانية إلى مبادرة الملك حسين بن طلال عام 1967 حول إقامة دولة فلسطينية "منزوعة السلاح" في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويصفها التقرير البريطاني بـ"الخطة الغريبة".
وتكررت الفكرة أخيراً من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وذكرت صحف عربية منذ أيام أن الموقف المصري (دولة فلسطينية منزوعة السلاح) لم يكن هو الإشارة الأولى من نوعها في هذا الشأن، إذ تناقلت تقارير فلسطينية وإسرائيلية قبل 5 أعوام أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبلغ أكاديميين إسرائيليين أنه "يوافق على دولة فلسطينية منزوعة السلاح"، لكن بحسب الوثيقة البريطانية فإن الفكرة "طرحت قبل أكثر من ستة عقود".
وعن تحركات الأردن من أجل تلك الفكرة تشرح الوثيقة، "كانت هناك جهود فردية ملحوظة خلال المرحلة التمهيدية، قام الملك حسين بجولة سريعة في عواصم الدول الأكثر اعتدالاً، ومن المحتمل أنه قد كسب دعم مضيفيه حول محنة الأردن اليائسة".
وحول الفكرة ذاتها تقول الوثيقة، "يشاع من عدد من المصادر أنه (الملك حسين بن طلال) حشد الدعم لخطة غريبة إلى حد ما لإقامة دولة فلسطينية منفصلة منزوعة السلاح تضم الضفة الغربية للأردن وقطاع غزة، حتى إن هناك شائعة بأنه حصل على دعم سري من عبدالناصر، لاقتراح مثل هذا المخطط".
كيف غيرت النكسة قناعات عبدالناصر؟
وتتطرق الوثيقة البريطانية السرية إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بعد الحرب، وكيف تغيرت قناعاته، بعدما اصطدم بالواقع العربي المرير، مما جعله يبتعد عن الشعارات الثورية، مقترباً من خط الاعتدال العربي، الذي كان يقوده الملك فيصل بن عبدالعزيز.
تقول الوثيقة، "أين سيضع ناصر ثقله؟ كان هذا هو السؤال. ومنذ اللحظة التي نهض فيها لإلقاء خطابه الرئيس الطويل في الجلسة المغلقة الأولى للمؤتمر، لم يكن بالإمكان إخفاء هذه الحقيقة بأنه تقبل حقائق الوضع، ومن ثم لم يكن بالإمكان العودة لما مضى"، مشيرة إلى أنه "يبدو أن معظم المناقشات التي جرت ووردت في القرارات والبيان النهائي للقمة أدى إلى انضمام عبدالناصر إلى المعتدلين، لإعطاء دعم كبير لهم، وتقليص حدة النقاش". وتضيف "مهما كان شعوره (عبدالناصر) تجاه إسرائيل أو تجاه الثورة في اليمن، لكن محنته الاقتصادية والعسكرية التي أجبرته على البحث عن حل سلمي ومحاولة إعادة بناء قوة بلاده المحطمة. ومع ذلك، فإن استعداد عبدالناصر لعقد صفقة مع المعتدلين لا يعني استعداداً من جانبه للدخول في أي شكل من أشكال المفاوضات المباشرة مع إسرائيل. إن الكراهية المريرة لإسرائيل، وكل ما تمثله لا تشوبها أية شائبة. ومن ناحية أخرى، فإن عودة سريعة للحرب أمر لا يمكن تصوره".
وحول التساؤل المطروح آنذاك: هل يمكن مواصلة الحرب؟ يجيب التقرير، "لاحظ ناصر أن البند الأول على جدول الأعمال يبدو أنه يدعو إلى استئناف الحرب، وقد استقبل بالصمت عندما ذهب ليقول إن مصر ليست في وضع يسمح لها بالقتال".
وتساءل الرئيس المصري، بعدما أكد أن بلاده غير قادة على المواجهة الآن، "ما الدولة الأخرى المستعدة لحمل السلاح؟" ليشير التقرير إلى أن "القضية الرئيسة التي تواجه المؤتمر هي ما إذا كان يمكن مواصلة الحرب بشكل أكثر فاعلية من خلال فرض عقوبات اقتصادية على الغرب، أو من طريق حشد وتجميع موارد العالم العربي".
تكتيكات دبلوماسية
وتضيف الوثيقة، "في وقت يظل فيه الإسرائيليون متحصنين على الضفة الشرقية، لا يمكن أن يكون هناك سوى قرار واحد اتخذ بوضوح، حيث دعا المؤتمر إلى مواصلة العمل على المستوى الدولي، وهذا دليل واضح على اتخاذ قرار باللجوء إلى التكتيكات الدبلوماسية".
وترجح الوثيقة البريطانية أن "الاستنتاج الأكثر ترجيحاً هو أن عبدالناصر دعا إلى مواصلة حواره مع الروس وتيتو، وأنه جرى الاتفاق بشكل عام على أن مجلس الأمن والجمعية العامة سيكونان ساحة حرب دبلوماسية مقبلة".
وفي شأن النفط بوصفه سلاحاً في الحروب تقول الوثقية، "ربما جرى الاتفاق على أن استئناف إمدادات النفط إلى جانب النبرة غير العدوانية نسبياً للبيان فتحا الباب أمام علاقات أفضل مع الغرب على أمل إقناعهم بممارسة الضغط على إسرائيل. ولا يبدو أن البيان ذكر ديغول، على رغم كل جهوده".
غريبو الأطوار الثلاثة
وخلف أبواب شبه موصدة، وفي ظل عدم تسريب مزيد من الأخبار، أجريت فعاليات مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، إذ انشغل الرأي العام في تلك الفترة بتصرفات الرئيس اليمني عبدالله يحيى السلال، وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري، ووزير خارجية سوريا إبراهيم ماخوس، إذ يصف التقرير البريطاني الرجال الثلاثة بـ"غريبي الأطوار"، الذين تداولت وسائل الإعلام حينها غرابة مواقفهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعد عبدالله يحيى السلال أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية (1962 – 1967). أما الزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري، وهو محامٍ فلسطيني لبناني المولد، فجرى تكليفه من قبل الزعماء العرب في مؤتمر القمة العربية التي انعقدت في يناير (كانون الثاني) 1964 في القاهرة، بإجراء اتصالات مع أبناء الشعب الفلسطيني وكتابة مشروع الميثاق القومي والنظام الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبعد ثلاث سنوات شارك الشقيري في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أسهم في إنشائها ممثلاً عن الشعب العربي - الفلسطيني.
أما إبراهيم ماخوس فكان يشغل منصب وزير الخارجية في سوريا، وكان متطرفاً في أطروحاته السياسية، وقد يعود هذا التطرف إلى كونة ماركسياً لينينياً، إذ يصنف العالم العربي إلى تقدميين ورجعيين، وينظر إلى القضايا السورية على أنها صراعات طبقية.
وعن موقف السلال والشقيري تقول الوثيقة، "ندد الأول بالاتفاق على الفور، وشهدت العاصمة الخرطوم تظاهرات عنيفة مناهضة لعبدالناصر من قبل اليمنيين في اليوم التالي، كما انسحب الشقيري قبل نهاية القمة، بعدما انتقد بشدة القرارات المتفق عليها، ولا يبدو أن أحداً عارضه".
وفي النهاية، ووفق التقرير، "تعرضت جامعة الدول العربية لانتقادات شديدة من قبل القادة السودانيين لفشلها في لعب دور إيجابي، وعدم تمثيلها في المؤتمر الأول، وأصبحت وجهة النظر العامة مفادها أن الجامعة تحتاج إلى إصلاح جذري".