مشاهدة عرض "فصل" لنيڤين كلاس تشكل تحدياً فعلياً لمن لم يسبق له مقاربة مثل هذا النوع من الفنون، فهو عرض يقوم في أساسه على علامات التشكيل، أي التحريك اللغوي في اللغة العربية. ويتخذ منها دعامته وأساس فكرته ويشتمل على مسعى تجريبي ونافذة واسعة للارتجال، ويختلف هذا العرض عن عروض سابقة قدمتها كلاس من ناحية الترجمة الحركية وصيغتها الثابتة.
مُشاهد عروض الرقص المعهودة يرى أمامه راقصة في المعنى الحرفي للكلمة تتمايل على الموسيقى أو معها، أما كلاس فتتحرك على أساس حركات اللغة التي تقدمها الأغاني المشغلة في الخلفية والتي هي مرجعيتها في العرض.
وتخلق كلاس في سعيها إلى تمكين الأداء أبجدية جديدة للرقص، أبجدية قوامها حركات اللغة وتفاعلاتها، وهذه اللغة التي لا تحتمل اندماجاً ثانياً للغة أخرى معها تتحول في الأداء الحركي إلى أبجدية موازية ليست متحجرة بل أكثر رحابة. وفي معنى ما فهذا التبدل هو إسهام في تحويل اللغة وتشعباتها إلى لغة راقصة يستطيع أن يفهمها من يراها ويتفاعل معها، من خلال تمايلات جسدية خالية من التعري، وسكب شعوري حاضر في مختلف مفاصل العرض ومنعرجاته. الرجفة الملازمة ليديها والدمعة والنفس العميق والالتفاف بين كل فصل وكأنها حصان يلتقط أنفاسه بين سباق وآخر، ولا يمكن أن نغفل عن الحضور الأنثوي في كامل المشهدية على رغم أن المؤدية آثرت أن ترتدي ملابس رياضية بعيداً من الزينة، وبدت المشاهد والمقاطع المتتالية خالية من الزينة أيضاً، يضاف إليها الموسيقى التي كانت تقوم بتشغيلها بطريقة يدوية.
التشريق والتغريب
تنطلق نيفين كلاس في تماوجاتها الراقصة من رقص أشبه بالرقص الآلي الغربي robotique لتخترع نوعاً من التشريق للرقص الروبوتي، وكأنها تحارب الجاذبية بهذه الحركات المنتفضة. تمشي لثوان معدودة ثم تتوقف، هكذا تغدو الحركات والرقصات التابعة لها بمثابة لمسة أو روح أو بصمة تضاف إلى الرقص الروبوتي. الفتحة للتسليم والانفتاح والعلانية، أما الضمة فللضم والانعتاق داخل بوتقة، والكسرة تحيل للتقهقر والألم، أما السكون فقرينه الكتمان والتواري.
وعلى رغم من المعاني السلبية للحركات إلا أنها أعطت حياة وكأننا نحن واللغة في سياق واحد، وما يلفت أيضاً هو الحزن الذي يطلع من خلفية الحركات والذي يخيم على اللغة المقدمة. ارتجاف واضح تتماسك كلاس نفسها لمنعه من الظهور، وهو شعور موجود بلا محاولة، والحركات على تنوعها وتشعبها فيها شجن يعكس هواجس تميل إلى الحزن. وتبتعد نيفين في "فصل" عن كل شيء جمالي وأنيق لنبصرها مع الموسيقى البربرية برفقة حكاياتها والفواصل التي تتخللها لتصل إلى حال الانصهار الكلي، ولو شئنا الإنسحاق. تزحف على الأرض وكأنها قطعت السكون وذهبت إلى ما هو أبعد وتتدرج وتنتقل من الارتفاع إلى الانسحاق والملاصقة للأرض، لتتخلص من قيود اللغة وحركاتها.
الشاشة المرافقة في الخلف تحولت إلى لوحة على مدار العرض وكل ما هو موجود وعضوي في الجسد البشري يتحول إلى حركة، وهذه اللوحة والرسوم بخاصة الهدف منها التحليل وليس المباشرة، إذ إنها تجسد شيئاً مهماً من فكرة العرض وتساعدنا في أن نقرأه منقسماً إلى قسمين، قسم أدائي وقسم ثابت تقدمه شخوص اللوحة في الخلف، وتخطيط غير ناقص. تتحرك نيفين بعينين فارغتين وتنطلق من استقصاء الحالات النفسية ووضعيات الجسد، كل وضعية مختلفة عما قبلها. العرض فيه خطوط وتصاميم عدة تبدو وكأنها في رحلة داخل الضباب، وننتقل بعد ذلك إلى الكلام لحظة السكون، حين تثبت وتصمت وتتكلم من خلال نظراتها. فم مغلق ضاغط على نفسه وعينان مفتوحتان، وصفنات طويلة في الناس، وكأنها في وداع أو وجع أو رحلة عتاب. قصص ليست ساكنة بل ولادة أحاسيس.
التركيب اللغوي
في الحركة تعزل كلاس وجهها، في الثبات وجهها هو الذي يتكلم. الحالات النفسية شبيهة بالتركيب اللغوي وتختلف بحسب كل شخص وأدائه، والأداء يقول الأشياء، ينثر الأشياء حركياً. تدخلنا كلاس إلى مساحة خاصة من الارتجال وفيها كثير من التعويل على الأشياء، وليدة اللحظة، الاعوجاجات والانحناءات والالتفاف، تسير مع دربة فائقة لتنطلق وتلعب مع نفسها ومع الموسيقى والمسرح والنفس واللاءات وتداعي الذكريات، والحضور في القاعة الذي له جزء مهم من التأثير على مجريات العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمكن أن نسأل ماذا كان ليحصل لو أن رجلاً هو الذي قدم العرض؟ نيفين جعلت من حركات موسيقى اللغة، موسيقى ما قبل الموسيقى وحركات الخلفية المرقمة جمعت بين عالمي الموسيقى، السمعي والحركي، غناء ورقص في موسيقى واحدة. الرقص العاطفي بدا في البداية غريباً لم نعتد على نوع كهذا من الأغاني لأم كلثوم وصباح وملحم بركات وجورج وسوف وآخرين في عروض مسرحية. أغان فيها من الشجن ما يكفي. تساعدنا الأغاني على أن نطرح سؤال لغتنا التي تزخر بالحزن. تأخد الموسيقى خطاً مختلفاً عن بقية الخطوط، خط يعود بنا للطفولة التي لا تزال مفرداتها حاضرة في يومياتنا وليست حاضرة على الخشبة، وبعد العرض نكتشف محاولة لتوليد موسيقى جديدة. موسيقى ذات إيقاع غير ثابت ومتنقل. العرض ليس بسيطاً، يمشي بين المنطقتين، البساطة وحافة الصعوبة، بحيث أُنجز ليُحس، ونقطة الانطلاق فيه ترتكز على اللغة العربية. العرض الذي امتد وقت اشتغاله على سنتين من خلال البحث والتحليل والكتابة واكتشاف موضوع يُطرح للمرة الأولى كعرض حركي يرتكز إلى اللغة وخصوصاً إلى حركاتها.
في "فصل" لنيفين كلاس لا يمكن الركون إلى بداية أو نهاية، والمشاهد أمام كسر لكل الصور النمطية للمؤدي غير المدروس وغير المفكر فيه من خلال ركيزتين أساسيتين: العفوية والصدق. يغدو الراقص غير مجبر على شيء والقرار له. ببساطة هي رحلة ذهاب إلى حيز أبعد قليلاً من الموسيقى والرقص، حيز يستبطن دعوة للتمسك بالجذور. قصص راقصة تتعاطى مع جمهور مختلف وشريحة معينة ومحاولة لتبسيطه وبسطه في متناول الجميع.