احتفلت الأوساط الثقافية في أميركا أخيراً، بعيد الميلاد المئوي للورنس فرلنغيتي، الشاعر والرسام والروائي والناشر (المولود في نيويورك في 24 مارس-آذار عام 1919 من أصول إيطالية - فرنسية) ليكون أكبر شاعر معمّر في هذا القرن. وبينما كان هذا الشاعر المشاغب يسير ببطء إلى شرفة منزله ليلوِّح بيد مرتعشة للمحتشدين لتحيته في شارع مكتبة أضواء المدينة، كانت تقام فعاليات ثقافية، ومعارض فنية تحتفي بعرض لوحاته وأفلام وثائقية عن حياته، فيما أحيا عدد من الشعراء قراءات من شعره في سان فرانسيسكو، المدينة التي كان أحد أبرز صنَّاع نهضتها الثقافية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والتي أُطلق اسمه على أحد شوارعها وجرى منذ ذلك الحين تغيير أسماء 13 شارعاً في المدينة إلى أسماء أدباء (مارك توين، بريت هارت، جاك لندن، ويليام سارويان، جاك كيرواك إلخ) كما من نال لقب "شاعر سان فرانسيسكو"، اللقب الذي أصبح تقليداً ثقافياً لتكريم الشعراء في هذه المدينة المعروفة بالزلازل الجيولوجية والثقافية والفكرية، والمعقل الحقيقي "لجيل البِيتْ" الذي غيَّرَ الشعر الأميركي، بتمرُّده وانشقاقه، ومهَّد "للحركة الهيبية" وسواها من الحركات المناهضة للحروب.
لكن اللافت في كل مشهد الاحتفالات هذا، الاحتفاء بصدور كتابه الجديد "الولد الصغير" الذي يؤكد من خلاله أنه ما زال طفلاً يواصل الأحلام والكتابة، طفلاً معمراً أكثر من كونه شيخاً هرماً. فما زال يتمتع بشغب الطفل، وجرأته العفوية على تذكير الامبراطور بأنه عارٍ. و"الولد الصغير"، كتاب يصعب تصنيفه، فهو مزيج كتابي يجمع بين السيرة الذاتية والرواية والخيال المفتوح بتدفق حر لتيار الوعي، في رحلة داخل متاهة من الذاكرة عمرها مئة عام، ولعله بمثابة البيان الختامي لحياة صاخبة، دوَّن أجزاء مهمة منها في قصيدته الطويلة "سيرة ذاتية"، فيكتب عن تفاصيل حياته التي تجمع بين الواقعي والفانتازي، فعن سيرته طفلاً: "عانيتُ طُفولةً تَعِيسةً. ورأيتُ ليندبيرغ يهبطُ بطائرته"، فمراهقاً: "أصبحتُ صبيَّ كشَّافة في الضَّواحي"، فمقاتلاً في الحرب العالمية الثانية: "نزلتُ في النورماندي في قاربٍ مقلوبٍ". هذه المقاربة التقريرية، بالوضوح الذي يبدو مغرقاً في المباشرة، تتجاور، وأحياناً تتداخل، مع أجواء سبرة أخرى خيالية ومتضمنة في زمن ومكانين آخرين "سمعتُ صوتَ الحَفْلِ الصاخبِ ليلاً/ وهِمتُ وحيداً كَحَشْد/ سافرتُ بصحبةَ رجالٍ مَجْهُولينَ/ كنتُ في آسيا/ مَعَ نوحٍ في السفينةِ /وكنتُ في الهِنْد/ عندما شيَّدتْ رُوما/ وكنتُ في الْمَهْدِ/ صُحبةِ حمارٍ في الْمَعْلف" أو تخلق مزيجاً بين عالمين "لقد نمتُ في مئةِ جزيرةٍ/ حيث كانتِ الكتبُ أشجاراً".
المبدع المتعدد
فرلنغيتي مبدعٌ متعدد وملوَّنٌ، فهو شاعر ورسام وصحافي وروائي، وكل هذا التعدد والتنوع ينصهر في خطاب يعبِّر عن هم واحد وأساسي لتلك الروح الإنسانية المتمرِّدة لهذا "الرجل الشجاع والإنسان الشجاع" كما وصفه صديقه بوب ديلان، إذ تدور أجواء روايته "الحبّ في أيام الغضب" على خلفية أحداث باريس 1968، خلال الثورة الطلابية التي وقعت حينها وجمعت بين المثقفين والفنانين والعمَّال في قضية مشتركة للمرَّة الأولى منذ الثورة الفرنسية.
كان يمكن لفرلنغيتي أن يصبحَ زعيم مافيا! نظراً إلى أصوله الإيطالية، وشخصية والده التي تذكّر بشخصية العرَّاب، وكونه محارباً قديماً، لكن المحارب القديم، الذي تحوَّل إلى معترضٍ ضميرياً على الحروب، أصبح زعيماً من نوع آخر وعرّاباً للشعراء المنشقِّين والمتمرِّدين على نمطِ الحياةِ الأميركية ذكرى و"روبن هود" ثقافياً للمتسكِّعين في الشوارع "بحثاً عن لسعة غاضبة"، كما وصفهم غينسبيرغ في قصيدته الشهيرة "عواء".
عندما وصل فيرلينغيتي إلى الساحل الغربي عام 1950، كانت هناك إرهاصات أوّلية لثورة ثقافية أصبحت تُعرف لاحقاً باسم "نهضة سان فرانسيسكو"، حيث التقى بالشاعر كينيث ريكسروث، فتأثر بمفاهيمه في الفلسفة الأناركية، وبعد سنوات كان من بين الحاضرين في "غاليري الستَّة" عندما قرأ ألين غينسبرغ قصيدته الطويلة الشهيرة "عواء" وبعدها أرسل له برقيةً يقول فيها "أحييكَ وأنت تبدأ سيرة عظيمة" وهي العبارة التي كتبها إمرسون إلى والت ويتمان بعد استلامه نسخة من ديوان "أوراق العشب"، لكنه أضاف إليه سطراً قال فيه "متى أحصل على المخطوطة؟" ومنذ ذلك الوقت، أصبح القطب الشعري في هذه المدينة الساحلية التي صار الشعراء يحجُّون إليها من شتى أنحاء الولايات الأمريكية.
وعلى الرغم من ارتباط اسمه بجيل "البيت"، إلاّ أنّه كثيراً ما ينفي انخراطه في نهجهم السلوكي وارتباطه الفني بشعر هذه المجموعة، إذا يقول "عندما وصلت إلى سان فرانسيسكو كنت أرتدي قبعة. فإن كان ثمة وصف يلائمني فهو آخر البوهيميين، أكثر من وصفي بأني أول شعراء جيل البيت" ويؤكد أن شعره مختلف فنياً عن شعرهم ويفضّل عليه مصطلح "الشعر المفتوح على وسعه"، الذي سمعه من بابلو نيرودا في وصفه لما قرأه من شعره. لكنّ نفيه هذا وإن كان ينطوي على قدر من الموضوعية، لا يلغي صلته الوثيقة بتلك التجربة، فإضافة إلى نبرة الاحتجاج والرفض لنمط الحياة الأميركية الواضحة في شعره، ونزعته اليسارية واهتمامه بالثقافات الآسيوية القديمة، وخرق المحرمات وهو ما يتميز به شعر "جيل البِيتْ"، فهو العرَّاب الحقيقي لغالبية كتَّاب ذلك الجيل، إذ أتاح من خلال مكتبة "أضواء المدينة" التي أسسها عام 1953 مكاناً لتجمع المواهب الخصبة في حقبة النهضة الأدبية في سان فرانسيسكو، كما خصّص سلسلة "شعراء الجيب" لأعمال كتاب جيل البيت أمثال ألن غيسبيرغ وغريغوري كورسو والأعمال الطليعية المبكرة لبوب كوفمان و"الوجبة العارية" لويليام بوروز، وهذه الأعمال عموماً غيرت الأدب الأميركي، بل غيَّرتْ الحياة الأميركية بشكل عام.
صور من عالم غابر
تُظهر بواكيره الشعرية تأثراً في شعر إليوت وباوند، ما يمكن تلمُّسه في ديوانَيْه الأول "صور من عالم غابر-1955" والثاني "كوني جزيرة العقل – 1958" الذي لاقى رواجاً لم يسبقه إليه أي ديوان لشاعر، إذ باع أكثر من مليون نسخة وطُبع أربعين طبعة حتى الآن وتُرجم إلى عشر لغات ولم يفقد بريقه الأدبي طيلة هذه العقود. وكذلك، يمكن تلمُّس تأثيرات أخرى واضحة للشعر الأوروبي الذي يرى فيه مدرسته الشعرية أكثر من الشعر الأميركي، بخاصة الشعر الفرنسي، متمثلاً في شعر جاك بريفير الذي ترجمه للإنكليزية، في اعتماده على قصر الجملة والإيجاز المكثف للعبارة واللعب بالكلمات من خلال المعنى المزدوج لخلق السخرية، وكذلك انشغاله بدرجة كبيرة بالأدب الإيطالي، إذ ترجم مختارات من شعر بازوليني الذي يرى أنه أهم شعراء القرن العشرين.
شعره يرتكز على قوة المفارقة في "اللهجة"، لا على كيمياء "اللغة" وهو يخلق بذلك الصدمة عن طريق الفكاهة، وليس الدهشة عن طريق الغرابة. فشعره كما يصفه فرانسيس كوبولا "يدفعك إلى الضحك، وسرعان ما يصدمك بالحقيقة" ويجمع في أسلوبه بين طرق شتى، فقصائده تجريبية من الناحية الفنية، وغالباً ما يتخلى عن تقنيات الكتابة الشعرية المعهودة مثل الفواصل والمقاطع، كما يوزّعها بصرياً على الصفحة بطرق غير مألوفة. لكنّ شعره ليس نخبوياً خالصاً، فهو يمثل تجسيداً صريحاً للشاعر بوصفه بطلاً شعبياً معاصراً منفصلاً عن العزلة ومنخرطاً في الواقع، ويسعى إلى جعل الشعر فناً جذاباً، لذا حظي شعره باهتمام لا يُستهان من جانب الشباب الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية نتيجة سباق التسلح وسياسة الحرب الباردة. وإضافةً إلى اجتذاب شعره للقراء الشباب، فإنه يعكس مدى تأثير العبارات الاصطلاحية والحياة اليومية وثقافة الجاز في الشعر الحديث، وقصائده تتسلَّل بيسر إلى عقل القارئ بلمسة خفيفة، لكن ذات بصمة قوية في الذاكرة، فتولّد في وعيه الرغبة في التغيير والاحتجاج.
على الرغم من أن بصره شحَّ، ولم يعد جسده يعينه على التجوال، بل حتى على الحركة اليومية، إلاّ أنّ ذهن هذا الشاعر المتمرِّد (الذي ستصدر دار التكوين مختارات مترجمة من شعره خلال معرض دمشق الشهر القادم)، ما زال يقظاً، بل حيوياً ومتقداً، ويواصل حلمه بالثورة، على الرغم من أنه يقول "المشكلة أن أميركا ليست مهيأة للثورة"، لكنه ما زال ينتظر "انبعاث المعجزة"، كما يقول في قصيدته الشهيرة "إني أنتظر".