اصطحبت آلاف العائلات أطفالها خلال هذا الصيف للاستمتاع بوسائل الترفيه المجانية في المنطقة الرائعة المحاذية للقناة المائية خلف محطة كينغز كروس للقطارات في وسط مدينة لندن.
أصبح هذا الجزء من المدينة من أنجح مشاريع التجديد الحضري في السنوات الأخيرة بعدما تحوّلت ساحة عربات القطارات، المعدّة سابقاً لنقل السلع ومكاتب سكّة الحديد، خلف محطتي سانت بانكراس وكينغز كروس للقطارات، إلى فضاء عام يضجّ بالحركة والحيوية. وتضم المنطقة حالياً نوافير تتراقص المياه المنبثقة منها ومقاعد في الهواء الطلق وعشرات المحلات والمطاعم بالإضافة إلى مكاتب تابعة لجامعة "سنترال سانت مارتينز" وشركات إعلامية مثل مجموعة الغارديان الإعلامية وغوغل.
تعود ملكية كينغز كروس إلى شركة خاصة شأنها كشأن برودغايت وهو أيضاً فضاء حيويّ عام في وسط مدينة لندن. وقد وضعت شركة التطوير العقاري "آرجنت" التي عملت على مشروع كينغز كروس، نظام مراقبة مكثّف يرصد تحركات العامّة. وتصوّر مئات الكاميرات المنتشرة في أرجاء الموقع البالغة مساحته 67 فدّان إنكليزي الزوار باستخدام تقنيات متطورة للتعرف على الوجوه. بالله عليكم، ماهو مبرّر هذا العمل؟ طالبت مفوّضة لجنة المعلومات إليزابيث دنهام بفتح تحقيق فوري في الأمر.
فتجميع المعلومات حول الملايين من أفراد المجتمع دون علمهم أمر يثير الريبة ولا سيما حين تصبح هذه المعلومات بحوزة شركة خاصة. أصبحت التكنولوجيا الحديثة مخيفة بما فيه الكفاية مع محاولات تطبيق المساعد الشخصي "سيري" قراءة أفكارنا وتوصياته لنا بزيارة مطاعم لا نرغب بارتيادها وشراء أحذية لن نرتديها أبداً ومحاولاته الفاشلة عادة للتنبؤ باسم الصديق الذي نحاول الاتصال به.
تقضي هواتفنا وحواسيبنا الكثير من الوقت في محاولة "مساعدتنا" أو الأصح، مراقبتنا. وهي تتنبأ بالمواقع التي نرغب بتصفحها والكلمات التي نسعى لكتابتها في رسائلنا وستتدخل عمّا قريب بأفكارنا. و"تقترح" هذه التطبيقات علينا إقامة صداقات ومواعيد غرامية مع أشخاص من اختيارها.
كل من يكون ساذجاً إلى درجة الاعتماد على برنامج أليكسا من أمازون أصبح يعلم الآن أنّ محادثاته مع التطبيق ليست خاصة بل تخضع للمراقبة عن بعد. إذ تلقّى بعض الأشخاص أجراً مقابل الاستماع لتفاعلات المستخدمين مع برنامج غوغل المساعد ومتابعة أحاديثهم عبر برنامج سكايب التابع لمايكروسوفت، حتى الجنسية منها، دون علمهم. كما تنصّت فيسبوك من جهته على الاتصالات الصوتية عبر برنامج ميسنجر فوظّف مقاولين خاصّين للاستماع إلى المحادثات ونسخها، وبرّر عمله بأنه إحدى وسائل "تحسين الخدمة"، حسبما زعم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول شركات فيسبوك وآبل وغوغل الآن إنها "أوقفت مؤقتاً" المراجعة البشرية للاتصالات فيما تفيد أمازون إنها ما زالت تراقب البيانات الصوتية لكنها تتيح للمستخدمين خيار إيقاف هذه الخدمة.
والسؤال المقلق هو ما هو مصير كل هذه المعلومات؟ إذا افتضح أمر البرامج الرقمية المساعدة على أنها آلية للتنصت علينا، فاستخدام تقنية التعرف إلى الوجوه بشكل كبير وموسّع بينما نقوم بنشاطاتنا اليومية الاعتيادية مقلق أكثر من ذلك بعد.
يعمل أصحاب الأراضي الخاصة على إنشاء بنوك للمعلومات التي يمكن أن يسلّموها إلى الشرطة أو إلى أطراف ثالثة دون موافقتنا. والفرق شاسع بين هذا الفعل من جهة وبين المرور بالسيارة بجانب كاميرات موضوعة أمامنا بوضوح على الطريق العام، نعلم أنها موجودة لمراقبة سرعة السيارات من جهة أخرى. فالسلامة المروية هي مبرّر هذا النوع من المراقبة.
أتساءل إن كانت كافة زياراتي إلى كينغز كروس الأسبوع الماضي قد سُجلت ووضعت في ملف رئيسي؟ لقد ركبت قطارات وأوقفت سيارات أجرة وتنقّلت بواسطة قطار الأنفاق. كما اشتريت قميص تي شيرت، وصحفاً وابتعت تذاكر، وانتظرت قطاراً تأخر وصوله، كما شربت قنينة ليموناضة. أقدمت على هذه الأفعال في أوقات مختلفة من أيام مختلفة، فهل هي مثيرة للشك؟ ربما أماطل وأزور الموقع بانتظام بهدف التخطيط لعمل إرهابي ضخم، وربما أنا مواطنة عادية من لندن تتنقل في أوقات غير منتظمة.
تعتقد منظمة "بيغ بروذر ووتش"، وهي مجموعة ترصد الرقابة الحكومية، إنه يجدر بنا القلق لأنّ أحد الاستطلاعات المستقلة كشف عن براءة 80% من الأشخاص الذين "تشير" إليهم تقنيات التعرف إلى الوجه التابعة لشرطة العاصمة، على أنهم مثيرون للشكوك.
تجري الشرطة تجارب باستخدام هذه التقنية منذ عام 2016، في ساحة ليستر ومركز ويستفيلد للتسوق في ستراتفورد وفي شارع وايتهول وخلال التجمعات الكبيرة مثل المسيرات الاحتجاجية. وبحسب اعتراف أحد كبار الشرطيين، ثمة حاجة لاستثمار مبالغ ضخمة في نظم المعلوماتية التي تملكها الشرطة من أجل الحصول على نتائج أدقّ. والنظام الحالي غير موثوق البتة في التعرف على أصحاب البشرة السمراء، لذا يمكن اتهامه بالتحيّز العنصري. لا تستطيع الشرطة أن تُوقفنا وتفتّشنا في غياب "مبرر معقول للشك"، ولكن ماذا لو كانت مصادرها غير موثوقة؟
تزيد أعداد المشاريع الكبيرة التي تحرسها شركات الأمن الخاصة بدلاً من الشرطة وتصبح كافة المعلومات بالتالي في حوزة أصحاب هذه المواقع. تمتلك شركة بريتيش لاند مركز تسوق ميدوهول في مدينة شيفيلد وقد سمحت للشرطة في العام 2018 باستخدام تقنية التعرف على الوجوه لتسجيل بيانات مليوني شخص زار المركز. وأوقفت التجارب في مركز ترافورد في مدينة مانشستر في العام 2018 بعد الشكاوى التي وردت عنها إلى مفوضة كاميرات المراقبة.
أصبحت المتاحف تصوّرنا خلسة أيضاً، مثل متحف العالم (وورلد ميوزيم) في مدينة ليفربول الذي صوّر زوار معرضه حول الكنوز الصينية ويخطط لإجراء تجارب أخرى في مواقع مختلفة. كما يبحث موقع كاناري وورف التجاري في لندن ، وهو أيضاً مملوك لشركة بريتيش لاند، في استخدام تقنية التعرف على الوجوه.
لا تعتبر هذه التقنية انتهاكاً للشخصية في بعض الأماكن، ففي الصين مثلاً، ما على زوّار مطعم "كي أف سي" سوى الابتسام لعدسة الكاميرا كي يسجّل المطعم طلباتهم (وفقاً لخياراتهم خلال زيارات سابقة) ويسحب ثمنها من بطاقة ائتمانهم. لكن الشرطة الصينية تستخدم التقنية ذاتها لمراقبة المظاهرات وأي نشاط "يمسّ" بالدولة حسب اعتقادها.
هل من المسموح أن تلتقط صورك سراً أثناء تناولك الطعام أو الشراب خارجاً؟ يرغب نصف مالكي المطاعم تقريباً باستعمال تقنية التعرف على الوجوه "للمساعدة في توفير الأمن"، أي منع الزوار من المغادرة دون دفع الفاتورة. تتبنى اثنتان من بين الأسواق التجارية الأربعة الأكبر، تقنية التعرف على الوجوه في مسارات الدفع الذاتي. وتلجأ بعض البارات في لندن إلى تجربة هذه التقنية لمنع مرتاديها من تخطي صف الانتظار. تدّعي شركة "داتاسبارك" التي تركّب هذه الأنظمة أنّ البيانات تمحى بانتظام. لكن كيف يمكننا التأكد من ذلك؟
يزعم تطبيق ريكوغنيشون الذي طورته شركة أمازون أنه يتعرّف على شعور "الخوف" كما الغضب والقرف والحزن. لو كان هذا المستقبل الذي ينتظرنا، ربما من الأفضل لكم إخفاء وجوهكم وراء أقنعة سوداء أو أقنعة وجوه مبتسمة عندما تتوجهون للتسوق.
© The Independent