"نهاية العولمة".. عبارة تكررت كثيراً منذ العام الماضي في التقارير الإعلامية وكتابات المحللين والاقتصاديين بصورة لافتة، صحيح أن العبارة ليست جديدة، وبدأت تظهر منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009، إلا أن وتيرة ذكرها والحديث عنها زادت بعد أزمة وباء كورونا، ليس هذا فحسب، بل شهد هذا العام صدور أكثر من كتاب عن الموضوع.
لكن في المقابل وعملياً يصعب القول، إن مسار العولمة توقف بعد عقود من ارتفاع المنحنى وزيادة الاعتماد المتبادل وتشابك سلاسل التوريد والإمدادات.
ومنذ بداية هذا القرن، صمدت العولمة في وجه الأزمة المالية العالمية وصعود إدارات شعبوية للحكم في بلدان الاقتصادات الرئيسة أهمها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب و"بريكست" وأزمة وباء كورونا.
مع ذلك، فالتحديات التي تواجهها العولمة حالياً، زادت وتيرتها، هذا العام 2023، لتصبح أكثر خطورة كما يرى جون مانرز بيل في كتابه "موت العولمة"، إذ يعتبر المؤلف أن أهم تطور في تعديل مسيرة منحنى العولمة هو قانون خفض التضخم الذي اعتمدته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
وأضاف "خطوة تشريعية حاسمة وفي الوقت نفسه سياسة حمائية ستؤثر في كل شركاء أميركا التجاريين ربما باستثناء المكسيك"، لذا يرى بيل أنه تشريع مضاد للعولمة.
الانعزالية والحمائية
يستهدف القانون الأميركي لخفض التضخم إعادة الشركات الأميركية الكبرى التي "عولمت" إنتاجها بمراكز في الخارج لتتركز في الولايات المتحدة على أمل إبقاء استثماراتها محلية وتوفير فرص عمل أكثر للأميركيين. ولا يهم الإدارة الأميركية كثيراً تأثير ذلك في تجارة الولايات المتحدة مع الشركاء ولا حتى على التجارة العالمية.
وفي سياق الصراع المستمر بين أميركا والصين، حتى منذ فترة رئاسة ترمب، يرى البعض أن المستهدف الأول بسياسات الانعزالية والحمائية الأميركية هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الذي يعتبر أكبر مستفيد من نمو واتساع نطاق العولمة.
لكن الشريك الأهم للولايات المتحدة عبر الأطلسي متضرر أيضاً من تلك السياسات الأميركية المناهضة للعولمة، ومع أن الاتحاد الأوروبي يحاول منذ بداية العام صياغة سياسات دعم للشركات والأعمال للحد من تأثير قانون خفض التضخم في الاقتصادات الأوروبية، إلا أن ذلك ليس كافياً، وتستمر المفاوضات بين بروكسل وواشنطن حتى الآن في شأن الوصول إلى سبل تقليل الضرر على أوروبا.
من جانبها طالبت المدير العام لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونغو لويالا في مؤتمر على هامش معرض الصين الدولي لسلاسل الإمدادات، في الأسبوع الأخير من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، دول العالم بألا "تتخلى عن العولمة".
وقالت "إذا استمرت الدول في فرض السياسات الحمائية فإنها تتخلى عن المكاسب التي تحققت على صعيد الإنتاجية، والتي تصحبها مكاسب التخصص والتجارة على نطاق واسع"، مضيفة أن "ذلك سيؤدي إلى زيادة تركز المعروض مما يجعل جانب العرض في الاقتصاد العالمي أقل قدرة على الصمود".
ليست منظمة التجارة العالمية وحدها التي تشارك الصين القلق من السياسات الحمائية الأميركية وتأثيرها في العولمة، بل إن صندوق النقد الدولي حذر هذا العام من أن الانعزال التام عن الصين مثلاً سيؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة سبعة في المئة، أما منظمة التجارة العالمية، فترى أن السياسات الحمائية للتكتلات التجارية تعني خسارة بنسبة خمسة في المئة في الأقل.
سلاسل الإمداد
ربما كانت الصدمة الأكبر للعولمة ما حدث من أزمة وباء كورونا حين أدت الإغلاقات وتعطل التجارة والشحن إلى خلل هائل في سلاسل الإمدادات لتركز معظمها في الصين.
ولم ينتظر العالم حتى تعلن الصين إلغاء كل قيود الاقتصاد وباء كورونا والتخلي عن سياسة "صفر كوفيد" نهاية العام الماضي، بل بدأت دول عدة، وفي مقدمها الولايات المتحدة وضع السياسات واتخاذ الإجراءات لإعادة مراكز الإنتاج لشركاتها الكبرى من الصين إلى بلادها.
وأيضاً تشجيع تطوير سلاسل توريد قريبة من المركز المحلي لتفادي أي اختلالات نتيجة أزمات مفاجئة مثل ما حدث مع وباء كورونا.
لذا نجد أن الهدف الأميركي المعلن من قانون خفض التضخم الذي رصد له نحو 370 مليار دولار الذي يعطي الشركات الأميركية ميزة تنافسية هو "دعم الابتكار وانسياب سلاسل التوريد". وسبق القانون، في أغسطس (آب) 2022 أن أقر الكونغرس أيضاً قانون الرقائق والعلوم، الذي أصبح يعرف إعلامياً بقانون الرقائق، ويشمل القانون دعماً حكومياً لصناعات أشباه الموصلات الأميركية بهدف مواجهة مشكلات سلاسل التوريد من الصين، وفرضت الولايات المتحدة قيوداً مشددة على التصدير تحرم صناعة اشباه الموصلات الصينية من استيراد أي مكونات أو أدوات أميركية، وهو إجراء آخر يرى الاتحاد الأوروبي أنه يمثل حمائية أميركية تضر بأوروبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا لم يكن مستغرباً أن تطغى تحديات العولمة على أو اجتماع لمنتدى دافوس في مقره بسويسرا بعد تعطله موقتاً خلال أزمة وباء كورونا، ووقتها قال الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية ورئيس "غولدمان ساكس إنترناشيونال" حالياً خوسيه مانويل باروسو، في مقابلة مع صحيفة الـ"فايننشال تايمز"، "تواجه العولمة تهديدات من زيادة التوجهات القومية والحمائية والشوفينية إذا جاز التعبير، وأحياناً حتى من رهاب الأجانب (العنصرية) وليس واضحاً بالنسبة إلى حتى الآن أي توجه سيفوز في النهاية".
وألقى باروسو اللوم في التخلي عن العولمة على عدم وجود روح التعاون القوية بين الدول الأعضاء في مجموعة الـ20، بخاصة إذا قورنت بما كانت عليه في مواجهة الأزمة المالية العالمية في 2008، مضيفاً وأضاف "زاد التوتر بين الولايات المتحدة والصين بسبب وباء كورونا، والآن نجد الغزو الروسي لأوكرانيا كل هذه التطورات تزيد القلق من عالم أكثر انفصالاً، وليس تكاملاً". فالشركات برأيه تتجه الآن نحو التقوقع داخلياً وإعادة التوطين ونقل أعمالها إلى أقاليمها، مما يعني عكس اتجاه العولمة الذي كان سائداً من قبل.
عولمة مصغرة
ليس التشاؤم في شأن نهاية العولمة سائداً كما يبدو، فهناك تشابكات ترسخت منذ الربع الأخير من القرن الماضي يصعب الفكاك منها، وإذا كان مسار العولمة يتعرض للضغط منذ الأزمة المالية العالمية إلا أنه يواجه الآن تحديات تتعلق بالنظام الاقتصادي العالمي ككل، هذا ما يخلص إليه ثلاثة من كبار الاقتصاديين والخبراء في العالم في كتاب بعنوان "الأزمة الدائمة خطة لإصلاح عالم مفتت"، شارك في تأليفه رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردون براون ومحمد العريان إضافة إلى الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل مايكل سبنس.
على عكس كثير من الكتب التي تستغرق في تحليل أسباب الوضع الذي تتناوله، يقدم الثلاثة حلولاً للنظام العالمي، طبعاً بعد انتقاد نموذج النمو الاقتصادي الحالي الذي أدى إلى اتساع فجوة عدم المساواة وخفض الإنتاجية والاعتماد المفرط على السياسة النقدية.
وفي رأيهم أنه في عالم متكامل اقتصادياً ومترابط اجتماعياً ومتبادل الاعتماد جغرافيا فإن عدم التعاون يعد وصفة مثالية للكارثة، ويتركز الحل الذي يطرحه الكتاب في ما وصفه "عولمة مصغرة بإدارة جيدة".
تأخذ العولمة المصغرة في الاعتبار التعامل مع عالم متعدد الأقطاب فلم نعد في عالم أحادي القطب، وهناك انشقاقات على الفلسفة النيوليبرالية وهناك شعبيون وقوميون جدد، والعولمة التقليدية تتفكك، ونحتاج إلى فلسفة إدارة اقتصاد تسمح بإعادة هيكلة لا مركزية لمختلف الضغوط والتحديات".
أي ببساطة ضرورة تجاوز الإدارة المركزية لعالم "متعولم" على طريقة مجموعة الدول السبع وغيرها وإصلاح تام للمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة وتفعيل دورها وتوسيع مجموعة الـ20.